هاشم شفيق يروي التهجير العراقي “بعثياً وإرهابياً”

سلمان زين الدين

«البرج الأحمر» هو عنوان الرواية الأولى للشاعر العراقي هاشم شفيق (دار المدى). وهو اللحظة الفاصلة بين ماضٍ رهيب تهرب منه شخصيات الرواية ومستقبل موعود تحلم به وتتطلّع اليه، على المستوى الزماني. وهو المَعْلَمُ الفاصل بين جحيم العراق وجنّة الغرب الموعودة، على المستوى المكاني، ففي معرض رصده رحلة التهجير / الهجرة القسرية من الوطن إلى المغترب، يقول لويس، الراوي المشارك في الرواية والمنخرط في أحداثها: «… لم نهتم للأمر كثيراً، كوننا على مقربة من الجنة الموعودة والمتمثلة بالبرج ذي الضوء الأحمر الذي نراه ويلوح لنا، فهو المستقبل القادم والمقطوع الصلة مع الماضي…» (ص193). فهل يكون هذا البرج، الواقع في مدينة ألكسندرابولي اليونانية، حدًّا فاصلاً، زمانياً ومكانياً، بين مرحلتين في حركة الشخصيات الروائية أم أن الأمر لا يتعدى كونه هروباً من دلفة العراق الى مزراب الغرب؟
في «البرج الأحمر»، يطرح هاشم شفيق موضوعة التهجير والهجرة من العراق إلى الغرب، سواء بفعل استبداد النظام البعثي السابق أو بفعل إرهاب الجماعات الدينية المتطرفة التي أعقبت سقوطه.
يتخذ الكاتب من اختلاف الراوي العليم إلى صالون حلاقة لويس، الراوي المشارك، في منطقة هانويل غرب لندن، إطاراً خارجياً لسرد الأحداث، ففي جلسات الحلاقة المتكررة في الصالون، يقوم الحلاق لويس بفعل الحكي للزبون الذي يصغي، ويسأل، ويستوضح، ونادراً ما يحاور. وبذلك، نكون أمام راوٍ عليم، في الشكل، هو الزبون الذي ينقل ما يسمع، وراوٍ فعلي للحكاية هو لويس الحلاق الذي يقوم، متّكئاً على ذاكرته، باستعادة حكايات التهجير والهجرة من العراق، وفي صلبها حكايته هو شخصياً التي تشكّل الحكاية الرئيسية في الرواية، وتأتي الحكايات السابقة لحكايته تمهيدًا لها، فيما تشكّل الحكايات اللاحقة بها تنويعاً عليها، مع فارق آخر هو أن الحكايات السابقة هي لضحايا الاستبداد السياسي فيما الحكايات اللاحقة هي لضحايا الإرهاب الديني، ولعل الكاتب أراد القول إن الاستبداد والإرهاب وجهان لعملة واحدة. وعليه، الرواية هي رواية ذكريات قاسية تتم استعادتها في إطار وقائع تتمثّل في جلسات الحكاية المتكرّرة.
في الحكاية الرئيسية، يستعيد لويس نشأته في الموصل، في أسرة أشورية متديّنة، لأبٍ ينتهي متشرّداً هائماً على وجهه، وأمٍّ اجتماعية تحب الجيرة وعمل المعروف، على أن إقامة الأسرة قرب مقام أحد الأنبياء، وممارستها الطقوس الدينية، وتقديمها النذور، يعكس فضاءً روائياً شعبياً يتخذ منحى غرائبياً أسطورياً في بعض الأحداث، ويتناول تعلّمه مهنة الحلاقة في صالون عمّه مكسيم، في شارع حلب، حتى إذا ما بلغ العشرين من العمر، يتمّ استدعاؤه إلى الخدمة العسكرية، فيتعامل برفق مع الجنود ما يؤدي إلى إنزال رتبته، وفراره من الخدمة، وتواريه عن الأنظار، وقيامه بتزوير بطاقات للفارين من الخدمة. وحين يُقبَض عليه يُسام ألوان العذاب، ويُحكم عليه بالإعدام، ثم يُخفّف الحكم إلى المؤبّد، حتى إذا ما اقتيد إلى وداع أهله قبل تنفيذ الحكم يفرّ، ويُقيّض له من يهرّبه خارج العراق، عبر تركيا، فاليونان، وصولاً إلى لندن. خلال هربه، يحسّ بالتحرّر من رعب النظام لكنّه يعاني مشاقّ الطريق، والسير ليلاً في غابات موحشة، والتواري نهاراً، والجوع، والعطش، والإرهاق الجسدي، والحرارة المرتفعة. ويشكّل البرج الأحمر في هذه الهجرة القسرية حداً فاصلاً بين ماضٍ عراقي حافل بالرعب، ومستقبل غربي يوفّر العمل والاستقرار.
هذه الحكاية تتقاطع مع حكايات أخرى فرعية يرويها لويس لزبونه، الراوي العليم الشكلي، وتتكامل الحكاية لترسم مشهداً روائياً يعكس الواقع العراقي خلال حكم النظام البعثي السابق، وما تلى سقوطه من سيطرة الجماعات المتشدّدة وتحكّمها بمصائر الناس، وتتوزّع مفردات هذا المشهد على استبداد النظام، من جهة، وإرهاب الجماعات المتشدّدة، من جهة ثانية، وكلاهما تمخّض عنه تهجير العراقيين، وهجراتهم القسرية، بحثاً عن حياة آمنة كريمة، يعثر بعضهم عليها، ويعود بعضهم الآخر من الغنيمة بالإياب.
مكسيم، عم لويس وحلاّق الرئيس، يتمّ القبض عليه والتنكيل به لتسبّبه بجرح طفيف في رقبة الرئيس، لا يتحمّل هو مسؤوليّته، خلال الحلاقة، ما يتسبّب في نقص وزنه وهرّ شعره، فيفرّ إلى خارج العراق بمساعدة بعض المهرّبين، لتحطّ به الرحال في كاليفورنيا، فالفيليبّين، ثم يعود إلى أميركا خاوي الوفاض ليعمل حلاّقاً من جديد، حتى إذا ما جمع بعض المال، يقصد صحراء موهابي، ويشتري هضبة يؤجّرها للمنتجين السينمائيين والشركات الكبرى، ثم ما يلبث أن يبيعها ليسدّد ديونه الناجمة عن المقامرة، ويموت بجلطة، ويدفن فيها.
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الكاتب يؤسطر هذه الشخصية، على لسان الراوي لويس، الذي يذكر روايات متعدّدة حول مكسيم يتبنّى احداها، مع العلم أنّ الأخير هو عمّه، ثم يفاجئنا في مرحلة لاحقة بتفاصيل عن مسار هذه الشخصية ومصيرها، فإذا كان لا يعرف الرواية الدقيقة للشخصية عندما كانت قريبة العهد والمقام منه، فكيف يتسنّى له رصد دقائق تحرّكاتها بعد أن غدت في العالم البعيد؟ وثمة ألفريد، الجندي الذي كان يخدم في الحرس الجمهوري، يُلقى القبض عليه بسبب صداقته لمكسيم، ويُعذّب، ويخرج مصابًا بداء الكلب وبمرض نفسي. هنا، تتشابه حكايات لويس ومكسيم وألفريد في كونهم جميعًا جنودًا في القصر يُقبَض عليهم، ويُعذّبون، وتتفرّق بهم السبل، ما يكشف الريبة الدائمة التي تعيش في ظلّها أنظمة الاستبداد، والشك بجميع الناس، وعيش رهاب المؤامرة، فالرئيس يحلق تحت حراسة مشدّدة، ويتحرّك بمواكبة دائمة من حرّاسه.
أمّا الشخصيّات التي تفرّ من بطش الجماعات المتشدّدة فتشغل، في الرواية، حيّزاً ضئيلاً، مقارنةً بتلك التي تفرّ من بطش النظام، وهي تفعل ذلك بسبب التضييق التي مارسته تلك الجماعات على الغناء والموسيقى والخمر والحلاقة والحرية…
الشخصية الوحيدة التي تغادر العراق لسبب مختلف عن الأسباب السابقة، وتشغل حكايتها حيّزاً يوازي الحيّز الذي تشغله حكاية لويس، هي شخصية طارق، فهذا الأخير، ابن مكسيم من علاقة عابرة مع فتاة كلدانية اسمها ناريمان الحداد، يباشر، منذ صباه، رحلة البحث عن أبيه الذي لا يعرف بوجوده أصلاً، فيسافر إلى اليونان، ومنها إلى إيطاليا، فأميركا، متقصِّياً حركة الأب، إلى أن يهتدي إلى قبره على الهضبة التي اشتراها وباعها في صحراء موهابي، ولا تخلو رحلته من أجواء سندبادية غرائبية حين تغرق السفينة التي تقلّه إلى إيطاليا، وتقذفه الأمواج إلى جزيرة عذراء، يعيش عليها مما يصطاده ويلتقطه، حتى لقائه بعالِمَي أحياء يتدبّران أمر سفره إلى أميركا. وحين يعود إلى العراق ليصطحب أمّه إلى الخارج يودي بهما انفجاران متتاليان. وهكذا، توزّع الرواية القَدَرَ العراقي على: الاستبداد، والإرهاب، والتهجير، والهجرة، والقتل…
إلى ذلك، ثمة هناتٌ معيّنةٌ تعتور الرواية، سواءٌ في بناء بعض الشخصيات أو في تسلسل الأحداث، فطارق الذي لم يتعرّف إلى أبيه مطلقاً يبذل تضحيات كبيرة في سبيل العثور عليه، هو الذي يُفترَض به أن يكون ناقماً عليه لتخلّيه عن أمّه، وهو الذي كان يعيش نوعاً من الاستهتار واللامبالاة، قبل مباشرة البحث عن الأب. ثم إن العلاقة بين الأحداث كثيراً ما تخضع للمصادفات القَدَرِيّة غير المقنعة والمفتعلة، فطارق الذي يبحث في أميركا يصل إلى مبتغاه بسهولة، ويا لها من مصادفة أن ينزل في أوتيل في موهابي، ويجد على بعد أمتار ساقي الحانة الذي يعرف كلّ شيء عن الأب!
تضيء «البرج الأحمر» جانباً من معاناة العراقيين، بأقليّاتهم وأكثريّتهم، من الاستبداد السياسي والإرهاب الديني، في هذه اللحظة التاريخية، وتشكّل وثيقة فنّية على مرحلة تاريخية لعلّها الأصعب في التاريخ العربي، وهي تفعل ذلك بسلاسة ومرونة وطلاوة سردية ولغة جميلة، ما يجعلها جديرة بالقراءة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here