رحيل رمز الثبات والتواصل والتجرد والتواضع والشفافية

عادل حبه

الفقيد عزيز محمد
1924- 2017
في ظهيرة يوم الأربعاء المصادف الحادي والثلاثين من أيار عام 2017، رحل الفقيد الرفيق عزيز محمد السكرتير السابق للجنة المركزية للحزب السيوعي العراقي عن عمر ناهز الثالثة والتسعين. ولد الفقيد في قرية بيركوت في إحدى ضواحي مدينة أربيل في تموز عام 1924 من عائلة فلاحية فقيرة. ونظراً للوضع المادي للعائلة، لم تتسنى الفرصة للفقيد بأكمال دراسته في تلك الأوضاع الصعبة التي عاشها العراقيون. وما أن شب الفتى عزيز محمد  حتى وجد نفسه في خضم الموجة السياسية الهادفة إلى انقاذ أبناء جلدته من القومية الكردية من الظلم والتمييز القومي، إلى جانب تحرير الشعب العراقي من التبعية والاقطاع والظروف المعايشة التعيسة. وكانت أعوام 1949 – 1941 بواكير انغماره في النشاط السياسي. فانتمى إلى صفوف منظمة “هيوا”( الأمل) وذلك في أيار عام 1941 وأصبح عضواً فيها. وأثناء نشاطه في هذه المنظمة تعرف على الأفكار التقدمية التي كانت تروج لها هذه المنظمة. ثم مالبث أن التحق بصفوف حزب

بواكير النشاط السياسي للفقيد عزيز محمد ( الأول من اليسار)
شورش (الثورة) التي كانت تبشر بالمفاهيم الماركسية كرد فعل على تردي الأوضاع في البلاد. ولعبت هذه المنظمة دوراً في إلهاب حماس الآلاف من الشباب اليافع ونشر أفكار التحرر السياسي والعدالة الاجتماعية، خاصة في ظل التحولات العاصفة التي طرأت على العالم بالارتباط مع شروع لهيب الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1942، أصبح عضواً في منظمة الشعب التي كانت تصدر جريدة سرية با سم بليسه ( الشرارة). وبعد توسع نشاط الحزب الشيوعي العراقي، وعقد أول مؤتمر له في أوائل عام 1945، تعرف الفقيد على أهداف الحزب وبرنامجه الذي أكد على حق الشعب العراقي بالتمتع بالحرية والأخاء والمساواة، ووجد الفقيد طريق الصلة بالحزب إلى أن انخرط في صفوفه في شتاء عام 1945-  1946، من خلال التعرف على نضال الحزب الشيوعي العراقي الوطني والاجتماعي، ودفاعه عن الاستقلال والسيادة الوطنية ومطالبته بالحريات الديموقراطية للشعب ولضمان مصالح العمال والفلاحين وكل شغيلة اليد والفكر.
وأحدثت وثبة كانون الثاني المجيدة في عام 1948 نقلة نوعية في حياة الفقيد السياسية سواء على نطاق نشاطه السياسي أو على وعيه الفكري والسياسي، وهذا ما دفعه إلى احتراف العمل الحزبي، حيث أصبح مسؤولاً لمنظمة الحزب في أربيل. ولكن بعد الحملة التي شنّها النظام الملكي ضد الحزب واعتقال قادته، استدعته قيادة الحزب إلى بغداد. ومع توالي حملة الاعتقالات والمداهمات ضد الأوكار والبيوت الحزبية السرية، كلّفه الحزب باستدعاء والدته للسكن في أحد البيوت الواقعة في محلة القاطرخانه في جانب الرصافة حيث نصبت فيها مطبعة الحزب. ولكن  ما لبث أن تم كشف البيت من قبل الشرطة العراقية وتم اعتقاله مع والدته، وتم الحكم على الفقيد بالاشغال الشاقة لمدة 15 عاماً  من قبل محكمة النعساني السيئة الصيت في 12/2/1949.
وبدأت مرحلة جديدة مهمة من حياة الفقيد في السجن تميزت بالقسوة والحرمان من ناحية، ومن ناحية أخرى بزيادة الوعي والخبرة والثقافة عندما حوّل الشيوعيون السجن إلى حلقات للدراسة الثقافية والسياسية. وتعلم الفقيد اللغة العربية وأجادها. كما توفرت للفقيد الفرصة الإطلاع على كنوز المعرفة والأدب العربي والأجنبي. وانتقل الفقيد من سجن بغداد المركزي إلى سجن نقرة السلمان الشهير في الصحراء الجنوبية، إلى أن تم نقله إلى سجن الكوت بعد الضغط الذي مارسته العوائل بسبب بعد ذلك السجن الصحراوي. وما أن انتقل الفقيد إلى سجن الكوت في عام 1953، حتى تفجرت المواجهات بين السجناء وبين إدارة السجن في بغداد مما أدى إلى سقوط عدد من السجناء بين شهيد وجريح. وانتقلت هذه المواجهات إلى سجن الكوت أيضاً بعد أن قدم السجناء عريضة تطالب بتحسين ظروفهم المعيشية. ولم تسجب السلطات إلى مطاليب السجناء وقامت بقطع المياه والطعام حتى الثاني من أيلول عام 1935. وبادرت السلطات إلى استدعاء بعض السجناء، ومنهم الفقيد، لنقلهم إلى سجون أخرى. إلا أن السجناء امتنعوا عن تنفيذ طلب السلطات هذا مما أدى إلى هجوم الشرطة على السجناء وراح ضحية هذه المواجهة عدد من الشيوعيين بين قتيل وجريح.
وبعد انتصار ثورة تموز عام 1958، بادر قادة الثورة إلى إطلاق سراح جميع السجناء الشيوعيين السياسيين، وكان الفقيد عزيز محمد من بين من أطلق سراحهم. عندها بدأت مرحلة جديد من نشاطه السياسي. ففي الاجتماع الموسع للجنة المركزية والكادر الحزبي في أيلول عام 1958، تم توسيع اللجنة المركزية ورفدها بأعضاء جدد من الكوادر القيادية التي تم اطلاق سراحها. وأختير الفقيد عضواً في اللجنة المركزية، إضافة إلى عضويته في لجنة فرع كردستان. وأصبح في عام 1960 مسؤولاً عن فرع الحزب الشيوعي العراقي في كردستان.
في أثناء توليه لمنصبه الجديد، اندلعت الاضطرابات في مدينة كركوك. وقد اتهمت ظلماً منظمة الحزب الشيوعي والحزب الشيوعي بهذه الانتهاكات. ويروي الفقيد وهو الذي شهد المواجهات الدموية وكان حاضراً آنذاك بقوله:”لقد أجرينا اتصالات مع القوى الأخرى من أجل توحيد المظاهرات والخروج بشعارات موحدة في الذكرى الأولى لثورة تموز. ولكن رفض المقترح من قبل الكرد والتركمان. فخرجت مظاهرات صبيحة 14 تموز عام 1959، وشاركت فيها القوى الثلاث؛ أي الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني والتركمان. ثم سادت حالة من الفوضى بعد اطلاق عيارات نارية، ولم نستطع السيطرة على الموقف، وهذا ما أدى إلى موجة هستيرية من العداء بين القوى المتناحرة، خاصة بين الكرد والتركمان، مم أدى إلى وقوع ضحايا، وخاصة في صفوف التركمان، علماً أنه سقط عدد من الشيوعيين ومن  بينهم رئيس البلدية وأخوه حسين البرزنجي وكانا بعيدن عن ميدان المواجهة”.
وبعد انقلاب 8 شباط عام 1963، واثر المجازر التي تعرض لها الشيوعيون
الفقيد عزيز محمد بين رفاقه الانصار في جبال كردستان

والديمقراطيون والوطنيون العراقيون، توجه الفقيد وعدد غير قليل ممن نجا من طاحونة الإرهاب إلى جبال كردستان وشرعوا بتنظيم قواهم لمواجهة التهديد الخطير الذي تعرضت له البلاد. ولعب الفقيد دوراً بارزاً في تأمين متطلبات هذا النهج الجديد الحزب. وبعد الخسائر الفادحة التي تحملها الحزب في انقلاب شباط، شرع ما تبقى من قيادة الحزب بلملمة الجراح وإعادة بناء الحزب من جديد. وهكذا عقد اجتماع في الخارج لمن تبقى من القيادة والكادر الحزبي ومن ضمنهم الفقيد عزيز محمد في عام 1964 لانتخاب قيادة جديدة. وتم انتخاب الرفيق عزيز محمد كسكرنير جديد للجنة المركزية بجميع آراء المشاركين باستثناء رأي الرفيق عزيز محمد، واستمر الرفيق في موقعه حتى عام 1993 حين قدم طلباً بإعفائه من هذه المهمة.
لقد قاد الفقيد الحزب في ظروف داخلية بالغة التعقيد، إضافة إلى الظروف والضغوطات الخارجية. واستطاع الحزب خلال فترة قصيرة من استعادة عافيته وبرز من جديد كقوة سياسية في الميدان رغم الخلافات الداخلية التي كانت تهز صفوفه بين حين وآخر بعد أن ذاق الشيوعيون العراقيون مرارة العسف والاضطهاد والسجون والتصفيات الجسدية طوال مسيرتهم المجيدة. وسعى الرفيق عزيز محمد على الدوام وضع وحدة الحزب وسلامته وسلامة كوادره واعضائه في مقدمة اهتماماته. وعلى هذا الطريق تعامل الفقيد مع قضية مهمة وشائكة مثل التحالف مع البعث ضمن هذا الإطار، فالجبهة من وجهة نظره كانت وسيلة لترميم الحزب بعد الضربات المهلكة التي وجهها البعث حتى بعد عودته إلى السلطة في عام 1968. كما أنها تعد وسيلة لتشجيع عناصر عقلانية في حزب البعث ودعمها من أجل سلوك الطريق العقلاني واللاعنفي في الترويج مبادئه، بعيداً عن الاقصاء والبطش. كما تمسك الرفيق بقوة بحق الشيوعيين العراقيين وعبر مؤسساتهم المنتخبة اختيار السياسة التي تنسجم مع المصالح الوطنية للعراق. ويشير الفقيد عزيز محمد في أحدى لقاءاته الصحفية إلى ما يلي:” لقد حاول الكثير من الكتاب والمعلقين أن يشير إلى تأثير السوفييت وإملاء رغباتهم علينا. وهو أمر يمكن دحضه في مواقف كثيرة. كنا نقرأ رأي السوفييت ونحلل مواقفهم بقدر ما يتعلق الأمر بسياستنا، ولكننا لم نكن نستلم إيعاز منهم في تقرير سياستنا. وأود أن أؤكد على أننا لم نتأثر بتلك الإيحاءات، لكوننا نحن من يحدد الموقف في ظل الوضع العام الذي يعيشه حزبنا لا السوفييت. نعم كنا نسترشد بنظرياتهم وطروحاتهم لأنهم أصحاب تجربة طويلة. علماً بأنهم كانوا يؤكدون دوماً على ضرورة التقارب بما يخدم حزبنا. ولا أنكر دور مصالحهم المتبادلة مع الحكم في العراق والتي لها كان لها تأثير في إيجاد تفاهم مع النظام”.

الفقيد مع كاتب السطور في أربيل عام 2012
أيها الفقيد العزيز، إننا إذ نودعك، فإننا سنتذكر دائماً حجم تواضعك وصبرك واستعدادك لسماع مختلف الآراء وقدرتك على تقريب وجهات النظر المتباينة، ونزاهتك وميلك لتقديم المساعدة لرفاقك وللآخرين، كما نتذكر ذلك الاحترام الذي يكنه لك كل من التقى بك من الأحزاب العراقية والأجنبية. فقدناك أيها العزيز ولكن لم نفقد ايتسامتك وتفاؤلك وطيب معشرك. نم قرير العين في مثواك الأخير، وللعزيز شريكة حياتك أم أوراس وللأحبة فينك وشيرين وأوراس آيات من الصبر والسلوان.
31/5/2017

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here