الخراب والدمار مشاهد مازالت حاضرة في الأنبار

كمال العياش

وأنت تجوب شوارع المدن المحررة في محافظة الأنبار من الفلوجة (60 كلم) غرب العاصمة بغداد، إلى قضاء الرطبة (450كلم) غرب مدينة الفلوجة، يخيل لك أنها خرجت للتو من حرب طاحنة، فمشاهد المنازل المهدمة، والطرق الرئيسية المدمرة، والجسور المقطعة، والعبوات الناسفة التي مازالت منتشرة في الطرقات الفرعية وتحت ركام المنازل.

مشاهد نقاط التفتيش التي انتشرت بشكل مكثف باتت هي الاخرى مألوفة ، جميع تلك المشاهدات تثير عددا من التساؤلات التي تسعى إلى معرفة جدوى حملات الإعمار، التي صدعت رؤوس المتابعين ولا وجود لها على ارض الواقع.

الرمادي مركز محافظة الأنبار (110 كلم) غرب العاصمة بغداد، ومدن هيت، والبغدادي الى الغرب منها، مازالت تعيش وسط نزاعات عشائرية وأخرى سياسية، تسعى الى بسط النفوذ والسيطرة على مقررات المحافظة، حسب بعض الوجهاء والشيوخ، الذين أكدوا أن تلك النزاعات أسهمت في تردي الواقع الخدمي والصحي، وباتت تهدد امن المحافظة وتمكن داعش من السيطرة مرة أخرى مستثمرا التفكك الذي تعيشه العشائر في عموم الأنبار.

تهديدات داعش لمدن الأنبار لم تنته، لاسيما وان صحراء الأنبار، ومناطق جزر الخالدية والرمادي وهيت وصولا الى القائم (380 كلم) غرب العاصمة بغداد، مازالت تحت سيطرة داعش، وقد تكلمنا عن هذه التهديدات في تقرير سابق، نشر على موقع “نقاش” في حزيران 2016.

قضاء الرطبة الذي يعد قضاء مهجورا، حسب عماد الدليمي قائممقام القضاء الذي تحدث في أكثر من مناسبة عن ضرورة دعم القضاء امنيا، إلا انه يؤكد دائما لا وجود لخطط حقيقية تسهم في حماية المدينة، ما يجعلها أسيرة بيد داعش يستطيع السيطرة عليها في أي وقت.

مدن عنه وراوه والقائم مازالت تحت سيطرة التنظيم المتشدد “داعش”، ولا يبدو أن للحكومة المركزية والقيادات الأمنية خطة قريبة لتحرير تلك الأقضية، وبقي هذا الملف معلقا منذ عام تقريبا، بعد أن توقفت العمليات العسكرية في محافظة الأنبار، التي كان آخرها تحرير مدينة الفلوجة أواخر حزيران 2016.

ملف النازحين هو الآخر مازال عالقا، فهناك عشرات الآلاف ممن يفترشون الصحراء بعضهم متهم بأنه من عائلات داعش والبعض الآخر ممن تضررت منازلهم أو نزحوا من المناطق التي مازالت تحت سيطرة الجماعات المسلحة، والحكومة المحلية لم تتخذ قرارا إلى الآن، ويبدو أنها عاجزة عن حل هذا الملف الذي بات إنسانيا، أكثر مما هو أمني.

وليس ببعيد عن هذه الصراعات السياسية والحزبية والعشائرية، تعاني عموم أقضية المحافظة ترديا واضحا في الخدمات البلدية والصحية، لاسيما في ملف انتشار الجثث تحت ركام المنازل، التي دمرت غالبيتها فضلا عن أحياء مدمرة بالكامل، مهددة بكارثة بيئية.

وبالنظر الى نصف الكأس المملوء يكافح الجميع لعودة الحياة، فترى مشاهد الطلبة والتلاميذ وهم يملأون الطرقات ذهابا وإيابا الى مدارسهم، يرسمون صورا مفعمة بالحياة تسر الجميع، لاسيما الذين يحلمون بعودة الحياة الطبيعية الى مدينتهم من جديد، ومشاهد إعادة اعمار بعض المنازل التي دمرت جزئيا أو كليا من قبل أصحابها.

تشير مديرية تربية الانبار الى عودة أكثر من 80% من طلبتها الى مقاعد الدراسة في محافظة الانبار, وتؤكد أن العام المقبل سيكون عام عودة جميع الطلبة النازحين الى مدنهم مع بداية العام الدراسي الجديد، بعد الاعتماد على الجهود الذاتية، ودعم بعض المنظمات المحلية والدولية، لإعادة عدد كبير من المدارس والمؤسسات التربوية.

غالبية العائدين إلى محافظة الأنبار لم يقفوا مكتوفي الأيدي بانتظار هبات حكومية أو دعم إنساني ينتشلهم من واقع وصفوه بالمرير، تمكنوا من التكيف مع الوضع الجديد وباشروا في أعمالهم اليومية المعتادة، إن كانت تجارة أو وظيفة.

عمار العلواني الذي يقطن حي الجمعية وسط الرمادي، والذي تمكن من ترميم منزله وافتتاح مشروعه الصغير في تجارة الخضراوات، تحدث لــ”نقاش”، قائلا “بدأنا نتكيّف مع الوضع الجديد لمدينتنا، ونرسم ملامح حياتنا اليومية ونحاول أن نذلل الصعوبات التي تواجهنا، وان كنا نعيش على هامش الحياة الطبيعية، إلا أن الحياة لن تتوقف وعلينا أن نمضي على الرغم من كل الصعوبات”.

مشهد التمييز بين الأحياء والمناطق بات مألوفا، فلكل منطقة أو حي أو قضاء نصيب من الإعمار، بحسب الدعم المقدم لتلك المناطق من قبل سياسيين أو أحزاب أو بعض المتنفذين، باعتبارها قاعدة جماهيرية لهذا الحزب أو ذاك.

السكان المحليون يشيرون إلى تمييز واضح في تقديم الخدمات، فهناك اختلاف واضح بين ما تقدمه الحكومة المحلية من خدمات صحية وبلدية على مستوى الأحياء والقرى، فان كان في هذا الحي مسؤول امني أو شيخ عشيرة أو ممثل حزب معين، هذا الحي سينعم بخدمات مميزة عن غيره.

وقد يكون الكلام عن ابسط الخدمات المقدمة أو انعدامها لدى المواطنين هو شيء ثانوي، أمام العودة والاستقرار والمحافظة على المكاسب الامنية التي تضمن للسكان المحليين عدم سيطرة الجماعات المسلحة مرة أخرى، وحرمانهم من مدينتهم واستقرارهم الذي فقدوه في الفترة الماضية.

السكان المحليين في الأحياء الجنوبية لمدينة الرمادي الذين التقينا بهم الذين أكدوا أن المخاوف من عودة داعش قد تبددت، والحذر قد زاد وروح المسؤولية ارتفعت، من خلال تعاون المواطنين مع القوات الأمنية، في التبليغ عن أي مشاهدات يعتقدون بأنها تندرج ضمن الفعاليات الإرهابية.

عبد الحميد الفراجي الذي يقطن حي التأميم جنوبي الرمادي، يمارس حياته بشكل طبيعي على الرغم من ارتفاع حماسه وهو يراقب يوميا مداخل ومخارج حيه، ويرصد الأشخاص الغرباء ويتولى مسؤولية تدقيقهم، حتى أصبح معرفا لدى القوات الأمنية ومخولا من قبلهم.

يشير الفراجي الى أن “حماية مدننا وعدم الوقوع مرة أخرى تحت سطوة الغرباء، أسهم في ارتفاع الحس الأمني لدى غالبيتنا، وان كنا واثقين أن الأجهزة الأمنية مازالت مخترقة، إلا أننا نعمل ما نعتقد صوابا”.

حكيم ناجي احد السكان المحليين لمدينة الفلوجة، والذي يقطن حي الشهداء جنوبي المدينة، عاد مؤخرا الى مدرسته ليقف مراقبا على الامتحانات النهائية للدراسة الإعدادية للمرة الأولى منذ ثلاث سنوات، يصف الواقع التربوي بالصدمة لما شاهده من تغيرات جذرية لدى سلوكيات الطلبة العائدين، والتي تختلف كثيرا عما كانت عليه في السابق.

يقول ناجي إن “القادم أصعب وهو بحاجة الى جهود جبارة من قبل السكان المحليين والمؤسسات التربوية لإعادة الجميع الى جادة الصواب التي نسعى الى التمسك بها لاسيما شريحة الطلبة التي تعد اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here