سلسلة حكايات ممن بلادي قصة قصيرة,,, ((((( رحلتي إلى الآخرة )))))

أديت صلاة الفجر برغبة .. وقرأت ما تيسر من كتاب ربي .. ثم تناولت طعام الإفطار وخرجت بشوق إلى عملي .. وجدت العمال ينتظرونني كما في كلِّ صباحٍ عند باب المصنع .. يتطلعون نحوي باحترام وحب .. فأنا كما يقولون المهندس الوحيد الذي يسأل عنهم ويساعدهم .. ويبتسم  أثناء العمل في وجوههم.

وكنت أفرح بذلك وأزداد سرورا .. كلما استطعت أن أقدم خدمة لواحد منهم .. خصوصا كبار السن .. الذين يبدءون العمل في الصباح بنشاط كبير .. ثم ما يلبثون  أن يتغيروا فجأة وتتبدد قواهم .. ويتطلعون نحوي بعيون ملؤها الاستعطاف والترحم .. خوفا من أن أرفضهم أو أقلل من أجورهم .. فتضيع الأسر الكبيرة التي يعيلونها .. فكنت أبادر إلى مساعدتهم بنفسي أو أحثّ الآخرين على ذلك.

***************

كان ذلك الصباح طبيعياً بالنسبة لي .. إلا أنني شعرت منذ الفجر بشيء خالجني لم أدرِ ما هو .. شعور غريب رافقني .. تمنيت تفسيره لكنني لم استطع.

حلَت الواحدة ظهرا .. كنت أتصبب عرقا وأنا أصلح ماكينة كبيرة كانت قد تعطّلت فأربكت عمل المصنع.

أحسست بوخزة محرقة في صدري .. خلتها أمرا عابرا.. حككت أضلاعي وبقيت أعمل .. تكررت الوخزة من جديد.. فاستعذت بالله من السوء ، وطلبت قدحا من الماء البارد.. وضعت الماء علي فمي فهويت مع القدح إلى الأرض كورقة يابسة..

*************

حملني العمال فور سقوطي إلى المستشفى .. وأدخلني الأطباء في الحال إلى غرفة الإنعاش.

كانت الدنيا مشوشة وغير واضحة في عيني .. اتصلوا بمدير الردهات الذي حرص على مراقبة جهاز القلب بنفسه.

كانت دقات قلبي سريعة ومضطربة.. وكانت أنفاسي متعبة وغير منتظمة.. وكان العرق يتصبّب من جبهتي بغزارة.

***************

في تلك الأثناء .. التي كنت فيها وكأنني لست من أبناء الدنيا .. تناهى إلى سمعي صوت حبيب مألوف .. أعاد إلي شيئا من الوعي الذي فقدته منذ لحظة الإغماء ..

إنها زوجتي الحبيبة .. تتوسل ببكاء  إلى الطبيب عسى أن يسمح لها بالدخول لرؤيتي لكنه يرفض وبكل برود يقول لا أسمح .. ويضيف وزوجتي تبكي :  إن حالة المريض خطرة والزيارة ليست بصالحه.

وهنا فقط .. تحرك جسدي للمرة الأولى .. بعد ساعات كنت فيها كجثة في ثلاجة الموتى .. انتفضتْ كل خلية في جسدي رغم الأجهزة الثقيلة والأسلاك التي كوّمها الأطباء على صدري.

وأردت أن أفتح فمي ولو لحظة واحدة.

أردت أن أصرخ أمام الممرضات والأطباء : أردت أن أقول اسمحوا لزوجتي بالدخول أرجوكم ، فعندي ما أريد قوله .. أردت أن أطلب إحضار أولادي الصغار لأقبّلهم واحتضنهم وأوصي بعضهم بالبعض ولكن بلا فائدة.

فلساني كان ثقيلا .. وقواي كانت خائرة ومبددة .. وكنت أحس بجيوش الموت تزحف نحوي وتحتل خلاياي قطعة قطعة.

***************

الخامسة عصرا ..

الأطباء يتجمّعون حولي كالجراد .. ينظرون إليّ تارة وإلى الجهاز أخرى .. ويقولون كلمات كثيرة لم أعد اسمعها ..

لقد فقدت نطقي وها أنذا أفقد سمعي..

ولم يبق إلا بصري يتوسل إلى الأطباء  أن يسمحوا لزوجتي بالدخول ولو لنصف ثانية  ..

****************

لقد كنت ألهث والموت يطاردني  كتنين مفزع ينوي التهامي ..

وفي تلك الأثناء..

تذكرت كل شيء من حوادث حياتي الماضية .. مرت جميع المراحل أمام عيني كشريط سينمائي عرضته يد خفية على سقف المستشفى .. مرحلة الطفولة البريئة التي عشتها .. ومرحلة الصبا واللعب التي مررت بها .. ومرحلة المراهقة التي قضيتها .. ومرحلة الشباب التي ضيعتها .. ثم مرحلة الكهولة التائبة التي أعيش آخر لحظاتها ..

لقد كانت الصور تزدحم أمام عيني وتتقاطع .. وبعضها كان واضحا ومحددا..

وكنت أتذكر وأتذكر ..

فهذه صورتي أيام الدراسة المتوسطة وأبي ينصحني بالصلاة فلا أسمع قوله .. وهذه صورة أصحابي يصفقون ويرقصون وسط الطريق وأنا أنضمّ إليهم بلا مبالاة  .. وهذه صورة أمي وقد تركتها تبكي ذات يوم بعد أن صرخت في وجهها  بوقاحة وتأفف .. ثم صورتي وأنا أعود ذات ليلة قبيل الفجر وأضرب زوجتي لأنها هددتني بترك البيت إن فعلتها ثانية.

شعرت بالحسرة والندم .. وتألمت على كل ساعة ضيّعتها من عمري .. وتمنيت لو أنني استمعت لنصيحة أبي وصليت وصمت وأطعت الله منذ البداية.

وكنت أتطلع إلى سقف الردهة وأردد .. بصوت لا يسمعه إلا الله : أرجعني ياربي إلى بيتي وزوجتي وأولادي .. أرجعني ربي وسأفعل كل ما تريد وتطلب.

*************

الثامنة ليلا

رأيت صورة مهولة لم أر مثلها في حياتي فزهقتْ روحي وخرجتُ من عالم الدنيا ..

حملوني ميتا إلى بيتي .. وضعوني وسط الدار فهجم أولادي عليَّ من كل صوب وكانوا يبكون بحرقة وألم ويصرخون بتوسل مرير : بابا بابا ..

آلمني عويل شهد حبيبتي .. لقد كانت تنتظرني كل ليلة لأحمل لها الحلوى  وأضمّها إلى صدري .. وها أنذا أحمل إليها هذه الليلة .. وها هي تبكي فوق جثتي ويداي ميتتان ولا أستطيع احتضانها ولا تقبيلها ..

كانت زوجتي تبكي بحرقة .. وأخواني وأخواتي وأصدقائي وجيراني .. الكل كانوا يبكون وينادون باسمي لكنني كنت مشغولا عنهم بما لا أستطيع وصفه.

حملوني إلى المغتسل ..

غسّلوني وحنّطوني وكفّنوني .. ثم وضعوا جثتي على السيارة واتجهوا بي إلى مقري الأبدي ..

************

وصلت السيارة إلى كربلاء المقدسة .. أدخلوني إلى ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) .. فشعرت بنوع من الأمن والسكينة .. كمن ينقل قدمه من ساحل مضطرب إلى سفينة آمنة .. فتوسّلت إلى مصباح الهدى  أن يكون شفيعي في موقف القيامة.. وذكّرته بالدموع الغزيرة التي كنت أذرفها بكاءً على مصيبته .. وبمجالس العزاء التي كنت أحرص على حضورها أنا وأولادي في ليالي رمضان ومحرم.

ثم اتجهت بنا السيارة بعد ذلك إلى النجف الأشرف .. أدخلوني إلى ضريح أمير المؤمنين علي (عليه السلام) .. صلّوا عليّ صلاة الجنازة .. وبعدها اتجهوا بي إلى وادي السلام ..

**********

ومع أنني كثيرا ما كنت أزور ذلك الوادي المقدس الحزين .. الذي اختارت فيه ملايين الأرواح أن تعيش ما تبقى من عمرها في عالمنا إلى جوار أبي تراب .. إلا أنني وجدت هذه المرة أن زيارتي له غير عادية .. ففي كل مرة كنت أزور قبر أبي  وأقرأ ما تيسر من القرآن ثم أعود بعد ذلك مسرعا إلى بيتي .. إلا أنني أدركت عندها أنني سأظل في هذا الوادي إلى يوم القيامة ..

وضعوني على حافة قبري وبكوا عليّ بكاءً مرّا ساعات طويلة .. وكان بعضهم يلقي بنفسه على جثتي من شدة الحزن والحب .. لكنهم اضطروا جميعا آخر الأمر إلى إلقاء التراب على رأسي و صدري وقدمي .. بمجرد أن  وضعني الحفار في القبر وطلب منهم أن يهيلوا التراب علي ..

لقد حلّ الظلام سريعاً في أركان حفرتي .. وغابت شخوص المحبين عني .. ولم أعُد أرى شهد وأسماء وأحمد وزوجتي وأخواني وجيراني .. غاب الجميع وبقيت وحدي.

****************

القبر مثير ومفزع  .. ولا يمكن للكلمات أن تصفه .. ورؤية الملكين اللذين نزلا في الحال إلى قبري زادتني خوفا وهلعا.

سألاني وهما يكتبان من ربك ؟؟ فأجبتهما الله ربي .. ومن نبيك ؟؟ فقلت محمد نبيي .. ومن إمامك ؟؟ فقلت علي وأولاده المعصومون أئمتي .

وظلاّ يسألان ويسألان .. وأنا أجيب وأرتجف وأحاول أن أتذكر .. وكنت أتصبّب عرقا كلما نسيت أو تلكأت أو غابت عني الإجابة ..

وفي زحمة الردود والأسئلة .. والخوف والعرق الذي كاد يغرقني .. اقتربت مني مخلوقات جميلة أسعدني حضورها .. قال أحدها أنا صلاتك التي كنت تصليها لوقتها .. وقال الآخر وأنا زكاتك .. وقال ثالث وأنا صومك .. جئنا للدفاع عنك والوقوف إلى جانبك .. ثم أضاء القبر فجأة ليدخل شاب جميل لم أر مثله في حياتي قال وهو يبتسم : وأنا المعروف أيها المهندس .. الذي كنت تصنعه لأولئك العمال البسطاء كبار السن .. الذين كنت تساعدهم وتبتسم في وجوههم .. ثم التفت إلى الصلاة والصوم وقال بثقة : يمكنكم الذهاب مؤقتا وسأكون إلى جانبه في هذه الشدة ..

**************

مكثت في قبري أمدا طويلا .. لا أدري  كم هو .. إلى أن وقعت الواقعة وحلّت القيامة .. وكان ما كان من أهوال مخيفة يشيب لها رأس الرضيع ..

فالسماء انفطرت والكواكب انتثرت .. والبحار فُجّرت والقبور بعثرت .. ونفخ اسرافيل في الصور نفخة خرجت بسببها جميع الأرواح إلى موقف الحساب كلمح البصر .

******************

أوقفوني للحساب في طابور طويل ظننت أنه سيدوم عاما .. إلا أنه تلاشى في الحال لأجدني أمام أعمالي وجها لوجه .. وربي يسألني بنفسه عن كل صغيرة وكبيرة في حياتي الماضية .. ووجدت من ألم الخوف ما لا يحتمله جبل عظيم .. خصوصا بعد أن تساوت كفتا ميزاني .. ولم تتفوق حسناتي على سيئاتي .. وبقيت عريانا ذليلا منكسرا انظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي .. إذ الخلائق في شأن غير شأني ..

وظللت على تلك الحال إلى أن شملتني شفاعة الحسين (عليه السلام) .. الذي كان يملأ حبُه قلبي منذ نعومة أظفاري .. وكان ينير لي دروب الحياة كلما التبست عليَّ الأمور أو اختلف الناس من حولي ..

وتقدم مني ملك كريم كأنه اللؤلؤ حملني بسلام إلى حيث يقف أصحاب اليمين مسرورين ..

ومن هناك زفونا جميعا بموكب مهيب إلى الجنّة  .. (انتهت).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here