مداسُ الابْ ودروس بوذا

نعيم عبد مهلهل

 تفتخر دول جنوب شرق اسيا ، بأن متغيرات الانظمة الاجتماعية والسياسية التي مرت عليها حتى الشيوعية منها كما حصل في الصيتن ولاوس وفيتنام  ، ابقت بوذا هو بوذا لم يتغير ولم يتشظى في الفقه والتفسير والممارسة ، وربما بفضل ايمان الكاهن الاول بضرورة اشاعة الحب والسلام والخير بواسطة اكتشاف المزيد من الضوء في ارواحنا ،ابقى على تلك الديانة لتعتمد على التمرين وتفاعلاته بين تلك الارواح وبين ما تتخيله انه بعيد وينبغي علينا الوصول اليها اينما تكون هي ونكون نحن ، والذي يقرأ في البوذية سيكون عليه ان يكتشف المقارنات الحسية بين معتقده التوحيدي ذي الاتجاهات الثلاثة ( المسلم والمسيحي واليهودي ) وبين تلك الخواطر الكونية الاولى التي سكنت الكاهن الاصلع ذو الرداء البرتقالي الذي اتخذ من مضغ ورقة الشاي طريقا للبقاء يقظا كل الليل وليسمح بضوء القمر ليستعمر كل مساخات جسده ويردم فيها الهوة المظلمة التي كانت تحفز في البشر صناعة الموت والحروق وشهوات الغزو والتملك والثراء على حساب المستضعفين والفقراء وبين رغبة الكثيرين بالتحرر من ضغوطات الواقع على كافة المستويات .

لقد خلف لنا بوذا دروسا عميقة وتأملية في تحرر الذات ، ولهذا من اعتبره انه ايماني وعقلاني حاول كثيرا عدم الاشارة اليه ، والبعض قالوا ان الرؤيا البوذية لاترتكن ذات الهية ورسالات اتت الينا بوحي النبوات من ادم فصعودا . ولكي يبعدوا الناس عنها ، ذكروهم بصورة غير مباشرة ان الصوفية في حقيقتها الخفيفة هي من بعض التأثر بتلك الممارساة الصينية والهندية القديمة ، فنصح الولاة والخلفاء من قبل العلماء بأعتبار الصوفي المجاهر برؤياه واحساسه ورغبته مرتد وزنديق وعلينا صلبه . وبالفعل تم هذا على اكثر من صوفي وأولهم الحلاج.

منذ اول شبابي انتبهت الى بوذا كمحفز لتحرير مافي اعماقي من طاقةٍ كتابية ، وقد تأثرت بصورته ومسلكه كهاجس ثقافي وليس كهاجس ديني وهو ما يخيرك فيه بوذا ولايجبرك ، وكنا حين نذهب الى واحد من الافلام الهندية في بواكير شبابنا نحرص على الاتيان بورقة وقلم لكتابة مقاطع  الاغاني وونصائح الكهنة من افواه المنشدين والممثلين ،وكانت تلك العبارات التي نعتمد فيها على ضمير المترجم تقودنا الى تكوين رؤيا مقترحة لكتابة قصيدة الشعر ،واغلب هذا الشعر كان عاطفيا ورومانسيا

كانت دروس بوذا وللطرافة والغرابة مرافقة لدروس مَداس الاب ( النعال )

والمداسُ الذي كان يرتديه ابائنا على شكل نعل ثقيل من الجلد الناشف ، كان من بعض ادوات التأديب في طفولتنا ، وبين موسيقاه على ظهورنا وبين موسيقى الاغنية الهندية تناغم غريب بين سماحة بوذا في نشر هاجس المحبة من اجل الوصول الى شيء ،وبين قلب الاب وهو ينبض حنانا حتى عندما يضربنا بمداسه وهو لايعلم ان ياقوت الحموي سادن الكتابة التاريخية والادبية والحكائية في بعض عصورنا العربية قد خص المداس بحكاية ورجل ليحوله  من مداس مهترئ وثقيل ومقاسه لايصلح سوى لاقدام الفقراء والمعدومين فقط وعرفه لنا في كتبه قوله : كان في بغداد رجل أسمه أبو القاسم الطنبوري، وكان له مداس، وهو يلبسه سبع سنين، وكان كلما تقطع منه موضع جعل مكانة رقعة إلى أن صار في غاية الثقل، وصار الناس يضربون به المثل..

اباؤنا في فقرهم ايضا بسبب العوز كان يصلحون مدسهم بأنفسهم ، وكنا نراقب تلك المُدس ، بهاجسين هما الرحمة والغضب ،فمن يرحمه يتذكر تلك الكلمة المدورة كما قرص الرغيف والدمعة والحيرة ويسمونها ( الفقر ) ، وحين يرتبط الفقر بالمداس يكون لدورسه طعم التذكر أن مداس الاب كما عبارة اللغة المكتسبة لابد أن تمنحك تعبيرا آخر لشيء جديد ، اما الغضب اتجاه المداس فبعضهم كان يراه اشد قسوة من عصا المعلم التأدبية وان الضرب بالمداس يحبط الكثير من الامال وقد يعتبر نوعا من العقوبات الاذلالية حيث يفضل البعض ان يضرب بالكف والعصا الغليضة ولايضرب بالمداس ،وكان البعض عندما يروه اصدقائه وقد رسم المداس على ظهره او يديه خرائطه يكون مصدر ضحك واستهزاء من قبلهم.

وربما واحدة من الشتائم القديمة اتجاه من نكرههم ونبغضهم قولنا :المداس أبن المداس ، واذا كان جمعاً قيل لهم : يا أبناء وأحفاد المُدسْ …

بين دروس بوذا والمداس عالم من فنتازيا السنين ، عبرت بنا ، وعبرنا بها ، وليس لك ايها الانسان سوى أن تجمع العبارتين في رؤيتين لهاجس فيك ، فأما أن تمضي مع الضوء وكاهنه وتتحرر من القلق الحضاري لتتخلص من امراض روحية كثيرة ومنها النفاق والكذب والمؤاربة واللصوصية والغش والخيانة والتجسس والعمالة والذيلية ، وأما أن تخضع الى لذة الذكريات في دروس مداس الاب الذي كان في طرائقه ومبرراته يقودكَ الى نفس الرؤيا التي يقودك فيها بوذا ، ولكن الرؤية البوذية تمتلك فقها وأدبا وتراثا وقاموسا ،فيما مداس الاب لايحمل سوى الحرص والطيبة ودمعة العوز.

 قد يبدو المقارنة  بين بوذا والمداس غريبا  ، ولكن مادفعني لغوض في تجربة القرين بين الكاهن وما كان ينتعله اباؤنا خفاظا على كرامة اقدامهم في مطبات طرق الحياة هو  اني مرة سمعت كاهناً بوذيا في معبد هندي في مدينة حيدر اياد قوله : ان بوذا كان يذهب الى حافة النهر حافيا ليتامل حركة الموج ويتعلم من سيره الذهاب الى البعيد الذي لاقرار له ، ولكن متى كان تأمله في عمق الغابة كان يرتدي مداسا ولكن ليس مصنوعا من الجلد الجاف والصلد بل مصنوعا من ريش العصافير ..

وحتما سنجد الفرق الشاسع بين مداس من الجلد ومداس من الريش..! 

 


من: naim naime <[email protected]>
‏‏تم الإرسال: 11/شعبان/1438 07:50 م
إلى: Sotaliraq Com
‏‏الموضوع: رد: من نعيم مع التحيات


الهوية والمتغيرات في المنظور الامريكي

 

نعيم عبد مهلهل

 

مرة قال الشاعر النازي عزرا باوند: (أمريكا هي بندقية موجهة على شاخص غير مرئي.)

ولأن باوند المتمكن من سبك القصيدة، كان يغضب كثيرا من  خرائط روزفلت ونواظير أيزنهاور، راح يرى أمريكا كما يراها عدوها. وقد دفع ثمن عدم تقدير الأمور اتجاه ميل حسب أنه الأنحراف الأخلاقي وليس الحضاري من رجل كان له الفضل أن يكون الصانع الأمهر ويعدل في بناء واحدة من أشهر قصائد القرن العشرين، وهي قصيدة (الأرض الخراب) لتوماس ستينزر أليوت.

وكان ذلك رأي بعض المثقفين :أن باوند لم يعرف ذاكرة البلد الذي سيصبح بعد حين سيد العالم بدون منازع، ولو كان باوند حياً الآن لشاهدَ خطأ عبارته أعلاه، فأمريكا توجه بندقيتها صوب شاخص مرئي، أي أنها تعرف الى أين تذهب، وفي اختيارها للسيد ميخائيل غورباتشوف الرئيس السوفيتي السابق مثالا على ذلك عندما بدأ إزالة تماثيل جده الروحي لينين من ساحات موسكو الرئيسية، حالما أعلنت إحدى مجلات الموضة الأمريكية أنها اختارته ليكون أكثر رؤساء العالم أناقة، وكان معه في المنافسة الرئيس العراقي السابق صدام حسين لكن الأكمام الطويلة لبدلات صدام قللت من نقاط المفاضلة ففاز الدب الروسي. وكانت هدية اللقب الصابونة التي تزحلق تحتها غورباتشوف، ومعه تزحلقت دولة عظيمة تدعى الاتحاد السوفيتي.

وبالرغم من هذا أبدت أمريكا أن هذا الأمر لا يعنيها وأنه شأن داخلي يهم الروس أنفسهم، وأهم منه هو اطفاء جمرة سيكار الرئيس الكوبي فيدل كاسترو. وقد تستطيع أن تفعل ذلك بأقل من دقيقة لكنها أخذت بنصيحة رئيسها الذي اغتيل برصاص مسدس الرئيس جون كيندي والقائلة: ينبغي أن يكون لك جار شيوعي ضعيف تتسلى بتصريحاته. بالرغم من أن كاسترو لم يكن مسليا ، إذ أثبت لأمريكا أنه (عظمة في الحلق) لكنها أدارت له قفاها، وامتنعت حتى عن منحهُ بدل ايجار عن اشغال معسكر غوانتنامو الذي تحتجز فيه رجال القاعدة والطلبان الذين التقطتهم من كهوف تورو بورو بعد أن أفرغت هذه الكهوف من الهواء بقنابل متطورة.

أذن أمريكا تشتغل بعقل مفتوح مثل هوة كونية لا تقف عند حدود الاهتمام بدولة صغيرة مثل كوبا مساحتها بقدر مساحة حقل التجارب النووية في صحراء نيفادا؛ أنها تطبق ما قاله الرئيس لينكلن: أفكر أولا بالذهاب الى ما وراء المحيط.

لكن هذا الذهاب لم يتحقق إلا بعد عقود، ليكون القرن العشرين قرنا أمريكيا صرفا، ولتبدأ رؤى الروح الأمريكية تستخدم تعويذة الهنود الحمر (طحن الجماجم) وتقديمها مادة غذائية للشعوب التي تود مغازلة ثرواتها. ويمكن فهم التفكير الأمريكي من خلال المادة الثقافية لمحاضرات أساتذة هارفرد لا من خلال تصريحات ساستها؛ لأن الفكرة الأمريكية هي وليدة النشوء الجديد للروح الحضارية المنفتحة على حداثة التكوين لذاكرة الإنسان الجديد، وأطروحة صامويل همنجتون صاحب الكتاب الشهير (صدام الحضارات) والقائلة: أن الفردوس الأمريكي، وان ارتدى البدلة المرقطة، فهو أجمل فردوس.

ومع همنجتون سعى أباطرة الوعي التوراتي الجديد الى عقد محالفة الود بين الفكرة الإنجيلية والفكرة المختارة. وكان ذلك يتطلب شجاعة فائقة لتقول أمريكا: أن رهانها هو أن تكون أورشليم العالم الجديد، وأن انعكاسات التأثر الحضاري لأي أمة مهما أوغلت في القدم، انما هو استلاب تضعه في الواجهات الزجاجية لمتحف المترو بولس؛ لأن الرؤى الجديدة تم استنباطها من خلال عدة خيارات. وقبل أن يعلن لينين دولة البلاشفة وضحت الصورة وعرف مثقفو أمريكا وأساتذة جامعاتها، ماذا يفعلون بعد مائة عام؟ وحدث الذي حدث. فكان على العالم أن يأكل الطعم، ليس خداعا من أمريكا، بل أن تراث بعض الأمم، وبقصدية عجيبة من الولاة وكتبة الدواوين، ظل يراوح في مكانه، ما دفع بأهل الدار للذهاب بعيدا خارج المحمية، حيث نقل التلفاز المكتشف حديثا صورة لجمهرة من مواطني تكساس يرمون رئيس جمهوريتهم بالبيض الفاسد. وبالرغم من أن أمريكا خرجت من حرب الاستقلال ضد إنكلترا، وحربها الداخلية بين الشمال والجنوب، إلا أنها أظهرت للعالم تماسكا في كيانها القومي، وبدت وكأنها حضارة موغلة في القدم من خلال ذكاء أولئك الذين راهنوا على قدرة مزاوجة أنجيلية الفكرة بعقل التوراة. وكانوا ينحتون بصبر في صخر الأزمنة ليصنعوا واحدة من أحدث حضارات القرن العشرين، مستفيدين من احترام وإيواء ما كان الجهر به مصيره في الشرق السجون والمشانق، حدا جعل الكاتب المصري مصطفى أمين يقول، وهو يتشفى بالجلطة القلبية التي داهمت الرئيس عبد الناصر في المطار وهو يودع أمير الكويت في مؤتمر القمة العربي المعقود في القاهرة ومات على أثرها: (إن عبد الناصر لو كان يفكر مثلما يفكر الرئيس الأمريكي جونسون لجعل من مدينة القاهرة أجمل من باريس ألف مرة).

ولا أدري لماذا أختار أمين باريس مثالا، ولم يختر نيويورك مثلا. لذلك أظهرت بنود الحرية للرئيس ولسن شيئا من هذا التفكير المقصود بعد أن رفع العالم قبعة الاحترام لأدباء كبار مثل جون ريد وفوكنر ومارغريت ميتشل صاحبة رواية (ذهب مع الريح).

أن هذه البلاد لم تكن تمتلك عصورا ذهبية كما في بريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ لأنها تعيش في القريب، ولكنها مثلت مأوى للكثيرين من الذين سأموا حتى ديمقراطيات بلادهم، حتى صار الشك أن أمريكا تشتري مبدعي العالم بأي ثمن؛ ولذلك تشرفت بمنح جنسيتها لأثنين من حملة جائزة نوبل في الشعر، الإنكليزي توماس أستنزر أليوت، والفرنسي سان جون بيرس. وتعبير فرجينا وولف الرومانسي عن الشوق الأمريكي يكاد يكون أصدق تعبير، عندما قالت: (وددت أن أكون أمريكية لأخلع ثيابي على ضفاف البحيرة بحرّيتي). وفي اجتماع يالطا في الحرب الكونية الثانية رد تشرشل على المجاملات الزائدة للرئيس ترومان: أنك أيها الرئيس تفكر بمنحي الجنسية الأمريكية؟ رد عليه ترومان: ونحن ساعون الى ذلك بجدية.

أذن أمريكا هي أمريكا بعد وقبل سبتمبر، أن المتغير الكوني الذي أحدثه التفجير ساعد في تفعيل النظرية الأمريكية وديمومتها، بل وطورها الى خدمة ما كانت الولايات المتحدة تتمنى أن تكون، وكأنها جعلت من الضحايا الثلاثة آلاف قربانا لترسيخ فكرة المهيمن التي تريد أمريكا تسويقها للعالم وفق منظور تحدده طبيعة ذات فهم مغلق، أي أنك لا تعرف مصدرها ، فالقرار الأمريكي ليس قرارا برلمانيا بالرغم من وجود مجلس الشيوخ والكونغرس، انما هناك من هو قابع خلف الكواليس ويؤشر بيديه مثلما فعل راسبوتين مع القيصر. واذا كان راسبوتين قد نال عقابه لأنه متهور ويتحرك بثمالته ودعارته بين غرف قصور الكرملين، إلا أن راسبوتين الأمريكي غير منظور ولكنك تحسه موجودا. ولو تتبعت أفلام هوليود التي تتحدث سيناريوهاتها عن مشكلة ما في البيت الأبيض لانتبهت الى هذا الراسبوتين يرتدي عدة أقنعة، من مستشار الرئيس الى رئيس طهاة البيت الأبيض.

أذن أمريكا بفهمها الغامض والذي تعممه بالطريقة التي تختارها على أي مكان في العالم، تريد أن تجعل الهيمنة فعلا مستحدثا نضجت حلاوته في فرن الشكولاته، وصار على الجميع تذوقها: لذيذة كانت أم رديئة. المهم أنها تسوق وتصبح مقبولة. والاعتراضات التي يبديها الساسة، أو المثقفون، أو السلفيون، لا توقف رغبة أمريكا؛ لأنها تعلمت من بريطانيا التي تهكيل وجودها بأصابع أمريكية تعلمت مبدأ: لا تلدغ الأفعى في حجرها مرتين.

هذا الغموض هو من يجعل حمى التسابق لكسب الكرسي الرئاسي مشتعلة حتى آخر لحظة. وحين تعجز مايكروسوفت عن حساب الأصوات، يلجأ الى الطريقة البدائية (العد اليدوي).

ولأنها عاشت في هكذا شكل حضاري ينزح الى خلق الصخب والسيناريوهات الغامضة ونتيجة اللحظة الأخيرة، يعيش الأمريكي بهاجسه المتقلب، ويحاول أن يقترب من فكرة السوبرمانية التي خلقها الظرف الحضاري الذي لا حساب له في أقدار الإمبراطوريات سوى أنه وليد الضعف الأممي الذي أصاب دول الأرض الأخرى بعد الحرب الكونية الثانية. ولأن الأمريكا مهمة من أجل حصر التقنية الجيدة التي ولدت في ذاكرة آينشتاين؛ عندما استقطبوا وسرقوا جميع العقول الفيزيائية في العالم ووظفوها في صناعة القنبلة الذرية التي حسمت الحرب بعد مأساتي هيروشيما ونيكازاكي. ومنذ تلك اللحظة مشت أمريكا على خارطة العالم بجزمة من حديد. وأخذت تفكر بطريقتها الخاصة في خدمة اللوبي الذي يتحكم في سير عجلة الحياة، ويحدد استراتيجيات الأمة، ويكتب خطابات الرئيس، ويصنع الساسة والمستشارين.

إن أمريكا اليوم هي عقل الأرض الهائل شئنا أم أبينا، ولكن الرضوخ إليه لا يمنح أي وطن أو أمة شرفاً وجودياً؛ لأنها حين تمنح تأخذ في المقابل، لهذا ولد الرفض وولد التطرف وولدت المقاومة. ولهذا تظل أمريكا تفكر كما رأى همنجتون: الأسباب تخلق المسبب وتسوغ خطوتنا في الذهاب الى أي مكان نريده.

وهذا وعي شمولي مقاد بفكرة صارمة تتعرض الى كثير من الإشكاليات والرفض، وربما أحداث منهاتن منها، وما يفكر فيه مجلس الشيوخ اليوم إزاء الخارطة المذهبية والقومية في العراق. ويبدو ان صراع اصحاب القرار قائم داخل المنظومة الفيدرالية بدا أنهم يحترمون فكرة الصراع بينهم، وأن حربهم المعلنة والخفية لا تمتلك ساحة واحدة؛ فيوم في قندهار وآخر في بغداد، في كوناكريول، عدن، الخبر، نيويورك.. طور سيناء، أي مكان في العالم هي حرب سجال. اتكأت عليها امريكا لتذهب أينما تريد وكأنها أخذت في الحسبان فكرة (نعوم جوميسكي): ذاكرتنا تحب المشاكسة كي تكشف علاقتها بالآخر وتتصرف في ضوء ذلك. تلك المشاكسة التي استخدمت مع العراق وليبيا وأثمرت. ازيح عن بغداد ورقة التوت وسقطت رئيس القذافي سلم كل مخزونه من اسلحة الدمار الشامل ثم سحب من مجارير المياه ليقتل، وتم تعويض كل ضحايا الانفجارات التي اتهمت بها ليبيا حتى تلك التي لا علاقة لها فيها.

تلك هي ذاكرة أمريكا، ذاكرة مفتوحة الى ما لا نهاية: قدرية عجيبة، لا ينفذ صبرها، ولا ترتدع عن قصف أب بيت لشعورها ان ثمة ظلا لإرهابي فيه، موجودا أو غير موجود.. وفي الحالتين يقول الرئيس بوش من على إحدى حاملات الطائرات موجها كلامه لإرهابيي القاعدة: هي حرب تتنوع، ولو بمقدورنا ان نختار الوقت والمكان لفعلناها الآن، ولكنهم ارادوها على طول الأرض وعرضها وقد قبلناها.

هذا القبول كلف الكثير من الأوطان انتهاكات لساساتها، وسقوط أصنامها الحاكمة أيضا. ومهما اتخذت قرارات جديدة وتم التغاضي عنها لحين فإن خارطة العالم لن تتغير، الذي سيتغير

فقط ربطة العنق التي يلبسها الرئيس الجديد في حفل التنصيب.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here