اليوم المشؤوم

اليوم المشؤوم
نوري جاسم المياحي
من بديهيات الحياة المكتوبة على جبين الانسان كما يقال عند العراقيين ان يولد في لحظة ما وفي مكان ما ولأبوين ما … وقد يكون فقيرا وقد يولد وفي فمه ملعقة من ذهب وقد يولد ذكيا عبقريا او غبيا متسلحا بكل انواع الغباء …وفي كل هذه الحالات هو ليس مخير او حر في اختياره …
والحتمية الاخرى الا وهي الموت…فكل مولود هو ميت سواء في اللحظة الاولى من ولادته او يعمر عمرا مديدا قد يتجاوز المئة سنة ..وهو ايضا ليس مخيرا متى واين وكيف سيموت …على شرط ان يكون هذا الانسان عاقلا وكان قانعا في حياته …
ولكن وكما يبدوا لي ان ظاهرة لعينة و مجنونة قد انتشرت في العالم وهي الحقد والكراهية عند الانسان ضد نفسه فتراه يختار الموت بالانتحار او اختيار الانتحار وكذلك قتل الاخرين .. وانا لست عالما نفسيا لأحلل هذه الظاهرة ومع هذا أرى ان الانتحاري او غير الانتحاري من المتعصبين والتكفيرين الذي يستهدفون قتل الابرياء من الاطفال والنساء وكل الفئات العمرية وبدون معرفة سابقة وعشوائيا ولو بتخطيط مسبق هو بالتأكيد ليس بعاقل وانما مجنون ومهوس ومريض نفسيا …
وكما نسمع يوميا بالأخبار وفي مناطق مختلفة من العالم …ولست في مجال مناقشة هذه الظاهرة المؤلمة ..والتي لم نعرفها سابقا ايام زمان وانا على قدر معلوماتي البسيطة أعزيها للتطور الحضاري الفالت والمغرض كأفلام الرعب والعنف ومصاصي الدماء والجشع المادي والانفجار السكاني والبطالة وتطور تجارة الاسلحة المدمرة والمخدرات والجنس .. والاهم من هذا نشاط دعاة الصراع بين الحضارات ومؤججي الفتن الطائفية على مختلف انواعها .. والتمييز العنصري ..
من هنا نجد ان الحياة تبدأ بيوم الولادة وهو من الايام السعيدة …فنجد الانسان وعائلته يحتفلون بعيد الميلاد. ويوم حزين هو يوم مفارقته او فقدانه بالموت …وأن كان الموت بشكل طبيعي… فالنسيان بمرور الزمن علاج طبيعي لحزن الحزين ..وحسب منطق قول العراقيين ( حزن اللي يموت يوم وحزن العذول دوم ) ومنها حالات الموت بالقتل بلا ذنب كحالة قتل اولادي والاف الابرياء العراقيين وكما يفعل الارهابيون والانتحاريون والقتلة المجرمون يوميا وحتى يومنا هذا وكما يحدث في الحويجة والموصل والانبار …فالألم والحزن يصاحب الابوين طيلة عمرهما ..فهو جرح لا يندمل ابدا الا بموته ..
الحياة مسيرة معقدة وصعبة وليست (سمن على عسل) كما يتصور البعض .. فهي عناء وتعب وعذاب و( شلعان قلب ) ولاسيما عندما يتزوج المرأ وينجب اطفال ويكون عائلة ومسؤول عن تربيتها وتامين احتياجاتها وحمايتهم الى ان يكبروا الى ان يصبحوا جاهزين ومعتمدين على انفسهم …وصدق ابو المثل الشعبي عندما قال ( لكي تبني لشه عليك ان تفني لشه ) والمقصود ( باللشة ) باللهجة البغدادية هي الجسد او انسان …
فلنتصور معاناة الابوين في العائلة العراقية والتي تهوى انجاب ( اللشاش ) …والشائع عراقيا تتراوح من 5 لشاش وانت صاعد وانا اعرف شخصا ما ( مهتوك وكادح ) ومتزوج نسوان اثنين وانجب 26 طفل … ومنذ ان عرفته وحتى يومنا هذا تراه ( يركض والعشاء خباز ويريد يجيب الراس على الراس وما يكدر ) كما يعبرعنه باللهجة العراقية … ومع هذا نجد ان كل بناته وابناءه عزاز عليه ( وينطبق عليه القول العراقي …دينه ربه اطفاله ) وهكذا ككل الاباء والامهات العراقيين ..صغيرهم وكبيرهم …وكم شعرت بحزنه والمه عندما قتل الارهابيون اخيه وابن اخيه في زمن الفتنة الطائفية او عندما خطفوا احد اطفاله بعد خروجه من المدرسة ..ودفع جزية كي يطلقوا سراحه ..
والان اخونا هذا يستعين بعكازة محني الظهر ويعاني من امراض لا تعد ولا تحصى ولا زال يعمل من أجل تأمين لقمة عيش اطفاله وهو شيخ طاعن بالسن …هذا هو النموذج العراقي القديم والرائع …ولكن هل ينطبق هذا النموذج اليوم على الاجيال الجديدة من الامهات والاباء وحنانهم وحرصهم على تربية اطفالهم ….لا اعتقد ذلك ..
اكتب هذه الكلمات وقد بقراها الشباب او من في طريقهم للشيخوخة …فالشيخ وهو من تجاوز عمره السبعين …تجده يعاني من مشاكل صحية ونفسية وحتى جسدية ..منها الوحدة ..فقد يكون الزوج او الزوجة متوفيان فيفقد بذلك صديق او صديقة العمر ..فمن الملاحظ ان الزوجين كلما يتقدمان بالعمر يزدادان تقاربا والتصاقا ببعضهما ..وكما يقال بالعراقي (عشرة العمر ما تهون الا على ابن الحرام )..ولاسيما وان اصدقائهم يتبخرون اما موتا او عجزا والابناء يتزوجون ويتركوهم وحدهم وكذلك حركتهما تتحدد والشكوى من الامراض على لسانهما تتكرر…سكر.. ضغط ..قلب .. الم المفاصل وهشاشة العظام ..او التهاب المجاري والبروستات ..واقل ما فيهم النقرس. وتلاحظ ان كل منهم عنده صيدلية ادوية ( شايلهه وين ما يروح )…
وهنا أطرح سؤال حيرني ..ليش نصيحة الاطباء للمريض دوما عند كل وعكة يحس بها ( اياك ان تترك هذا الدواء وانما تستمر عليه طيلة عمرك ) ..دواء القلب.. الضغط.. السكر.. المفاصل او النقرس كلها تأخذها الى ان تموت ( اليس للأدوية مضاعفات بمرور الزمن ؟؟)..وفي بعض الاحيان الطبيب يضاعف لك الجرعة …وهكذا يعيش شيخنا المسكين وانا احدهم في عشق دائم لصيدلية الدواء دائما هي معه اينما حل او ارتحل (الله وكيلكم عيشة كشرة ) …
ههه ..والغريب الذي لاحظته شخصيا عندما امل من اخذ العلاج فأبدأ أخاوز في تناوله …عينك وما تشوف الا وصار عندي واهس فاشعر بالمرض يزداد (وأكول وي نفسي خلي اخذ الدوة أحسن لي قبل ان اموت ) فارجع ركض ومسرعا لتناول العلاج ..وهكذا دواليك ..اما أذا فكرت بأسعار الدواء فأكيد راح يزداد المرض فمن الافضل ان تبلع الحبابي وتسكت ويحلها الحلال ( يعني عوفها على ابو خيمة الزركة هو يدبرها ) …الحياة ياسادة ياكرام بالرغم من تعاستها والأمها تبقى حلوة في عين الشيخ العاجز .. ولكن كما يبدو لي تافهة في عين الانتحاري ..
اما الظاهرة الثانية عند كبار السن …هي الذكريات فهم يجترون الاحداث حلوها ومرها في ذاكرتهم …بالرغم من ضعفها ونسيان كثير من التفاصيل …فالذكريات تصل عندهم الى درجة الهوس وفي كثير من الاحيان تراه يغضب بصمت وياسف بحزن على نفسه لأنه بدأ ينسي الحوادث وتفاصيلها وتواريخها واسماء شخوصها …ويبدا بلوم نفسه لم لم يدونها كمذكرات في حينها ..ولكن ما فائدة الندم بعد لات ساعة مندم و مرور قطار الحياة بسرعة وقاربت الرحلة على نهايتها ..
وهنا اذكر قصة صديقي الوحيد ابو حاتم الحيالي رحمه الله .. كان رجلا فلاحا أميا بسيطا وشيخا لربعه ولكني كنت اعتبره معلما فهو موسوعة في القصص الشعبية والامثال العربية وتاريخ العشائر العراقية ويحفظ من الشغر الشعبي الكثير ..وكان اخا وصديقا وصدوقا بكل معنى الكلمة وقد اعتاد زيارتي يوميا في بيتي والجلوس مطولا انا واياه في الحديقة ونتبادل احزاننا ومأسينا ..فالعامل المشترك بيننا هو البكاء و ندب حظينا ..فبعد خطف اولادي بشهرين فقد ابنه عباس وهو متزوج وعنده ثلاث اطفال ولم يره ثانية …وابنه القاني عدي وابن اخته الطفل مصطفى اغتاله الامريكان وهم عزل في ليلة ليلاء ..ولم يكتفوا بذلك وانما قتلوا احفاده الاطفال في الغزالية ..وكنا انا وهو نبكي على اولادنا .. الى ان تجف دموعنا ..
وكان المرحوم يدخن بلا هوادة حيث يدخن ما لايقل عن ثلاثة علب وكنت انصحه واحذره من مغبة التدخين ولكنه لم يكن يهتم ويكرر ان حزنه لا تطفيه كل سكائر الكون … ولكن كان ذو خلق عظيم ..فكان يمتنع عن التدخين ما دام جالسا معي ..وفي بعض الاحيان اراه غير مرتاح بدون السيكارة …فأتوسل اليه ان يدخن ولا يبالي بي …فكان رحمه الله يجيبني كيف ادخن امامك وانا اعرف انك كنت مدخنا وتركت التدخين …فلا اريد تذكيرك بالتدخين ..كم كان المرحوم كريم نفس
وبعد سنوات من الحزن بدا المرحوم تضعف ذاكرته وقد قارب عمره الخامسة والثمانين ..اي اكبر مني بحوالي عشرة سنوات وفي احدى زياراته كان يحدثني بقصص سبق لي وان سمعتها منه عشرات المرات … فلم اشعر بنفسي الا وغفوت للحظات ربما من التعب او الملل وعندما وعيت على نفسي شعرت بالخجل من نفسي .. كيف اغفو وصاحبي يحدثني …عندها احسست انني كبرت وهذه احدى علامات الشيخوخة …تنام وانت جالس وبلا انذار وبدون وعي مسبق..
احد المحبين المتابعين لكتاباتي …كتب لي يقول ناصحا …الحزن سيقتلك ان استمريت عليه بهذه الوتيرة …فأولادك راحوا شهداء وسعداء بين يدي الباري ومحشورين في جنات النعيم مع الاولياء والقديسين …كلام حلو ومنطقي ومن انسان محب لا شك في ذلك …ولكن بالمقابل …ولكن هل بيد المحزون التحكم بحزنه ..او القلب وعصراته او العيون وذرف الدموع ؟؟ ابدا ليس بايدنا نحزن متى نشاء او نفرح متى اردنا … الانسان هو دم ولحم واعصاب كما يقال …
لابد ونكم سمعتم اليوم بحادثة جسر لندن وجواره وقيام مسلحون بقتل الابرياء والعزل في لندن (وقبلها في مانشستر) بدم بارد وهم يموتون ايضا أي (ينتحرون ) وانا أسأل نفسي …ايمكن ان يكون هؤلاء ..عقلاء واناس طبيعيين أم مجانين ومرضى نفسيين ..و فكم عائلة بريطانية نكبت اليوم بلا مبرر …خرج ذويهم في الصباح فرحين يضحكون ويأملون بيوم جميل وسعيد واذا بمجرم مجنون يقتلهم … وانا شخصيا احس بمعاناة ذويهم واتعاطف معهم لأنني سبق ان مررت بهذه التجربة المؤلمة ..ولكن ما فائدة تعاطفي معهم …فالتعاطف والاستنكار لن يعيد الاعزاء الى احبابهم ..وهذا ينطبق على ضحايا الكرادة والمتقاعدين في الشواكة او في هيت او الابرياء الذين قتلتهم غارات التحالف في رقة سورية و الموصل واليمن مؤخرا…
ان ما يحز في قلب كل من يحترم قدسية الحياة هو عدم مبالاة الدول والانظمة التي تؤجج وتغذي هذه الفتن والحركات وتترك المواطنين الابرياء بدون حماية …وانا واثق ان من سيدفع الثمن هم من خلق وساعد الارهابيين على ارتكاب جرائمهم .. وانني اعتقد جازما ان أوربا او الولايات المتحدة واتباع المذهب الوهابي التكفيري لن لن ينجوا من من جنون هؤلاء المجرمين ولاسيما ان لم يخمدوا نيران الحرب في العراق وسوريا وليبيا واليمن والا فالنار ستصل بلدانهم وستحرقهم يوما ما قد يكون قريبا او بعيدا والله واعلم ..
قبل 11 سنة كان يوم 28 /5 يوما مشؤوما بحياتي ولن انساه ابدا ولو لحظة واحدة …الا لعنة الله على الارهاب والطائفيين الى يوم الدين …خرج اولادي في الصباح ولم يعودا ابدأ …بسبب الارهاب الملعون وخيانة الخونة …ففقدت اولادي الاحبة كما فقد الانكليز بالأمس اولادهم وانا اتألم لإلام كل منكوب من ضحايا الارهاب المجنون مهما كانت هويته او جنسيته او دينه وطائفته … او طريقة القتل …ففقدان الاحبة صعب ومؤلم لأنه غير مبرر وليس عقلاني …واخاطب اولادي واقول لهم ..ثقوا يا أولادي حيدر وسيف ان دموعي لن تجف ولن تنساكم لحظة واحدة الى ان افارق الحياة ويواريني الثرى ويسعدني الباري بلقياكم ولم شملنا ثانية ولعن الله كل من امتدت يده عليكم وشارك في غدركم…واقول لكل ارهابي … ولكل مسؤول حكومي متخاذل وفاسد وحاقد ومتواطيء مع الارهاب والطائفيين …واينما كان في بلاد العالم …الك يوم يا ظالم …وان الله يمهل ولا يهمل .. وستصلكم نيران الارهاب الملعون فلاتتمادوا بالاستهانة بدماء الابرياء …
اللهم احفظ العراق واهله اينما حلوا او ارتحلوا …

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here