لغتنا العربية وفضل القرآن !

* بقلم د. رضا العطار

ان ما يخص طبيعة اللغة العربية، فانها مرآة الفكر ووسيلته الادق والاكثر وضوحا في التعبير عن ذاته، لذا فهي وان تميزت بقدر عال من الوضوح، الاّ انها لا تعبر الاّ عن الجزء الواضح من الوعي الانساني الذي لا يمثل بدوره الا حيزا ضيقا من شخصيته.

اما ما يخص القرآن الكريم، فانه كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حكيم. نزل به الروح الأمين على اعظم الخلق، منجّما مقسطا في ثلاث وعشرين سنة، حتى تستعد القوى البشرية لتلقي هذا الفيض الألهي، وهو معجزة الأسلام الكبرى، اذ لم يبلغ اي كتاب ديني او دنيوي ما بلغه القرآن الكريم من روعة البيان ومس المشاعر واسر القلوب، سواء حين يتحدث عن عظمة الكون وجلاله او حين يشرّع للناس ما به صلاح معاشهم، او يصور لهم جمال الفردوس مكافئة لسلوكهم، او يقص عليهم من انباء الرسل الاولين وما فيه من العبر للمؤمنين.

فأنه في الأسلوب لا يباري في قوة الأقناع وبلاغة التركيب. فهو طراز وحده، له سحره البياني بل له اعجازه الذي انقطعت أمال العرب دونه في محاكاته او الاتيان بشئ على مثاله في السيطرة على الالباب. وقد تحداهم جل ذكره ان ياتوا بسورة من مثله، فعجزوا وذلّوا. ( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين ) صدق الله العظيم

يقول الجاحظ الذي عاش في القرن الثاني للهجرة: ( بعث الله محمدا عليه السلام في زمن اكثر ما كانت العرب فيه شاعرا وخطيبا، واحكم ما كانت لغة، واشد ما كانت عدّة، فدعاها من اقصاها الى ادناها الى التوحيد وتصديق الرسالة. فلما ازال الشبهة، وضعهم امام الاقرار بجهلهم وحيرتهم، لقد نصبوا له الحرب. فدل ذلك على عجز القوم مع كثرة خطبائهم ووفرة شعرائهم. لأن سورة واحدة كانت كافية ان تنقض اقوالهم وتكشف اكاذيبهم في الخروج من الاوطان. وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والفضل، ولهم الرجز الفاخر والخطب البليغة واللفظ المنثور )

وكان طبيعيا ان يستكين العرب امام هذه الذروة الرفيعة من البلاغة والبيان وهي ذروة ليس لها في اللغة العربية سابقة ولا لاحقة، ذروة جعلت العرب حين يستمعون الى ايات القرآن، يخرون على وجوههم لربهم ساجدين، مشدوهين بجماله مبهورين ببلاغته.
( لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله ) صدق الله العظيم
ولا زال هذا الشعور يختلج قلوب المؤمنين من المسلمين في العصر الراهن لما يفتح لهم القران من افاق في العالم العلوي وما يؤثر بهم في صميم الوجدان الروحي.

ان القرآن يمتاز باسلوب خاص به، فهو نظم بديع، فُصلت آياته بفواصل تطمئن النفس الى الوقوف عندها، وتتنوع هذه الفواصل بين طوال وقصار بتنوع موضوعاته، يغلب عليه الايجاز والاشارة في بدا الدعوة قبل الهجرة حين كان الرسول عليه السلام يدعو الى نبذ الاصنام وعبادة الله. فلما انتقل عليه السلام الى يثرب غلب عليه البسط والاطناب لبيان نظم الشريعة وما ينبغي ان تكون مصالح البشر في حياته مبنية على نظام العدل الاجتماعي على اختلاف الامكنة والأزمنة.

وقد اثّر هذا الكتاب العظيم آثارا بعيدة في اللغة العربية، فقد حوّل ادبها من قصائد في الغزل والهجاء والاخذ بالثأر ووصف الخيل والابل والسيوف والرماح الى ادب عالمي يخوض في مشاكل الانسان و الحياة، ينظم اموره الدينية والدنيوية، فأرتقى الادب العربي رقيّا لم يكن يحلم به، واتسعت آفاقه، فظهرت فيه الفاظ جديدة مثل القرآن والفرقان والكافر والمشرك والمنافق والصلاة، فمدلولات هذه الالفاظ لم تكن معروفة قبل بزوغ فجر الاسلام.

فالقرآن بروعة لغته، نظم الحياة الاسرية تنظيما ادبيا: ماديا ومعنويا، عقليا وروحيا، تنظيما يكفل سعادة الانسان على اكمل وجه. وعلى نحو ما جمع العرب على دين واحد وعلى لهجة واحدة من لهجات اللغة العربية، هي لهجة قريش. بعد ما كانت تسود لهجات القبائل العدنانية في الشمال على لهجات القبائل القحطانية في الجنوب في زمن الجاهلية.
وكانت اللغة العربية هي التي حملها العرب معهم في فتوحاتهم، فأنتشرت في العالم الاسلامي جميعه من الصين شرقا الى المحيط الاطلسي غربا، اذ كانت تلاوته فرضا مكتوبا على المسلمين. (ورتل القرآن ترتيلا). وبذلك اصبح للقرآن فضل عظيم في حفظ اللغة العربية وذيوعها وانتشارها في ملايين كثيرة من الناس عبر اجيال متعاقبة وقرون مترادفة الى اليوم.

فالقرآن هو الذي حفظ اللغة العربية عبر دهور متطاولة، وهو الذي حوّل العربي من انسان جاهل يؤمن بالخرافات الى انسان يتطلع الى الحياة في بشر وشغف. وهو الذي فتح امام المسلمين ارض الله الواسعة كي تدخل الى اللغة العربية امم كثيرة شاركت في لسانها وادابها، وتعاونت في نهضتها الروحية والاجتماعية والعلمية، في ترقية الأنسان. ومن الحق ان يقال، ان كل ما كسبته لغتنا العربية من آداب في الشعر والنثر كان ذلك بفضل القرآن الكريم وحده،

اما في مجال العلوم الطبيعية والعقلية والفلسفية، فقد جاء في القرآن مايزيد عن سبعين صورة من الالفاظ، دالة على العلم ومشتقاته. فإننا امام كتاب جعل للعلم والفكر منزلة، هيهات ان تجد لهما نظير في اي مصدر آخر. القرآن لا يريد للأنسان علما، مجرد علم فحسب، بل يريد له ان ينفذ في اقطاره، لهذا هداه هذا الكتاب العظيم الى وجوب قيام المعرفة على اساس العلم الخالص. فلا عجب ان اصبح للعرب بعد ظهور محمد (ص) بأقل من قرنين، نزوع خطير نحو الحركة العلمية بين المسلمين، التي ايعنت ثمارها زمن العباسيين في بغداد، فكانت بوادر علمية زاهرة تمثلت في نخبة الاعلام كمثل
ابن سينا في الطب والرازي في العلوم وابن حيان في الكيمياء والكندي في الطبيعيات وابن ماسوية في علم التشريح وابن النفيس في الدورة الدموية وابن الهيثم في الفيزيائي بصري المولد الذي يصفه الكاتب الامريكي المعاصر ميشيل هاملتون مورغان في كتابه الفريد Lost History المحفوظ حاليا في مكتبة الكونغرس بواشنطن،
– بأنشتاين زمانه – يقول فيه ( لم يكن ممكنا لعلمائنا كوبرنيكوس وغاليلو غاليلي ونيوتن من تحقيق ابحاثهم العلمية الاّ بفضل نظريات ابن الهيثم الذي سبق زمانهم ب 600 سنة )

وفي سياق فضل القرآن على اللغة العربية، اقول : انه لم يكن انتشار الحضارة العربية في اقطار كثيرة من العالم في صدر الاسلام وبعده، بفضل الفتوحات العسكرية وبجهد التجار الاخيار وحدهما، بل انما يعود الفضل الاكبر الى عظمة اللغة العربية، بعد ان هذبها القرآن بعلو بيانه وروعة بلاغته وجمال سحره.

لنتصور، حالة العرب، لو لم يبلغهم الرسول عليه السلام برسالته، لما جاوزت لغتهم نطاق جزيرة العرب، ولظلوا وثنيين في تنابذ و شقاق وحروب، بل لعل لغتهم كانت قد اندثرت كما اندثرت لغات قديمة كثيرة. فالقرآن هو الذي نفخ في لغتهم الروح والحياة، وهو الذي اتاح لهم الدوام على توالي الزمن، وهو الذي نقل عرب الجزيرة من لغة بداوة متخلفة الى لغة مهذبة متحضرة، حتى اصبحت اللغة العربية لغة عالمية، اتخذتها أمم كثيرة لسان ثقافتها وآدابها. ولا يوجد في تاريخ البشرية كتاب له هذه الاثار الجسيمة في تغير احوال البشر نحو الاحسن، بل القرآن هو وحده في هذا الباب. انه حقا مفخرة العرب ومعجزة الاسلام وايته العظمى.
فلا غرو ان يصرح الفيلسوف الانكليزي الشهير برنارد شو قوله:
( ان جهل رجال الدين عندنا في القرون الوسطى جعلهم يرسمون لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، لكنني اطلعت على امر هذا الرجل فوجدته اعجوبة خارقة، وتوصلت الى انه لم يكن عدوا للمسيحية، بل يجب ان يسمى منقذ البشرية، وفي رأي انه لو تولى امر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر اليها. اني اعتقد ان الديانة المحمدية هي الديانة الوحيدة التي تجمع كل الشرائط الموافقة للحياة. لقد تنبئت بان دين محمد سيكون مقبولا لدى اوربا مستقبلا. وما احوج العالم اليوم الى رجل مثل محمد )

* مقتبس من كتاب (الفن ومذاهبه) لمؤلفه شوقي ضيف مع اضافات لكاتب السطور !

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here