مكابدات عراقي مغترب لما يدور في الوطن

جواد وادي
وبقى العراق برغم آلاف الأميال التي تبعدنا عنه، حاضرا بكل تفاصيله وأوجاعه طيلة عقود الغربة القسرية التي أبعدتنا عنه، ليظل قدرا لصيقا بنا لا يمكن الفكاك منه، شئنا أم أبينا، نتابع ما يحدث به وله يوما بيوم، ولا يهدأ لنا بال دون أن نقف على آخر أخباره، رغم أنها لا تسر، لا عدو ولا صديق، بل والأبعد من ذلك أن حالات اللا استقرار رافقنا منذ نعومة أظفارنا، ونحن نكبر في كنفه، لا كما أطفال الكون، نعيش ببراءة الطفولة ونقائها كما أطفال العالم، بل حتى طفولتنا بقيت تعيش منغصات ما يمر به الكبار بكل أعمارهم ومشاربهم من شظف العيش، وكأننا رضعنا تلك الأوضاع غير الطبيعية والتي تغاير بلدان العالم المتحضر، لتبقى ملازمة لنا، زمانا ومكانا ومتغيرات حياتية، ولا ندري هل نلعن حظنا أم نرتضي غصبا بما نعانيه، لأننا كم حاولنا أن نتمتع باستقرار الأمكنة التي نحن فيها، ومعايشة الناس الذين يتمتعون بأوضاع لا تشوبها ذات المواجع كما لدى العراقيين في داخل الوطن، وكان ينبغي أن نتخلص من تلك الوشائج، لكننا فشلنا تماما، وبقينا رغم ما كان يبدو على وجوهنا من بشاشة العيش، نعاني ذات المآسي لمواطنينا، لأنه من العسير أن تنسى أو تتناسى أن شعبا بكامله، فيه الأب والأم والأخوة والأقارب والأصدقاء والرفاق والجيران وكل متر تعرفه وعشت فيه من مدينتك وحيك ومكان ولادتك وتنقلت فيه ودرست في مؤسساته التعليمية، مدارس أولية، ثانوية أو جامعية، حتى أتممت دراستك عبر عقدين ويزيد، واكتسبت أولى معارفك الثقافية والسياسية وتعرفت على رفاق درب، وجبت الأزقة المظلمة وأنت تخرج من دار لتدخل أخرى محملا بمسؤولية الحزب الذي تنتمي إليه، متوقعا هجمات كلاب الحراسة الموزعين في كل زقاق وبيت ومؤسسة، بل ويقبعون حتى تحت مسامات جلدك، مع كل هذه التفاصيل، لا يمكن للمرء الذي بقي أمينا ومتعلقا لها وبها، أن تغيب عنه، فكانت تقض مضاجعنا لحظة بلحظة، سيما أن الوطن والناس المبتلين بهكذا أوضاع مخيفة، لم يهنئوا ولو لحين من مكابداتها ومراراتها.
والأمرُّ من كل ذلك أن العراقي المغلوب على أمره ما زال يعيش ذات الإرباكات الحياتية التي انسحبت وبشكل قوي ولافت في بناء شخصيته وأبنائه وأحفاده، حتى اختلط عليهم الحابل بالنابل وباتوا لا يطمحون أكثر من العيش بأبسط وأيسر حالاته، لا أكثر، متخلين عن ذلك الطموح الإنساني في العيش الكريم والوشائج العائلية المتينة التي تربوا عليها قبل حلول الزلازل التي هبطت على رؤوسهم وزعزعت الأرض تحت أقدامهم، لتكون قلاقل وأزمات وويلات، يصلون لله ليل نهار، لأن يبعدهم من شرورها حتى لوقت، ولا يطمحون أكثر من ذلك.
لدى العراقي ممن خرج بلحمه ودمه سالما من بطش الطغاة، الفرص العديدة والمختلفة لأن يعيش هانئا، كريما، سعيدا ومتمتعا بطبيعة الحياة الجميلة والعلاقات الإنسانية النقية، متخلصا من أدران ما عاناه أيام القمع ومصادرة الحريات، سيما أولئك الذين يعيشون في بلدان العالم المتمدن، ولكن الزيارات الليلية التي تغزو هدأته يوميا تهد كل محاولاته في العيش الرغيد، لتبقيه لصيقا بما يدور في تلك الأرض التي يبدو أنها ستظل مبتلاة بالنوازل والمفاجئات غير السارة إلى ما شاء الله.
وحين هبطت رحمة الإله على تلك البلاد بالتخلص من أعتى نظام فاشي، قمعي، كوني، لم تعرفه البشرية منذ ظهور الانسان على هذا الكوكب، وهذا الكلام ليس تهويلا، بل واقعا معاشا بالنسبة لكل من عانى من بطشه وساديته، لتقريب المدافعين عنه من أبواق العرب والأعاجم، إما لما نالوه من بركات السحت الحرام، أو لجهلهم بطبيعة ذلك النظام المخيف والبهيمي، وحين استبشر المقهورون والمكبلون بالتخلص من قيوده الصارمة والمرعبة، وعمّت المسرات والأفراح، وراهن الناس ببزوغ فجر جديد من الحرية واسترداد الكرامة المستلبة قسرا، عاقدين العزم على القادمين الجدد، الذين كانوا بالأمس من أشد المعارضين لذلك النظام، من إسلاميين بكل صنوفهم ومشاربهم ومذاهبهم، وهنا نؤكد على فرادة هذه الفئات العراقية واستحواذها على سدة القرار الجديد، انتظر العراقيون التغيير المنشود الذي كم قدموا له من ضحايا ودماء وأنين وخسارات لأعز الأحبة، وكم تشردوا وتعذبوا وذاقوا المرارات، على أمل أن يكون القادم أكثر اشراقا وأملا، لإعادة بناء البلاد والعباد، وهم يخرجون من لهيب المحارق الصدامية، ليتفاجؤوا يوما بعد آخر، أن متضرري النظام المنهار، كشّروا عن أنيابهم ليعودوا أشرس وأعنف وأكثر شراهة في تخريب ما تبقى للإنسان والأرض والحرث وفتات الخيرات، وتكالبوا على توزيع كل ما من شأنه أسعاد الإنسان العراقي، وإخراجه من الضيم والفاقة ومذلة الحاجة، لينعموا ظلما وفسادا ودناءة بخيرات البلد وسرقة لقمة الفقراء والمحتاجين، موظفين الدين وتعلق الناس بمذهبهم ليتركوا الأبواب مشرعة للناس لممارسة طقوسهم وشعائرهم قصدا، لأنهم يعرفون أنها الوسيلة الوحيدة والأمثل لترك العراقيين منشغلين بشعائرهم، ليتفرغوا هم لنهب المال العام وإشاعة الفساد وتوزيع البركات على كل من يلتحق بهم، حتى من المنحطين والجهلة وعتاة المجرمين، ولا يهم إن كانوا من أعوان النظام السابق وأدواته القمعية، أم من خريجي السجون والمعتقلات من المجرمين والقتلة، ويوما بعد آخر باتت هذه الممارسات أمرا واقعا، فأشيعت حالات الفساد والرشوة وشراء الذمم وتبديد ثروة العراق وتوزيعها على أحزابهم الفاسدة والمرائية وأزلامهم اللصوص، وهذا يعني تعرض البلاد للتسيب المطلق، وأمن الوطن والمواطن اصبح على كف عفريت، لتنتشر مافيات القتل ومليشيات تلك الأحزاب التي باتت أذرع سائبة للقتل وتصفية الحسابات وقطع ألسن من لا يخضع لهم ولسوءاتهم وبرامجهم التخريبية، طبعا هم لم ينسوا أن يستميلوا العشرات من الإعلاميين والمثقفين ممن كانوا بالأمس بألسن أطول من أحذيتهم وبساطيل عساكر أسيادهم، ليتحولوا إلى أبواق جدد تلعلع ليل نهار وعبر مؤسساتهم الإعلامية التي أوجدوها من أموال السحت الحرام، من ثروة العراق المنهوبة، وهذه حالة مثقفي السلطة الذين ما يتوانون لحظة بعرض بضاعتهم الرثة والملوثة لخدمة أسيادهم من الجهلة وأنصاف الساسة المعتوهين، كعهدنا بهم سابقا، وهكذا هو ديدنهم.
إزاء هذه الحالات الكارثية والأبواب التي أتمم القادمون الجدد من الساسة الفاسدين اغلاقها بوجه العراقيين، الذين على ما أعتقد، والله أعلم، كم ندموا على إيصال هؤلاء الأوباش لسدة الحكم، ليحكموا على حياتهم ومستقبل أولادهم بالموت المؤكد، لعلهم انتبهوا لخطئهم المميت ليعيدوا مؤشر البوصلة بالإتجاه الصحيح في الانتخابات القادمة، حتى ولو بنسبة معقولة، بإمكانها أن تعيد الأمل من جديد وكنس هذه الحثالات من تتمة خراب ما تبقى من العراق.
هنا يلاحظ القارئ الكريم أن العراقيين المبعدين قسرا والذين ظلوا أنقياء الأيادي والروح والسريرة، ولم يزجوا أنفسهم بمغريات الكون برمته، هذه الشريحة ما زالت متعلقة بحب العراق وهي تنتقل من محنة وطن لأخرى، ترقب بعين المتحسر لما آلت وتؤول إليه الأوضاع، دون أن تبهت أو تضعف أو تتزعزع الوشائج مع الوطن الحبيب وناسه الطيبين.
وتبا لكل الفاسدين واللصوص وخونة الوطن والناس الذين ننتظر نخوة العراقيين رميهم في مزابل التاريخ كسابقيهم من نظام البعث المجرم وكل من سانده وصفق له تحت أية مسميات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here