عناقيد النار.. جدلية التأويل في السياسة العراقية: عبد الكريم قاسم (2)

الحلقة الثانية

د. حميد حمد السعدون

لكن القضية أخذت منحى متصاعداً ، بعد المؤتمر الصحفي الذي عقده الزعيم – قاسم – في 25 حزيران / يونيو 1961 ، في مقره في وزارة الدفاع ، والذي أعلن فيه ” ان الجمهورية العراقية ، قررت حماية الشعب العراقي في الكويت ، والمطالبة بالأراضي التي يسيطر عليها الاستعمار بصورة تعسفية والتي تخص العراق بوصفها جزءً من لواء البصرة .. وسنصدر على وفق ذلك مرسوماً نعيّن بموجبه شيخ الكويت ، قائممقاماً للكويت ، يكون مرتبطاً مع لواء البصرة … “. بعد أن أعلن الزعيم – قاسم – عائدية الكويت للعراق في مؤتمره الصحفي الذي عقده في 25 حزيران / يونيو 1961 ، كان من الضروري ان ترافق ذلك الاعلان ، خطوات ملموسة على الأرض ، سواءً بالجهد السياسي والدبلوماسي ، أو بالجهد العسكري ، الاّ أن كليهما لم يحدث . وفي هذا الجانب ، فهناك غموض مفتعل لأدوار بعض الاشخاص في تلك اللحظات ، وما نعنيه بالاشخاص ، هما : الزعيم عبد الكريم قاسم ، رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية ، والعميد ” حميد الحصونة ” قائد الفرقة الأولى ، والمسؤولة ميدانياً عن قاطع العمليات العسكرية – ان حدثت – والتي تقع الكويت ، ضمن رقعته الجغرافية.

قرار بالتنفيذ أم بالتلكؤ
تزعم بعض الأوساط المحبة والمؤيدة للزعيم – قاسم – انه كلّف العميد – الحصونة – تنفيذ احتلال الكويت ، الا أنه تقاعس وتردّد ، مما فوت الفرصة المناسبة قبل نزول القوات البريطانية . الاّ أن قراءة تواريخ الاحداث ، تكذّب هذا الادعاء . فالزعيم – قاسم – أعلن العائدية في 21 حزيران / يونيو 1961 ، برسالته الموجهة لشيخ الكويت ، ثم أكدّ ذلك في مؤتمره الصحفي في الخامس والعشرين من الشهر ذاته ، في حين أن نزول القوات البريطانية تم في 1 تموز / يوليو 1961 ، أي بعد فترة تكفي للحشد والشروع في العمليات . فأين كانت القطعات الموكل لها التنفيذ طيلة تلك الفترة ؟ هذا أولاً : وثانيا : أن مؤرخ ثورة 14 تموز المرحوم العميد ( خليل ابراهيم حسين ) راجع المستندات الرسمية كافة والبرقيات المتبادلة في حينه ، بشأن إدعاء التحرك ، فلم يجد وثيقة واحدة تقول بذلك ، ( ) والرجل كان أقرب الجميع وأوثقهم بأن يقول تلك الحقيقة . وقد سألته أكثر من مرّة ، بشأن هذا الموضوع ، فنفي نفياً قاطعاً صدور أمر عسكري من الزعيم – قاسم – باحتلال الكويت ، بل أنه أكد ” ان عبد الكريم قاسم ، لم يقم بأي عمل حاسم لتنفيذ ما أعلنه . يضاف الى ذلك ان بريطانيا حذّرت العراق عن طريق الملحق العسكري في لندن ، العميد الركن ” عبد القادر فائق ” وعن طريق القائم بالأعمال ” ناثر العمري ” وبالنص : بلّغ زعيمك اذا حدث أي اعتداء على الكويت ، فان احداث 1941 يمكن تكرارها .. “. وحينما استوضحته ، بأن يكون التحذير البريطاني للعراق ، قد منع الزعيم – قاسم – من التحرك ، أجاب ” كان بامكانه أن يسيطر على الكويت بفوج واحد لاغير ، كما ان القوات البريطانية ، لم تنزل في الكويت الاّ في 1 تموز / يوليو ، وبرقيته التي أرسلها لشيخ الكويت كانت في 21 حزيران / يونيو ، والفترة الواقعة بينهما هي عشرة أيام . لذلك فأن ادعاءه غير صادق وأراد به كسب بعض الشعبية ” ، وثالثاً : فقد سألت الفريق الركن ” فاروق الحريري ” ضابط استخبارات الفرقة الأولى آنذاك ، والمعنية بهذه الحركات ، عن ذلك الإدعاء ، فنفى صدور أمر عسكري بالسيطرة على الكويت من المراجع العليا . ورابعاً : أن الوزير ” اسماعيل العارف ” يؤكد مثل هذا الأمر ، حيث كان أحد المدعوين الى وليمة في بيت رئيس أركان الجيش في معسكر الرشيد ، والمقامة لقادة الفرق العسكرية في 25 حزيران / يونيو 1961 ، والتي حضرها الزعيم – قاسم – الذي طلب بعد مجيئه ، الانصات الى ماسيذاع بعد قليل من اذاعة بغداد . وقد: ” ناداني لأكون بالقرب منه .. وبعد فترة مناسبة ، بدأ المذيع يتلو البيان .. وفيه أعلن عبد الكريم قاسم ، تبعية الكويت للعراق وكونه قضاءً من محافظة البصرة ، واستند فيه الى الوثائق التاريخية التي تؤكد ذلك ، وأشار الى أن باستطاعتنا ان نحصل على حقوقنا سلمياً ، الاّ أن الاستعمار لايفيد معه السلم . ففوجىء الضباط الحاضرون بالبيان .. وبعد انتهاء الحفل عُدت معه الى وزارة الدفاع بسيارته ، فسألني رأيي في البيان ، فقلت له : كان ينبغي أن يسبق البيان أمران ، أولهما : إجراء مباحثات مع أمراء الكويت واكتشاف ما وراء اعلان استقلال الكويت ، وثانيهما : إنذار الجيش وإعداده لمجابهة عسكرية مع البريطانيين إذا اقتضى تنفيذه بالقوة . فأجاب قائلاً : أنيّ اردت أولاً أن أثبت حق العراق تأريخياً ، وأراد الانكليز بأساليبهم الملتوية ، إحباط غايتنا في جمع الأخوان الذين فرّقهم الاستعمار في بيت الأسرة الواحدة . وسوف نحقق ذلك بالطرائق السلمية ، أما اذا تعذّر التوصل الى الحل السلمي ، فلدي خطط بديلة ، واعلاننا هذا أول خطوة في سبيل الوحدة ” ( ). كما: أن العقيد ” محسن الرفيعي ” مدير الاستخبارات العسكرية ، في حينه ، أكد ذهول الجميع ومفاجأتهم بالأحداث حيث قال ” ان الزعيم عبد الكريم قاسم ، أخفى الموضوع عن الجميع ، مجلس الوزراء ومجلس السيادة. كما ان أجهزة الأمن والاستخبارات وجميع أجهزة الدولة ، فوجئت وبوغتت بالموضوع ، خاصة حينما طلب فتح المذياع والانصات اليه ، لأمر مهم – وحينها كنت في دار اللواء ” أحمد صالح العبدي ” رئيس أركان الجيش ، مع قادة الفرق – ويبدو لي ، أنه لم يكن جاداً في تنفيذ طلبه في ضم الكويت الى العراق ، لذلك لم يصدر لنا أمر العمل أو التهيؤ لتنفيذ أي عمل بهذا الخصوص ، حتى بعد اعلانه ذلك الامر . ولا صحة لما روج بأن الزعيم قاسـم قد أصدر أمراً للعميد – حميد الحصونة – قائد الفرقة الأولى ، باحتلال الكويت ، لكن الأخير تلكأ في ذلك”. اضافة الى ذلك ، ان هذه التصريحات ، فاجأت وزير الخارجية – هاشم جواد – ودفعته للتفكير بتقديم استقالته ، لكنه آثر البقاء على مضض( )، والذي أظنه ان هذا ” المضض ” هو الوعد الذي استخلصه من الزعيم قاسم ، بالابتعاد عن اللجوء الى القوة في حلّ هذه الأزمة . ازاء ذلك ، يصبح الأمر المؤكد ، في ضوء شهادة القريبين والمشاركين في الاحداث ، أن لاصحة لما قيل أن هناك أمراً عسكرياً ، قد صدر من الزعيم – قاسم – لاحتلال الكويت ، وهو الأمر الذي طبّلت له كثيراً وسائل إعلام الجمهورية العربية المتحدة والأوساط المحبة والداعمة للزعيم عبد الكريم قاسم . ولذلك لم يتفق الاثنان على قضية واحدة ، لخلافاتهما المتشعبة ،الا في هذه القضية ، وهو أمر يثير الاستغراب . كل ما صدر ، اعلان رسمي من قبل رئيس الوزراء بعائدية الكويت للعراق . وما يدعم هذا القول ، ماذكره الدكتور ” هادي سعيد السبّاك ” الذي كان مسموحاً له بزيارة الزعيم قاسم في أي وقت ، خصوصاً بعد اشرافه على علاجه جراء اصابته في حادثة رأس القرية في شارع الرشيد في 7 تشرين الأول / اكتوبر 1959 ، حيث يؤكد أن الزعيم ، قد أراه في غرفته في وزارة الدفاع ، اضبارة خاصة مكتوباً عليها ، ” الكويت” وطلب منه قراءتها وما تحتوي عليه ، وهذا مافعله ، حيث اطلع عليها . وأن الزعيم قاسم أخبره بالقول ” اننا لم نقل شيئاً أكثر مما هو مكتوب ومذكور في هذه الوثائق ” ( ). وهذا مايؤكد لنا ، أن أية أوامر عسكرية ، لم تصدر ولأية وحدة عسكرية عراقية بتنفيذ احتلال الكويت . ماصدر هو مرافعة سياسية ودبلوماسية واعلامية وقانونية من قبل رئيس الوزراء العراقي في حينه ، وهو ما دعا أحد سياسي العراق المعروفين ، وقتذاك وهو الاستاذ ” حسين جميل ” أن يعلّق على الاحداث بالقول ” قضية الكويت قضية عادلة تولاها محام فاشل وقد يكون التعليق رجع صدى للثقافة القانونية التي يملكها الاستاذ – حسين جميل – .
المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here