بين التهريج وماقل ودل

علي علي

بإنصات على عجالة، واستماع عابر دون إصغاء، الى العبارات التي تتضمنها خطب ساستنا وتصريحاتهم، يتبين دون عناء أنها أقرب الى التورية والغموض منها الى الوضوح والبيان، حتى لكأنها ضرب من طلاسم محضر أرواح، أو هلوسات معتوه، أو هجر محتضر. فنراه -السياسي- يتمنطق بها لغايات في قلبه، ولغرض بعيد عن فحوى ماتحمله مفرداتها من رقي ثقافي ونضج عقلي ووعي اجتماعي، فضلا عن خلوها من الشعور الوطني. وبذا يكون المواطن -الذي وضع يده على خده بانتظار حقه من لدن مسؤوليه- قد توصل الى يقين أن ليس كل مايقوله المسؤول كان قد بلوره في عقله، وليس كل مايبلوره في عقله يكون صادقا في طرحه، وليس كل مايطرحه يكون جادا بتطبيقه، وليس كل مايتم تطبيقه عاجلا على أحسن وجه، سيتم تطبيقه آجلا بالمواصفات ذاتها، حتى باتت تصريحات المسؤول كما يقول مثلنا: (يفوتك من الچذاب صدگٍ چثير) إذ يضيع كثير من صدق مايصرح به ساستنا بين زوابع الأكاذيب والأباطيل المسجلة في صفحات ماضيهم، علاوة على التي يأتي به مستقبل الأيام عقب تصريحاتهم.
ولقد قالوا قديما؛ (خير الكلام ماقل ودل)، فالقلة والدلالة -مجتمعَين- لو تمت بهما أقاويلنا لبلغنا مقاصدنا بأقل جهد ووقت، فهما -القلة والدلالة- تغنيانا عن متاعب الإطالة وعناء الإسهاب فيما نقول، وقطعا هذا لن يتحقق إلا إذا كنا نعي مانتفوه به، وندرك أبعاده وفحواه ومغزاه، وقبل هذي وتلك وذاك، علينا أن لانحيد عن الصدق والشفافية والوضوح فيه، لنضمن حسن الاستماع وسعة الإصغاء لدى السامع فيما نحن ذاهبون فيه. أما اللغط، فكما معلوم هو الصوت والجلبة والحديث الصاخب المختلط المبهم، وهو مذموم ومكروه في حالتي الإطالة والإيجاز على حد سواء. وقد قال الشافعي:
وصن الكلام إذا نطقت ولا تكن
عجلا بقولك قبلما تتفهم
لم تُعطَ مع أذنيك نطقا واحدا
إلا لتسمع ضعف ما تتكلم
وما ذكرني بفضل الكلام القليل والدال، هو التهريج الإعلامي الذي ينتهجه ساستنا في كل محفل ونادٍ، فهم لايتوانون عن البوح بكل ما يأتي على لسانهم من مفردات وعبارات، قبل ان يتدبروا ماتعنيه ومن دون أن يستقرئوا صداها، وما تعكسه من آراء وأفكار ووجهات نظر. فكثيرة هي المقولات التي يتقول بها رجالات حكومتنا ووجهاء بلدنا، وقد يظن الغريب عن الساحة العراقية وغير الملم بما يجري فيها من أحداث مأساوية، دارت رحاها على حساب المواطن في الأعوام الأربعة عشر الأخيرة، أن مايسمعه من تصريحات دليل على أن هناك شخصيات وطنية، نذرت نفسها لتقديم ما يخدم العملية السياسية في البلد، ولكن حين يعرج على ماوراء التصريحات وما يتحقق منها، يتضح له جليا أنها تعكس ازدواجية او خلطا لأوراق، لا يبرّأ منها قائلها تحت ذريعة السهو او الغفلة او الهفوة، بل هو قاصدها بما يثبت للقاصي والداني، أنه منذور بالوقفات الضدية من العراق برمته، وليس من العملية السياسية او من حكومة بعينها او رئيس وزراء فحسب.
وكناتج طبيعي عن تراكمات اللعلعة وفائض الكلام، لم يعد “البيان رقم واحد” يلفت الأنظار، ولا “الخطاب التاريخي” الذي يوجهه المسؤول حدثا جللا يسترعي الانتباه، فقد صارت ألاعيب القادة المتعاقبين على مسك زمام المسؤولية في مؤسسات العراق بكافة مستوياتها، معروفة ومعلومة وبديهة، حفظها المواطن عن ظهر قلب، وباتت خططهم وتحركاتهم ونياتهم مكشوفة، بعد أن اتضحت الرؤية بعين المغلوب على أمره المواطن، وأمسى قادرا على قراءتها من آخر السطر رجوعا الى أوله، وماهذا طبعا إلا نتاج ماحصده من تصريحاتهم، التي مافتئوا يطلقونها عبر كل وسيلة إعلام ونشر أتيحت لهم، حتى بات غسيلهم وما يخفونه من ألبسة وسخة وأقنعة نتنة، على مرأى العراقيين ومسمعهم وملمسهم.
[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here