رحلة عراقي قادته المقادير إلى الإعدام على قارعة الطريق

لم يبذل القتلة أي محاولة لإخفاء جثث 15 رجلا أطلقوا عليهم النار على قارعة طريق يمتد عبر حقول القمح في شمال العراق.

بدأت الجثث، التي كان أصحابها معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي، تتحلل على مرأى من السيارات العابرة بين الحين والآخر على الطريق الذي تناثرت عليه فوارغ الطلقات النارية.

سيق اثنان من الرجال مسافة قصيرة في الحقل حيث أرغم الجناة أحدهما فيما يبدو على الركوع قبل أن يطلق عليه النار من الخلف.

وبجواره تمددت جثة الرجل الآخر الذي كان يرتدي ملابس جينز باهتة اللون وفي جيبه الخلفي بطاقة هوية باسم قصي محمد (31 عاما).

يقع المكان الذي عُثر فيه على الجثث في أرض تخضع لسيطرة قوات حكومية على مسافة 20 كيلومترا من خط الجبهة في الموصل حيث تقاتل القوات العراقية لإخراج مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية من آخر جيب يسيطرون عليه.

وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش التي فحصت صورا التقطتها رويترز من الموقع إن الدلائل تشير بقوة إلى أن هؤلاء الرجال قتلوا بأيدي قوات تابعة للدولة العراقية التي تعتقل آلاف المشتبه بهم أثناء استعادة الأراضي من مقاتلي الدولة الإسلامية.

وقالت بلقيس واللي الباحثة المتخصصة في الشأن العراقي في هيومن رايتس ووتش “من الصعب التوصل إلى أي استنتاج سوى أنهم كانوا في قبضة قوات حكومية عند إعدامهم” وذلك بأخذ المكان الذي عثر فيه على الجثث وكذلك عصابات الأعين والقيود في الاعتبار.

ومن خلال المعلومات المستقاة من بطاقة الهوية التي كانت في جيب قصي تمكنت رويترز من التأكد أن اسمه مدرج على قاعدة بيانات حكومية تضم أسماء 90 ألف رجل مطلوبين في مختلف أنحاء العراق بمن فيهم من تحوم الشبهات حول عضويتهم في تنظيم الدولة الإسلامية.

وقد فحص ضابط كبير بجهاز الأمن الوطني القائمة بناء على طلب رويترز ووجد اسمه فيها.

كما قادت بطاقة الهوية رويترز إلى القرية التي أمضى فيها قصي معظم حياته في قضاء شرقاط على بعد نحو 50 كيلومترا من المكان الذي سقط فيه قتيلا.

كان قصي الشقيق الأصغر بين خمسة أشقاء. ترك الدراسة وتزوج بيضاء ابنة عمه بعد اجتياح قوات قادتها الولايات المتحدة للعراق عام 2003 عندما اشتهرت قريته بأنها معقل للمتمردين.

وتقول زوجته وشقيقه الأصغر خالد إن قصي كان يتجنب المشاكل ويعيش على دخله من عمله كمبيض بالجص إلى أن اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية المنطقة قبل ثلاثة أعوام.

فقد رحب كثيرون في القرية بمقاتلي التنظيم ومنهم أعمام قصى وأبناء عمومته وساعدوهم في فرض حكمهم المتشدد.

لم ينضم قصي إلى صفوف المتشددين في البداية غير أنه بعد مرور أربعة أشهر على سيطرتهم على مقاليد الأمور سمع خالد أن شقيقه انضم إلى دورة تدريبية أجراها التنظيم وذلك من أجل الحصول على مال كعضو فيه. ثم ترك قصي الدورة قبل أن يكملها.

قال خالد لرويترز “كانت حاجة مادية (التي دفعته لذلك) لا الانتقام ولا الدين”. وأضاف أن الأشقاء الثلاثة الآخرين خالطوا المتشددين في فترة من الفترات لكنه ظل وحده بعيدا عنهم.

وتنفي زوجة قصي البالغة من العمر الآن 26 عاما أن له أي صلة بتنظيم الدولة الإسلامية. وتقول إن قصي بذل قصارى جهده لإعالة أطفالهما الخمسة وذلك ببيع الثلج أو الوقود الذي كان يشتريه من محطات البنزين ويعيد بيعه بهامش ربح بسيط.

وقالت إن اثنين من أشقائها قتلوا على أيدي المتشددين. فكيف ينضم إليهم زوجها؟

* “بكينا جميعا لكن لم يكن من رحيله بد”

مع اقتراب القوات العراقية من القرية في الصيف الماضي انضم قصي وثلاثة من أشقائه إلى مئات من أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية وعائلاتهم الذين تراجعوا شمالا صوب الموصل أكبر المدن التي سيطر عليها التنظيم.

قال خالد الشقيق الوحيد الذي تخلف عن الذهاب إن الآخرين رحلوا خوفا من أن تقتلهم القوات العراقية والفصائل الداعمة للحكومة بسبب صلاتهم بالمتشددين سواء كانوا يؤيدون المقاتلين فعلا أم لا.

وبقيت بيضاء في القرية مع الأطفال. وقالت وهي تعود بذاكرتها إلى الوراء إن زوجها قال لها “ابقي هنا. وسأعود إليك. لا أريدك أن تعاني أنت والأولاد معي”.

وأضافت “بكينا جميعا لكن لم يكن من رحيله بد”.

وعاد قصي مرة واحدة في سبتمبر أيلول لزيارة الأسرة خلال عيد الأضحى.

وقالت بيضاء “أكلنا معا وفرحنا … لكنه رحل في اليوم نفسه ورجع الحزن من جديد”. ولم تره الأسرة مرة أخرى.

وفي أعقاب ذلك استعادت القوات العراقية القرية الأمر الذي كان معناه أن خط الجبهة أصبح يفصل قصي عن أسرته. وفي أكتوبر تشرين الأول بدأت القوات الحكومية هجومها على الموصل في معركة شرسة ما‭ ‬زالت مستمرة حتى الآن.

وظلت بيضاء على اتصال بقصي عبر الهاتف إلى أن أبعدتها فصائل سنية محلية هي وأطفالها إلى مخيم لأقارب مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية وصفته منظمة هيومن رايتس ووتش بأنه سجن مفتوح.

وكانت الهواتف محظورة في المخيم لأسباب أمنية ولذلك فقدت الاتصال بقصي. لكنها سمعت أنه حاول الهرب هو وأشقاؤه الثلاثة من الموصل الشهر الماضي مع آلاف المدنيين الفارين أمام تقدم القوات الحكومية.

ومن الصعب التحقق من الجهة التي وقع في قبضتها. إذ يشارك في الحرب على الدولة الإسلامية عدد من القوى المختلفة، من الشرطة الرسمية ووحدات الجيش إلى عشرات الفصائل المدعومة من الحكومة.

ومن الممكن أن يكون أي من هذه القوى قبض على قصي أو سلمه إلى قوة أخرى.

وقال عضو في فصيل محلي تدعمه الحكومة عند حاجز أمني على امتداد الطريق الذي عثر فيه على الجثث إن “قوات أمنية” أحضرت مجموعة الرجال قبل ذلك بثلاثة أيام لكنه لم يحدد الجهة التي تتبعها القوات.

وبعد ذلك قامت الجهة التي تحتجز قصي والرجال الآخرين بنقلهم إلى المكان الذي أُطلق فيه الرصاص عليهم. كانت على عينيه عصابة من القماش بينما كانت يداه مقيدتين من الخلف بحبل.

وعندما وصلت رويترز إلى الموقع كانت الديدان والكلاب الضالة تنهش الجثث وكانت درجة الحرارة التي تبلغ 40 درجة قد عجلت بتحللها.

أبطأت بعض السيارات من سرعتها لإلقاء نظرة. بينما انطلق البعض الآخر بسرعة كبيرة لتحاشي المشهد. وكان هواء ساخن يهب عبر الحقل.

وفي الأسبوع الماضي سُمح لبيضاء وأطفالها أخيرا بمغادرة المخيم الذي ظلوا محتجزين فيه خمسة أشهر. وفي غيابهم تعرض بيتهم للتدمير على أيدي ميليشيا محلية ولذلك انتقلت بيضاء للإقامة مع بعض أقاربها في قرية قريبة أخرى. وكانت رويترز هي من نقل إليها خبر مصرع زوجها.

وقالت بيضاء وهي تربت على شعر أحد أبنائها الثلاثة وهو نائم على الأرض بجوارها “ليس لدينا أي مكان نذهب إليه”.

(إعداد منير البويطي للنشرة العربية – تحرير لبنى صبري)

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here