طروحة ابستمولوجية علمانية

ينطلق بعض العلمانيين من منطقة خاطئة للتحقق من مستوى حاجة المعرفة العملية للمعرفة الدينية ، إذ يفترضون ان المعرفة الدينية تشترط معرفة الله في مقاصده وافعاله وطبيعته كقبلية معرفية من الضرورة ان تسبق حركة الانسان القاصر بطبيعته لتأسيس مبانيه الدنيوية . وهم لم يكونوا مخطئين لأسباب مستجدة ، بل لأنهم أسسوا لكون المعرفة الدينية الضرورية منطقياً او ابستامياً ما هي الا المعرفة النظرية الانطولوجية البحتة بالله . وهي تأسيسات واهمة ، لان المعرفة الدينية لا تقدم لله الغني شيئاً ، لكنها ضرورية من حيث الانسان لرفع جهالته بأبعاد محيطه الصغير او الكبير ، من خلال حكيم خبير .

ان الإشكال الأكبر الذي يطرحه بعض العلمانيين العرب يتمثل بقولهم ( اذا كانت المعرفة الدينية – وهي عنده مرتبطة بالله بصورة انطولوجية – ضرورية منطقياً ، فاشتقاق المعرفة العملية – التي هي جائزة منطقياً – امر غير ممكن منطقياً ، لان ” الضرورة المنطقية صفة وراثية ” بمعنى ان الضرورة يجب ان تسري الى الجائز ، وهذا قطعاً يجعله ضرورياً ، وهو امر غير ممكن )[1] .

ان هذا الإشكال باطل منطقياً ايضاً ، وباطل انطولوجياً ، فمن حيث المنطق اذا كانت المقدمات تقول ان كل موجود من مادة وفعل قد وجد بالله ، وان الله ضروري الوجود كما افعاله وصفاته ، وان الموجودات غير ضرورية منطقياً ، اذن تكون النتيجة المنطقية ان ( غير الضروري ) مشتق من ( الضروري ) . اما انطولوجياً فهو هو ذات الاستدلال المنطقي لكن يصلح هنا أيضًا ، إذ كل الوجود ( الإمكاني ) مشتق من ( واجب الوجود ) . من ثم لا تصلح استدلالات هؤلاء لإيجاد موانع منطقية بين المعرفة العملية والمعرفة الدينية ، الا اذا انكروا وجود الله ، او انكروا وجودنا .

وبالتالي هم ملزمون بالانتقال لمحور اخر يتمثل بالسؤال ( هل العلاقة بين المعرفتين الدينية والعملية ضرورية ؟ ) . إذ وقعوا في الوهم خلال الاستدلال على العلاقة بين صدق المقدمات المنطقية وصدق النتيجة عندما رأوا إمكانية وجود مقدمة كاذبة مع نتيجة صادقة ، وقد ضرب بعضهم مثالاً لهذه الفرضية بالشكل التالي ( كل سعدان كائن عاقل ، كل إنسان سعدان ، والنتيجة كل إنسان كائن عاقل )[2] ، وهذا المثال فاسد ، لان المقدمتين ليستا مرتبطتين بالنتيجة ، لا انهما كاذبتان فقط . فالقضية المنطقية التي اذا كانت مقدمتها صادقة تعطي نتيجة صادقة ، وكذلك التي تكون مقدمتها كاذبة تعطي نتيجة كاذبة ، هي التي يكون للمقدمة والنتيجة فيها علاقة موضوعية . فاذا قلنا مثلاً ان كل معدن يتمدد بالحرارة ، والحديد معدن ، اذن الحديد يتمدد بالحرارة ، نرى انه بصدق المقدمتين صدقت النتيجة دائما . اما اذا قلنا ان كل معدن يتمدد بالحرارة ، والوهم معدن ، اذن الوهم يتمدد بالحرارة ، كانت النتيجة كاذبة دائما . لماذا لان هناك مشترك موضوعي دائم بين المقدمة والنتيجة . بمعنى ان هناك شرطاً لتكون القضية منطقية ، سواءً كانت صادقة او كاذبة ، هو الاتحاد بين الموضوع والمحمول من جهة ، إذ لا يصح الحمل بين المتباينين إذ لا اتحاد بينهما ، ولا يصح حمل الشيء على نفسه ، إذ الشيء لا يغاير نفسه[3] .

وليس الاتحاد لفظي عشوائي ، بل معنوي مفهومي . وفي مثال الحرارة والحديد كانت هناك علاقة مفهومية بين المعدن والتمدد ، فيما في مثال أولئك العلمانيين كانت العلاقات غير متحدة ، إذ هناك علاقتان : الأولى بين الإنسانية والعقل ، والأخرى بين البهيمية والعقل . ففي القضايا المنطقية قد يختلف الموضوع او المحمول لكن تبقى العلاقة المفهومية ثابتة ، ليرتكز العقل الى معنى فكري ، غير ان غياب او تعدد العلاقة المفهومية مع تعدد الموضوع والمحمول يحيل الكلام الى قضية لا منطقية ، أي لا فكرة فيها .

ان انطلاق أولئك من المقدمتين الخاطئتين القائلتين بان المعرفة الدينية مرتبطة دائماً بواجب الوجود وان المعرفة العملية إمكانية تعطيانه نتيجة خاطئة دائماً هي استحالة اشتقاق المعرفة العملية من المعرفة الدينية ، لان المعرفة الدينية – وان كانت تتمحور حول الله باعتباره الوجود الحقيقي – الا انها تتعامل مع خرائط وماهيات إمكانية دائماً ، بل ان مقتضى نزول الشرائع من الواجب الى الممكن هو وجود علاقة حتمية بين العالمين . فمنطقياً ان الخالق المطلق لو لم يرَ هذه العلاقة ضرورية – من حيث الانسان – لما انزل الشرائع ، فهو لا يعبث ، وحاشاه .

اما من حيث السؤال الثاني – وهو سؤال عملي يستفيد من التجريبية – هل ان المعرفة الدينية ضرورية العلاقة بالمعرفة العملية ؟ فالجواب يكون من جهتين : الأولى من حيث الكينونة ، بمعنى ان المعرفة العملية هل تولد في رحم المعرفة الدينية ؟ وبمقتضى السياق التاريخي ( نعم ) ، الا اذا قلنا ان ولادة المعرفة البشرية في مهد الحضارات التوحيدية الكبرى – كالعراق الابراهيمي واليونان الارسطية والافلاطونية والبلدان المسلمة في عصر الدولة الإسلامية وأوروبا بعد المسيحية – كانت صدفة ، او قلنا ان الغالبية العظمى من رجالات الحركة العلمية البشرية كانوا موحدين او لاهوتيين بمعنى من المعاني كانت صدفة ايضاً ، وان تأسيس الجامعات والمدارس الأكاديمية عُرف في هذه البقاع وعلى يد الرجال ذاتهم كانت صدفة أخرى . نعم ، جميع ذلك لا يمنع ان تكون المدارس العلمية الوضعية قد نمت في كثير من الأحيان الى جانب هذه المدارس اللاهوتية ، الا انها نشأت نتيجة العقل الجدلي والعلمي الذي أوجدته المدارس الدينية ، كما مثاله الواضح في الجامعات التي أنشأتها الكنيسة وأسست لعصر النهضة الأوروبية .

من جهة ثانية ، حتى اذا تنزلنا وافترضنا جدلاً ان المعرفة العملية ممكنة وضعياً ومستقلة في ظهورها ، فهي بحاجة الى سقف معياري ديني لا شك ، والا كانت وسيلة دمار شامل في ظل صراع الانانيات البشرية .

وقد يجيب البعض ان هذه المعيارية الضابطة من الممكن ان تكون مستقلة عن المعرفة الدينية هي ايضاً ، وجوابه ان هذه الامكانية غير منطقية ، لأنها ستكون حينئذ ناشئة عن ذات الجزئيات المراد ضبطها ، فكيف تكون حاكمة عليها ، اذا قلنا بإمكانية توفر هكذا معيارية غير ناقصة ابستامياً من الأصل .

وفي سلسلة اخطائهم المتكررة والمتسببة لهم بمشكلة مفهومية يجد أولئك ان المعرفة العلمية تتبع منهجاً نسقياً قائماً على الاستنباط ، الامر الذي يمنعها من الاتساق مع المعرفة الدينية ذات النظرة الكلية .

ان هذه الرؤية باطلة لاعتبارين : الأول ان المعرفة الدينية لا تمنع من الاستنباط باعتباره وسيلة عقلية تقرّب الانسان من المعرفة الكلية ، لكنّ المعرفة الدينية توفّر الأطر الكليانية للمعرفة العلمية ، كما في قوله تعالى ( وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون )[4] ، وقوله عز وجل ( ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون )[5] .

وقد تكون المعرفة الدينية تضمنت فعلياً مجمل المعرفة العلمية ، لكنّ الاقصاء المتعمد لترجمان النصوص الدينية المتمثل بالأوصياء عليهم السلام منع من تفعيل ما جاءت به المعرفة الدينية ، كما في قول علي بن ابي طالب عليه السلام لكميل بن زياد النخعي ( ها هنا لعلماً جمّاً – وأشار بيده الى صدره )[6] ، ومقتضى إقرار عالم مثل جابر بن حيان انه اخذ عن ( سادات ) كما في رسائله ، وبمقتضى ان لدى هؤلاء السادات من الاوصياء جواباً لكل سؤال ، عن المفضل بن عمر عن ابي عبد الله عليه السلام ( وانّا ورثنا محمداً وان عندنا علم التوراة والانجيل والزبور وتبيان ما في الألواح . قال قلت ان هذا لهو العلم . قال ليس هذا هو العلم ، ان العلم الذي يحدث يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة )[7] .

اما قول بعضهم ان وظيفة الدين هي هداية الانسان لمعرفة الله ، فمع تأسيسنا سابقاً ان الله غني عن هذه المعرفة ، وبالتالي هي مثمرة للإنسان وحسب ، وان المعرفة العلمية ترتبط بتفاصيل بشرية بحتة ، فان هذه المعرفة العلمية ذاتها قد تكون باباً مشّائياً للهداية ، كما في قوله تعالى ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق )[8] . فربما وقع هؤلاء – كما الواضح جداً من أطروحاتهم – ان المعرفة الدينية مصدرها الوحيد هو ( الوحي المباشر ) ، الكلاسيكي في الذاكرة البشرية ، بمعنى ان هناك مَلَكاً يتحدث الى نبي ، ورغم أننا لا نعلم حقيقة هؤلاء الملائكة ، فربما معرفة ماهيتهم ترفع هذه الصورة الكلاسيكية عن مصادر المعرفة الدينية[9] ، الا ان المعرفة الأخيرة لها مصادر أخرى ، كما في قوله تعالى ( واوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون )[10] ، وقوله تعالى ( واوحينا الى ام موسى ان ارضعيه فاذا خفتِ عليه فالقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني انّا رادّوه اليكِ وجاعلوه من المرسلين )[11] ، إذ ان الإيحاء الإلهي لا يقتضي شكلاً واحداً للمصدر ، فتكون المعرفة الاستنباطية جزءاً من الوحي وبالتالي المعرفة الدينية ، وكم من واحد من العلماء قادته الصدفة لاكتشاف غيّر من واقع البشر كالبنسلين وفرن المايكروويف والبلاستيك والاشعة السينية . ان هذا هو المعنى المنطقي لاحتواء المصادر الدينية على نصوص علمية سبقت الاكتشافات الحديثة ، لا كما يرى بعضهم ( ان هذه النصوص – حتى وان تضمنت مواداً علمية – فهي لا تعطي معرفة علمية ) ، وهي رؤية – كما هو جلي – غير منطقية .

وبناءً على هذا التأسيس يمكن ردّ أطروحة هؤلاء ان المعرفة العلمية ( الفيزيقية ) لا ترتبط بالمعرفة الدينية ( الميتافيزيقية ) ، لان قضايا الأخيرة دائماً صادقة لا تحتاج الى معرفة الواقع . إذ أننا لا يمكننا اعتبار قضية ما انها ( فوق الفيزيقية = ميتافيزيقية ) دون ان نعرف ما هي القضايا ( الفيزيقية ) .

وبما سبق ايضاً – والاستعانة بالحقيقة التاريخية – يمكننا التأكيد على بطلان ادعاء بعض العلمانيين ( أننا كبشر امكننا انتاج معرفة علمية مستقلة عن النص الديني ، لا سيما في العصر الحديث ) . إذ هم هنا يستعينون بواقع تاريخي استقرائي لتقديم فرض منطقي يتمثل في الامكانية العملية لإنتاج معرفة علمية دون أساس ديني . والحقيقة ان الواقع التاريخي يكشف عن امرين : ان تأسيساتنا المنطقية العقلية كمجموعة بشرية نشأت في رحم المؤسسة الدينية ، وان الغالبية العظمى من واضعي أسس التاريخ العلمي الحديث كانوا من طلبة المعاهد الدينية ككوبرنيكوس وجابر بن حيان ، او وضعوا كتبهم لأسباب لاهوتية كنيوتن .

وهذه الأسس التنظيرية – الممتزجة بالواقع العملي – نافعة لمناقشة الرؤية العلمانية حول الإمكانية المنطقية في اشتقاق معرفة أخلاقية من المعرفة الدينية . فهم – بعد إقرارهم النسبي للإمكانية هنا – يرجعون الى قضية التعارض بين الضروري من المعرفة الدينية واللاضروري من الشق الأخلاقي للمعرفة العملية ، وهو كما عرفنا امر باطل . لكننا نضيف ان هؤلاء يدمجون بين قضايا فلسفية وبين قضايا منطقية ، فيقيسون الضروري المنطقي بقياس الواجب الفلسفي ، كما يقيسون اللاضروري المنطقي بقياس الممكن الفلسفي ، وهو امر فيه خلط .

ان هناك واقعاً يقتضي الاستسلام له – بالاقتضائين المنطقي والفلسفي – هو ان الله أوحى فعلاً لعباده معرفة أخلاقية معيارية ، الا اذا شاء هؤلاء المناقشة في اصل وقوع الوحي ، وهو امر اخر .

الامر الأخير ، ان بعضهم يفترض – كأساس لفكرته ومنطقه – ان الله في أوامره خاضع للعقل . فاذا كان هؤلاء يقصدون به العقل الإنساني تكون القضية الافتراضية باطلة ، لان الواقع الظاهري للعقل – وهنا نستخدم لغة تجريبية للاحتجاج عليهم – يقضي بوجود اختلاف معياري ، وبالتالي تكون القضية ( الله خاضع للعقل + العقل مختلف = الله معياري ) كاذبة . والبديل يكون اما ان الله خاضع لعقل فوقي معياري ، وهنا نرجع الى حاكمية فوق إنسانية ، وبالتالي هي دينية بمعنى من المعاني ، او ان الله لا يخضع للعقل ، فتكون ذات النتيجة .

ولو تنزلنا مع هذا البعض – وهو امر غير ممكن فلسفياً ومنطقياً – ووافقناهم على إشكالهم الذي يقضي باستحالة إيجاد معرفة أخلاقية معيارية مطلقة ، اذا ما تم الانتباه لتفاصيل الحركة البشرية ، فإننا نكون امام قضية استقرائية ، تنتج السؤال التالي : هل توفّر ( العلمانية ) بديلاً اخلاقياً مطلقاً ؟ او على الأقل افضل مما يوفّره ( الدين ) ؟ .

ان الجواب حتماً يستقرأ تفاصيل التجربة الاجتماعية والسياسية البشرية ، في التطبيقين الديني والعلماني ، ونقصد بالدين ما كان الهياً فعلاً ، لا ما حمل عنواناً دينياً حتى على نحو الانقلاب العسكري كالملكية الأموية والعباسية والكنيسة الكاثوليكية في أوروبا . ومن هذه التطبيقات نخرج بحقيقة ان الأنبياء وحواريهم تمتعوا بمستوى عالٍ من الاخلاق العملية الفردية والمؤسساتية ، وانهم وحدهم من نقلوا شعوباً بربرية متوحشة او تجمعات اعرابية صحراوية الفكر الى مصاف الحضارات الكبرى ، وعلى المستوى الفردي وصف علي لرسول الله ( خاتم النبيين أجود الناس كفا ، وأجرأ الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفى الناس ذمة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشرة ، من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه أحبه ، يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثله )[12] ، وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب هذا الخبر ( قال معاوية لضرار الضبابي يا ضرار صف لي عليا قال اعفني يا أمير المؤمنين قال لتصفنه قال أما إذ لا بد من وصفه فكان و الله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا و يحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه و تنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا و زهرتها و يأنس بالليل و وحشته و كان غزير العبرة طويل الفكرة يعجبه من اللباس ما قصر و من الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه و ينبئنا إذا استفتيناه و نحن و الله مع تقريبه إيانا و قربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له يعظم أهل الدين و يقرب المساكين لا يطمع القوي في باطله و لا ييئس الضعيف من عدله و أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول يا دنيا غري غيري أ بي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيها فعمرك قصير و خطرك حقير آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق فبكى معاوية و قال رحم الله أبا حسن كان و الله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح ولدها في حجرها )[13] .

وفي الجانب العلماني كانت النتائج العملية أمثال لينين وستالين وهتلر وكيم جونغ ايل وبوش وتاتشر والأنظمة القمعية العربية والصهيونية الدموية . بل حتى الكنيسة الكاثوليكية وحليفتها الملكية في أوروبا كانت علمانية في جانبها السياسي ( ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ) ، لكنها فقط كانت من الجهة العلمية والأكاديمية تخضع لأسس دينية .

ونحن اكيداً لا نتفق مع القائلين انه ( قد يتفق معنا منظرو ودعاة الموقف اللاعلماني حول كون الوحي ، ما دام لا ينزل على البشر باستمرار ، وكلما دعت الحاجة ، لا يمكن ان يشكل بديلاً يغني عن التفكير الأخلاقي ) . لأسباب ، منها أننا نؤمن ان الوحي الإلهي لا ينقطع عن عالم الإمكان، على المستوى الخاص ، كما للائمة المناط بهم هداية العالم ، عن الْمُفَضَّلِ قَالَ ( قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (عَلَيْهِ السَّلام) ذَاتَ يَوْمٍ وَكَانَ لا يُكَنِّينِي قَبْلَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله قَالَ قُلْتُ لَبَّيْكَ قَالَ إِنَّ لَنَا فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ سُرُوراً قُلْتُ زَادَكَ الله وَمَا ذَاكَ قَالَ إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَافَى رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه) الْعَرْشَ وَوَافَى الائِمَّةُ (عَلَيْهم السَّلام) مَعَهُ وَوَافَيْنَا مَعَهُمْ فَلا تُرَدُّ أَرْوَاحُنَا إِلَى أَبْدَانِنَا إِلا بِعِلْمٍ مُسْتَفَادٍ وَلَوْ لا ذَلِكَ لانْفَدْنَا )[14] ، او للخاصة من الباذلين انفسهم في معرفة الله ، والذين تشهد التجربة العملية وجودهم ، او على المستوى العام بالإلهام ، او العلم غير المستقل عن الله كما أوضحنا في بعض الإشارات أعلاه . وفي المقابل لا يمكن كذلك للعلمانية ان تقول ان رفضها للدين كحاكمية ناشئ عن انقطاع الوحي ، إذ أوجد الوحي القواعد الكفيلة بتوفير معيارية أخلاقية قويمة ، بالإضافة الى حاكمية مبدأ الوصاية على النص الديني والامامة المعصومة .

اما نقد بعضهم لبعض النصوص الدينية على انها ( مبادئ عمومية ) ، ولا يمكن الاحتكام اليها لأنها لا تنتج تفصيلاً ، كنص ( لا ضرر ولا ضرار ) ، او نصوص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهو نقد فاسد ، لان هذه النصوص ليست مبادئً . فالنص الأول مثلاً قاعدة فقهية عملية ، والنصوص المرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوامر تشريعية مباشرة . فيما ان الأسس المعيارية كالعدالة والاستقامة متضمنة في نصوص أخرى خاصة . فهل نأتي للتشريعات القانونية في احد النظم العلمانية ونقول انها عامة لأنها لا تحضر عند مصداقها الواقعي في لحظة الحاجة ؟! .

ان الإسلام لا يوازن بين مصلحة ومفسدة عند وضع الأسس المبدئية ، بل يحتكم مباشرة الى المثل العليا ، ( وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[15] ، ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى )[16] . الا ان اعتراض الانسان بمفسدة ما يقتضي معالجة الدين الآنية للقضية حتى يصل بالفاسد لمستوى المثل . فيكون افتراض هؤلاء لوجود هكذا موازنة افتراضاً باطلة محتكماً لمسبقاتهم العقلية .

فيما نجد ايضاً ان ادعاءهم ( لزوم الدور اذا اعتبرنا ان المعرفة الدينية ، ومصدرها الوحيد الوحي ، هي منبع المعرفة الأخلاقية المعيارية ، لأنه يستلزم ان نؤمن ونثق بالوحي والموحى اليه اولاً ، وهذه الثقة تستلزم بالضرورة ان يكون لنا معرفة أخلاقية معيارية قياسية )، ادعاء غير قويم . ومن عدة جهات يمكننا مناقشة هذا الادعاء ، إذ كما قلنا ان الوحي الكلاسيكي في أذهاننا ليس هو الطريقة الوحيدة لإيصال المعلومة الإلهية للمخلوقات ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )[17] ، والا كانت الغير عاقلة منها مستقلة عن مصدر المعرفة اللازمة لمستواها الوجودي . كما ان فحص واختبار الوحي والموحى اليه لا يقوم على أساس المعرفة المعيارية ، بل على أساس ( الأسس المعرفية )، والتي هي ارتكازات موضوعة في الانسان بخلقته ( صبغة الله ومن احسن من الله صبغة )[18] ، أي ان المعرفة اللازمة للفحص تقوم على مبدأ اختبار الاعجاز في التفوق على علوم العصر الموحى فيه ، مثل كون موسى مبطلاً لسحر الفراعنة لانه كان اللغة العلمية لذلك العصر ، وان عيسى يحيي الموتى لان الطب سمة عصره ، وان محمداً جمع كل تلك العلوم ببلاغة وسمو اللغة العربية ، وهي كما نرى ليست علوماً متطابقة لتكون معياراً ، ولو كانت المعرفة المعيارية سابقة على المعرفة الدينية لا تكون هناك حاجة منطقية للأخيرة .

 الاخلاق والدين

يقع العلمانيون عند مناقشتهم لهذا العنوان في إشكالات منطقية أوجدتها مقدماتهم المعرفية . فهم دائماً ينطلقون من مسلّمتين عندهم ، غير واقعيتين من حيث هن ، إذ يفترضون ان الوحي الكلاسيكي النصي هو مصدر المعرفة الدينية الوحيد ، وان الأوامر الإلهية خاضعة لعلاقة ملكية فنتازية بين الله وبين المخلوقات . وهاتان المقدمتان باطلتان ، فقد بيّنا ان الوحي لا يقتصر على النص ، بل يتعداه الى مفاهيم مثل الفطرة والإلهام ، كما ان الأوامر الإلهية ليست مرتبطة بالله من حيث النتيجة ولا من حيث الفعل ، إذ الانسان هو الفاعل والنتيجة تعود اليه . ومن ثم نحن نوافق رأي المعتزلة من كون الأفعال لها حسن وقبح ذاتيان ، لكننا في ذات الوقت نوافق رأي الأشاعرة  ايضاً من كون مصدر معرفة الحسن والقبح هو الله ، سواءً بالوحي النصي او الوحي الفطروي ، وكذلك نوافق رأي الفلاسفة الغربيين الذين يرون الله مصدر المعرفة الأخلاقية .

فهل في كل هذه الموافقات تناقضات وقعنا فيها ، باعتبار ان هذه المدارس مستقلة متقابلة فكرياً ؟ والجواب لا ، لأننا لا ننظر بعين أولئك العلمانيين التي تعتمد رؤى كل مدرسة بصورة حجرية ، بل نقول ان للأفعال صوراً ذاتية ، لا يمكن معرفتها الا بدلالة إلهية . ومنه نعرف ان المعرفة الأخلاقية حتى وان توفّرت على مستوى المعارف المفهومية البشرية تظلّ الحاجة الى الأديان قائمة لتوفير المعرفة المصداقية على اقل التقادير . بمعنى أننا لو علمنا ضرورة اكساء واطعام الفقير من ناحية أخلاقية ستظل معرفة حدود الفقر وحدود الاطعام والكسوة غير متوفرة على نحو معياري .

ومن الغريب ان يسأل بعضهم ( اذا كان الله ترك لنا معرفة الحقائق الرياضية والعلمية ، لماذا لا يترك لعقولنا ذاتها معرفة الحقائق الأخلاقية ؟ ولماذا نحتاج هنا فقط للاحتكام لأوامر الله ؟ ) ! . فمن الذي قال ان الله ترك لنا المعرفة العلمية دون بيان ؟ فربما جميع ما ورثناه من أسس علمية – وكما اشرنا لهذا الامر سابقاً – ناشئ عن معرفة دينية بمعناها الخاص والعام . كما ان المعرفة العلمية من نوع تحقيق المصلحة ، فيما تركُ المعرفة الأخلاقية يعني تحقق المفسدة ، ودفع المفاسد مقدّم على جلب المصالح ، لأسباب مرتبطة بالجانب العملي للإنسان ، لا بما يريده الله . ثم ان المعرفتين ممتزجتان متكاملتان من الناحية الدينية ، لان سلوك الانسان يؤثر في كل الأبعاد الوجودية ، لذا يقتضي ترابطهما ، مع بقاء نسبية ظهورهما ، وكما نرى ان الانسان حين وصل لمستوى عقلي يؤهله للاستحواذ على أدوات بمستوى خطير ظهرت المعرفة الأخلاقية بنحو يناسب هذه الخطورة من ناحية الفلسفة والتشريع . لكننا تنزلاً لو افترضنا ان الله سمح بمعرفة علمية مستقلة – وهي ليست كذلك فلسفياً – فهل هذا مبرر الاستقلالية الأخلاقية ايضاً ؟ الجواب كلا ، لان صناعة سيارة تخدم الانسان امر قد لا يضر بمستوى التأثير الذي يلعبه الوعي الفاسد على ابعاد مشتركة مع الانسان في الكون ، اذا وافقنا النظرية الكمومية على رؤيتها للوعي واثره فيزيقياً . ومن هنا نرى ان الاخلاق ذات جنبتين فيزيقية وميتافيزيقية .

اما نظرية بعض العلمانيين عن وجود أنساق أخلاقية عرفية رافقت الانسان الأول قبل نزول الأديان فباطلة . لان هذا الافتراض يقضي بخلو الانسان الأول من الدين ، وهو امر مستبعد ، كما انه باطل منطقياً ، باعتبار ان من المحتمل كونه على دين ولو افتراضاً ، واذا دخل الاحتمال بطل الاستدلال . هذا مع العلم ان الأديان تفترض ان اول الآدميين ( آدم ) كان نبياً . وحتى اذا كان هناك من هو قبل آدم من البشر فلا يُستبعد مطلقاً ان يكون على دين . ولو فرضنا انه لم يكن هناك دين نصي بالمعنى الخاص ، فمن الأكيد كان هناك دين بالمعنى العام الذي ذكرناه لتجلّي المعرفة الإلهية من الفطرة وغيرها .

واذا اعتمدنا التعريف الافلاطوني للمعرفة على ان التعلّم هو التذكّر ، فتكون المثل العليا قائمة بذاتها في كل حين ، لكنّ الانسان بخلوده للأرض لم يعد يتذكرها ، فتكون الذاكرة بمقدار الانتباه النسبي التدريجي والطردي مع الزمن ، والذي يحتاج الى دوافع من الوعد والوعيد وفّرتها الأديان ،  الا بالتخلي عن تأثيرات الغرائزية التي هي آثار جسده الدنيوي ، والالتجاء الى روحه التي هي ما يربطه بعالم المثل ، الذي ينتهي بدوره لمثال بسيط واحد [19]. وهو ما يتسق مع الفلسفة العلمية الحديثة التي ترى ان النظرية الأجمل هي الابسط .

  

علي الابراهيمي

 [email protected]

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here