آلام وردية..

هاهي آلامي وأوجاعي تلقي بظلال اشباحها على ما تبقى لي من عمر، أراني معزولة عن العالم لم اختلط كما كنت في السابق، لما كانت حياتي تمر بمرحلة نسيت ان القدر يمكن ان يخبئ ما لم اكن احسبه، او لأقول تغاظيت، سعادتي طغت على كل انوثتي بت كالوردة لا احفل إلا بندى صباحات جميل وضياءات شمس، اسبغها على روحي الى من كنت احب بلا حدود، يا الله!! كم كان لذيذا عمري الذي احتسيت معه معتق البن الذي ما ان اشم رائحته حتى تورق مساماتي واساريري، هو عطوف وحنون حد الخرافة، حتى تلك اللحظة التي اختَطًفت مني سر وجودي… أنزويت الى حد الخوف من اختطاف ذكرياتي التي احفظ في ذاكرتي، صوري التي عنيت بها بألوان زيتية بعيدة عن ضوء يعرضها للتلف، كابدت الحزن والمرارة، لم اتذوق بعدها طعم ورائحة ما يحب، فذلك يعني اني سأقاسي اوجاع وآلام لجرح لم يندمل على فراقه..
حتى عملي الذي اقوم به مع رفقة حاولت الاندماج معها بحدود ضيقة، شعروا بأني افضل الوحدة فابتعدوا عني حتى تلاشت تقريبا علاقاتي معهم، إلا في حدود عمل، الى ان دخل في ذلك اليوم رجل لم اكن أعلم بأن لي انوثة منزوية في ركن تتعبد راجية انتشالي مما أنا فيه، غريب هو احساسي  حين وقعت عيناي عليه، كأن تيار سرى بجسمي صعقني الى حد ان ارتعش واتعرق، بل امتزجت رائحة رغبتي بالحديث إليه بشغف انوثتي، بداية خجلت لكن شيء ما دفعني لأن اقوم عن مكاني لاستقبله مستفسرة عما يريد، استغرب صحبي تصرفي لكني لم اعير أهمية، كنت لا اقوى على مسك حركتي التي باتت لا إرادية اتجاهه.. فقلت:
هل من خدمة اسديها إليك؟
كان هو الآخر يشعر بالاستغراب لكنه تفادى ذلك بالرد علي قائلا:
حقيقة ابحث عن معرفة آلية تقديم طلب العمل إذ تنامى الى علمي ان هناك وظيفة شاغرة في مجال اختصاصي لدى شركتكم، سحبت الاستمارة وعبئتها، لكن يبدو ان هناك بعض الامور لا اعلم كيف لي ان املئها او سير خط هذه الاستمارة.. هلا قدمتِ لي العون.. مد يده لي بالاستمارة، اخذتها مع شعور غريب ينتابي الى معرفة اسمه وعمره خاصة ان هناك بعض خيوط من الشيب قد خطت جوانب شعره المسترسل الى الخلف بشكل جميل يريح النفس، كأني فتاة مراهقة تحاول التقرب منه قدر الامكان لشم رائحة عطره الذي يرتديه، لقد كان المفضل الذي احب والباقي من ذكريات نفسي.. فقلت:
حسنا دعني ارى، تفضل اجلس حتى يمكنني اخبارك بكيفية اكمال بنود الاسئلة التي في استمارة التقديم، ومن ثم ارشدك الى اي مكتب تقدمها إليه.. جلس قبالتي وانا اقلب الورق كأني اتحسس مكانات لامست الورق باصابعه، لم الحظ ما قاله، وأنا سارحة مع نفسي الى ان سمعته يكرر قائلا:..
عفوا: هل هناك خطأ أراك قد اطلت في قراءة هذا الصفحة؟
لا ابدا .. لكني احببت ان اقرأ بشكل لا يجعل ممن يستقبلها منك لايجد صيغة التقديم غير ملائمة، فهناك العديد يقدم على ملأ الاستمارة لكن صياغته في التعبير لبعض الاسئلة لا تتوائم مع سياسة الشركة فهي كالمصيدة للمتقدم..
اوه .. شكرا لك سيدتي على معونتك سرني التعرف إليك إني ادعى…
قاطعته دون ان يكمل جملته … احمد … انك احمد عبد الكريم لقد قرأت أسمك، سرني التعرف عليك
عذرا .. وحضرتك إن سمحت لي بالسؤال ..
إني أدعى رونق .. كان مستغربا من الاسم يبدو انه شغله لوهلة ما، فجاء رده متباطئاُ
يا له من اسم جميل … حقيقة لم اتخيل ان هناك من يسمى بهذا الاسم الوردي اللون بشفافية .. اسم يليق بك فعلا سررت بمعرفتك..
في اليوم التالي.. جئت الى عملي وانا ارتدي ثوبي الذي ركنت في خزانة ملابسي بعيدا مع آلامي واشباح ظلالها، طالته الظلمة كما طالت حياتي لا ادري قضيت يومي بعد اللقاء به ومساعدته لا هم لي سوى التفكير به، دون معرفة ردة فعله او مشاعره اتجاهي.. قبل خروجي من المنزل جلست اضع مساحيق التجميل لأغطي تجاعيد انبرت تجرد نضارة بشرتي من هيبتها، نعم انا في شارفت على الاربعين عاما لكني لازلت احتفظ بمسحة من الجمال ذاك ما اعرفه عن نفسي.. ليس غرورا لكنها حقيقة دفنتها خلف عدم اكتراثي، شيء ما ايقظ بداخلي عنفوان الرغبة في الحياة والتطلع الى استباق القدر الذي عكف على طرق بابي حتى كلت يداه فابتعد بعد ان لم يجد بدا سوى الكف عن ملاحقتي، ملئت فراغات تلك التجاعيد بمسحات حاولت جاهدة ان اعكس أنها نتيجة تعب وإرهاق لبست ثوبي الوردي الذي كان هوس من احب .. لا تسأليني فأنا لا اعلم ما الذي يدفعني للتصرف  بهذا الشكل.. هذا كان ردي على وسوسة في نفسي طرقت علي هذا السؤال، ادرت وجهي عنها بشكل لا يجعلها تعاوده او ترمي السخف او الرعونة على ما افعله…
دخلت كالعادة الى مكان عملي .. وقد بان بشكل جلي الاستغراب على وجوه صحبي في العمل.. لم يمنعهم من التنابز فيما بينهم عليّ لكني لم اكترث لهم .. غير ان هناك من ابتسم لي قائلا:
صباح الخير سيدة رونق، فبادر الجميع وراءه بنفس التحية… كنت سعيدة جدا بذلك فرددت اسعدتم صباحا جميعا ..
جلست وانا انظر الى ساعة يدي وساعة الجدار.. لقد كنت قد برمت معه موعدا من الامس بأن يأتي في الساعة التاسعة صباح هذا اليوم.. لازال هناك ساعة كاملة ..اشغلت نفسي باتمام وترتيب ما تركته في الامس، وبين لحظة واخرى انظر الى الساعة واتأفف .. ذلك جلب انتباه ندى والتي تجلس الى المكتب المجاور مني فقالت: تبدين اليوم كأنك فتاة في العشرين ..لم اكن اتوقع بأنك لا زلت بهذه الروعة  من الجمال يا رونق ..اسمحي لي بأن اقول إنك بثوبك هذا واطلالتك كأنك وردة كانت تنتظر الندى لتورق وها انا أراها تورق بشكل يضفي السعادة لم يراها ويشم عبق الوهج الذي يشع من كل ثناياها…
كنت لم اتعود ان يتحدث معي اي موظف بهذا الاسلوب كوني الاقدم ومسؤولة القسم لكن ندى لها مكانة خاصة في نفسي شعرت بالإثارة حين سمعت من عَلِمَت بكل خبايا اسراري بهذا الاطراء.. فقلت : لا اعلم مالذي لفاني أراني اتصرف دون إرادتي كاني مراهقة.. شئ ما يقول لي بأني قد جننت او هي نزوة من إمراة تحاول ان تعيد ما سرقته الايام منها، و واعز يقول هي الحياة فيها ما فيها، واظنني سمعت ومشيت بالرأي الآخر.. اجدني لا اسيطر على مشاعري وانوثتي التي اشبعتني قُبلا حين رأتني اتجدد بكل شيء.. اتراني على خطأ ام على صواب؟
ردت علي ندى .. إنك إمرأة بمعنى الكلمة فالحياة تتجدد كما الخلايا، وكل ما تحتاجه المحفز والوقت المناسب، وأراني قد حظيتِ به وهي تشير لي بعينيها ناحية القادم اتجاهي…
شعرت بالارتباك ما ان رأيته.. وهي تقول لي: دعي مشاعرك تقودك حيث يمكنها ان تورق من جديد يا عزيزتي رونق ثم ركنت الى مكتبها مبتعدة
صباح الخير سيدة رونق..
صباح الخير سيد احمد تفضل..
لم نتحدث كثيرا، كانت الابتسامات، العيون، وضربات القلب التي يسمعها كل منا عن صدر الآخر، كفيلة بأن تشرح كل شيء.. لحظات كانت اشبه بعالم فنتازي كل مافيه يتراقص بصورة بطيئة، مطبقا على العالم الخارجي الذي حولنا.. تحدثنا طويلا في صمتنا ذاك.. شعرت أنه قد فهم ما اريد كما علمت مشاعره اتجاهي..
برغم كل ذلك كنت ممسكة بالاوراق التي تركها بالامس لكي اعطيها إليه، سارع هو لأخذها ممسكا بيدي بقصد وهو يقول:
لقد كان الحظ حليفي فعلا أيتها الرونق ، لأدري ما اقول؟ لكن اعلمي أني ومنذ الامس لم تفارقي عقلي وخيالي وقلبي.. فحين خرجت كان هاجسي معرفة كل شئ عنك .. ما جئت اليوم إلا لأن اقول لك وأعرض عليك قلبي، هل تقبلين ان تدخلي حجراته الى الابد ليكون تحت إمرتك .. سأشرح لك تفاصيل كل اسئلتك التي يمكن ان تدور في ذهنك … لكن فقط اقبليني الآن رافدا جديدا يحب ان ينتقي رحيق بقية الحياة الى جانبك..
صدمة ما اسمع جعلتني لا اعرف ماذا اقول!! لا زال هناك هاجس يدفع بي الى ركني البعيد الذي استفرد بي هما وحزنا… كانت نظرات الجميع تتطلع نحونا فقد سمعوا ما قاله لي.. وهم بانتظار ردِ عليه..لم اعهدتني ضعيفة مترددة .. غير اني تذكرت ما قالته لي ندى فأجبته.. لكني لم اقل شيئا او اعرفك من قبل!؟
سارع بإمساك يدي الثانية وهو يقف دون تردد او اكتراث لمن حوله.. تعالي معي هيا انهضي لأروي لك ما تودين معرفته عني.. لكن عليك فقط ان تعلمي أني لا يمكنني ان اقبل بالرفض ..
وجدتني اقف واسارع الى الخروج معه وسط تهليل الجميع وتصفيقهم .
بقلم/ عبد الجبار الحمدي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here