سايكولجية الافراد وتأثيرها على فهم المقاصد.. قراءة النصوص والاحداث نموذجا.

لا يخلو القول والفعل من المعنى والقصد.

فلكل جملة مفيدة معنى وغاية وقصد. ولكل إشارة معنى وقصد. لكننا دائما نختلف في تفاسير المعاني والمقاصد..والسؤال المفترض هنا. لمَ نجد صور المعنى والقصد للحدث الواحد مختلفة في نظر هذا القارئ وذاك. وكيف يحدث الاختلاف؟؟

توطئة…..

لا يمكن للإنسان ان ينفصل عن ذاته المبنية من طباع وسلوكيات مجتمعيه. ونظم ومورثات اممية متجذره في الأعماق. لا يمكن الانفكاك عنها الا بجهد وادراك ومعرفة مغايرة. وبعد التشكيل النهاني لها بصورتها النمطية. فالمتبنيات وتأثيرات النظم والقيم التي تشكلت على اشكالها سايكولجية الأفراد تأثر بشكل تلقائي قسري مباشر. فالانسان منصهر في مجتمعه تلقائيا لا شعوريا. تنشأ معه ثقافته وطريقة تفكيره وطباعه ونظم حياته بشكل تراتبي انسيابي لتحدد نوعية معاييره  وموازينه المستخدمة في فهم مضامين القراءات والاحداث والصور. وهي منبثقة أصلا من إفهام وتصورات وأنماط الحياة الاجتماعية والقيم والاعتبارات الموضوعة فيه بشكل مبرمج. فهو مجبول عليها بارادته وتقبله.. والامر نفسه وعلى نفس الوتيرة في موضوع التعامل مع النصوص والمعاني والصور المنتزعة من الأحداث والوقائع. اي ان اختلاف المتبنيات والقيم والثقافات بين أمة وامة وشعب وشعب. يجعل من الصعوبة ان تكون قراءة النص وفهمه واحد. او ادراك وانتزاع صور ذلك الحدث متطابقة. فالمتبنيات والقيم والنظم الاجتماعية والدينية والسياسية المختلفة عند المجتمعات تُأثر تأثيرا كبيرا وبشكل تلقائي انسيابي على ادراك الفهم المستقل. بل هي مقيدة له بشكل غير محسوس. وحينها يكون من الطبيعي اختلاف المقاصد المدركة المستنتجة من القراءة الواحدة والحدث الواحد في الاذهان من غير تخطيط مستقل مغاير عن رتابة القراءة والتحليل والاستنتاج الجمعي السائد المتبع.. يقول الفيلسوف تشالز بيرس ( ان تصورنا لموضوع ما. ماهو الا ما نتصور لما ينتج عن هذا الموضوع من اثار عملية لا اكثر )

لاشك ان قول تشالز صحيح. فالتصور الأولي المأخوذ من السوابق الذهنية الذاتية لموضوع ما. هو الذي يشكل معالم الصورة المتصورة في الذهن. وما يلحق بها من اثار ولوازم. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في نوع التصور والنظرة المعيارية المختلفة عند الناس. وبالتالي تتكوّن الاختلافات في النتائج الموضوعية. باختلاف الرؤى والسوابق الذهنية المتكونة من تعدد المتبنيات والثقافات. مما يجعل نتائج القراءة والاستنتاج  وتبني الاّراء متفاوتة وفي بعض الأحايين متعارضة ومتضادة.

وبما ان تصورات الانسان وسوابقه الذهنية هي المسيطرة المحددة لشكل المعطيات المبحوث عنها في هذا الامر وذاك الموضوع وتلك الحادثة. فمن الطبيعي ان تختلف النتيجة النهائية في هذه الكلية وتلك الجزئية. وهذا امر وان كان فيه مافيه من الكلام. لكنه مقبول وهو متروك لقناعات الناس ومستويات معارفهم وادراكاتهم. بشرط وجود الظوابط العقلية والاجتماعية العامةالمتفق عليها. المانعة للفوضى الفكرية الانسانية المشتركة التي تكفل الحرية في المتبنيات والاعتقادات والنظم .

واذا اتفقنا ان اختلاف المناشئ والقوالب الاجتماعية ومتعلقاتها الثقافية والقيمية من فرد الى فرد ومن بلد الى بلد. يُكوَّن بشكل طبيعي الاختلاف في القيم والأفهام والإدراكات والاستنتاجات في فهم ومعرفة المقاصد والمعاني في هذا النص او ذاك الفعل وتلك الواقعة عند اغلب الناس من أهل الفطرة السليمة والقصد النبيل الذين يقرؤون النصوص والوقائع بمناظيرهم العقلية الذاتية المجردة من غير تأثيرات وايحاءات خارجية مأثرة. قد لا نتفق عندما يتدخل رجال السياسة ورجال الدين في القراءة والاستنتاج. لأننا سنختلف كثيرا في تصوراتنا عن مقاصدهم واشخاصهم اولا وعن فهم وادراك المعاني والصور التي صوروها للناس بلا بينة عقلية مقنعة. او دليل علمي ناهض. فهم يعتقدون انهم يملكون الحقائق المطلقة الموجبة للتسليم الحتمي. وهم عنها ابعد مايكون. وما داعش وأمثالها الا مثالا حيا لما أقول. والامر لا يختلف كثيرا في معطياته ونتائجه عن سابقه عند اهل المصالح الخاصة والغايات الماكرة.لأنهم يقرؤون النصوص ويفسرون الأحداث وفق مخططات ونوازع نفسية وغايات شخصية. بقطع المعنى وتغيير القصد وتوظيف وتسويق المصالح هنا وهناك. فهم يفسرون أفعال وأقوال الأنداد والأضداد تفسير الكيد والإيقاع وان كانت سليمة خالية من مايُشينها ويعيبها.  ويفسرون افعال وأقوال الخلان والاوداء تفسير القبول والرضى وان كانت سقيمة خالية من مايصححها. وكأنهم مصداق لقول الشافعي.

وعين الرضا عن كل عيب كليلة.

لكن عين السخط تبدي المساويا.

وعادة ما يكون هؤلاء المُسوِقون في المقدمة يصدحون باصواتهم  ليلفتون الأنظار لمتطلبات التوظيف والتسويق والقصد الشخصي . يحاولون بما يستطيعون من قوة جذب الناس الى ساحة الصراع والتضاد للسيطرة على العقول والعواطف والطاقات. يستغلون في مسعاهم هذا ماموجود في نفوس بعض الناس من عوالق تلك المناشئ والقوالب والاثار التي اوجدتها الصراعات والحروب بين الأعراق والامم والأديان. فيوظفون نزعة الثأر والافضلية  الاجتماعية والتاريخية المتجذرة في النفوس. المتهيئة دائما لقبول مايقوله هؤلاء المقدمون. وبشكل متناسق غير متعارض مع طبيعة النشأة والقولبة القديمة التي تشكلت على هيئتها المتبنيات والافكار السائدة. لذا كان الامر سهلا يسيرا في اقناع عامة الناس بما يريدون وبما تشتهي أنفسهم . لانها تتماشى مع أهواء ونوازع النفوس المتطلعة لمكانة الافضلية الاجتماعية والعرقية والافضلية الدينية والأممية.. ان المفاهيم والتلقيات التي أنتجها القصد المتلاعب به داخل هذا النص وذلك الحدث  سرت في الناس كسريان الدم في العروق ولا يمكن انتزاعها بسهولة مع وجود استمرار التعبئة المستمرة. والعامة من النَّاس استمروها واتخذوها عنوانا لا يمكن انتزاعه مهما قيل ويقال. الا مارحم ربي في استثناءات قليلة لا تشكل نسبة مؤية يعتد بها. ولا زالت مقولات الناس التي صُنعت لهم تُردد كترديد السلام والتحايا  ( نحن الأفضل. نحن الأحق. نحن الأعلم. نحن الناجون. نحن …. )  قال المتنبي.

تصفو الحياة لجاهل او غافل.

عما مضى فيها وما يتوقع.

ولمن يغالط في الحقائق نفسه.

ويسموها طلب المحال فتطمع.

يُحكى ان رجلا  كان ينازع الموت على فراشه ومن حوله أبنائه وأقاربه. فأومأ بيده لأحد ابنائه دون ان يتكلم او يوضح القصد. ثم أرخى يده  وانقطت انفاسه ومات. تم تشيع الرجل ودفنه على أكمل وجه. وبعد انقضاء ايام الحزن والتأبين. جلس الأبناء والأقارب ليقسموا تركة الرجل الراحل. فما ان أرادوا ذلك حتى انبرى احدهم وقال ان الرجل الميت عندما أومأ لأحد ابنائه أراد منعه من الميراث. لانه كان ينظر للابن المومأ اليه بعين الغضب.. فتكلم اخر وقال ليس الامر كذلك. إنما أراد الرجل الميت ان يوصيكم به  خيرا لانه ضعيف الحال وكثير العيال. وقال اخر ان القصد من الايمائة التقديم على بقية اخوته لانه صاحب حكمة ورأي. وعندها اضطرب المجلس وعلت الأصوات وانقسم القوم في تفسير الأيمائة. كان بين هؤلاء القوم رجل مسن معروف بالحكمة يراقب وضع الاختلاف ولا يتكلم. وبعد اللتيا والتي طلبوا منه التكلم وابداء الرأي. قال الرجل الحكيم لهم اسمعوا وعوا قولي.

(اتركوا ايمائة الرجل الميت فإن قصدها مجهول. وقسموا الميراث فأن أمره معلوم. وانسوا ما حدث بينكم اليوم. فغدكم يطلبكم لما هو اجل وأعظم ) ولو دققنا في هذه الحكاية لوجدنا ان الرجل الاول  حاول المكر والإيقاع بالابن المومأ اليه لغاية في نفسه. اما الرجل الثاني فقد دفعه التعاطف مع ابن المتوفى. ففهم ان الرجل الميت أراد الاهتمام به لضعف حاله. اما الرجل الثالث فقد فهم من الايمائة التقديم على بقية الأبناء لان المومأ اليه حكيم ويحسن التصرف.. والغريب في الامر انهم اختلفوا على امر كانوا يشاهدوه عن قرب. ومع هذا اختلفوا والحدث واحد في مكان واحد!! انه الاختلاف في الأفهام والرؤى والسوابق الذهنية الذي جعل التفاسير متعددة والحادثة واحدة. ولو أضفنا على نحو الفرض اليها وجود الغايات والمصالح لكان الامر أعقد وأصعب.. فهل للقارئ ان يتخيل كم من مقولة وايمائة واشارة وصلت إلينا كما يحلو لفهم ناقلها الطيب. وكم خبيث موظِف تلاعب بمعاني القصد ليوصل إلينا ما يريد ؟؟ فهل نتريث ونتأمل في إطلاق الأحكام القاسية على الاخر المختلف معنا في فهم ماقد فهم كما نحن فهمنا.ومن ثم ندقق ونحقق في المقولات والايمائات لنخرج منها القصد الصحيح كما هو من غير تزوير وإضافة. او نخرج منها بالقدر المشترك من الفهم مع الآخرين فلا نقع في شراك المتصيدين.. وهل سناخذ برأي ذلك الرجل الحكيم الذي قال (اتركوا ايمائة الرجل الميت فإن قصدها مجهول. وقسموا الميراث فان أمره معلوم. وانسوا ما حدث بينكم اليوم فغدكم يطلبكم لما هو اجل وأعظم )

◦ حيدر التميمي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here