الشيخ حميد الخالصي.. علّمنا حب الوطن

هؤلاء في حياتي (٣)
الشيخ حميد الخالصي.. علّمنا حب الوطن

سليم الحسني

ظلمه الزمان، فضاعت عبقريته الفذة في اللغة العربية بمهنة التدريس في متوسطة الكاظمية للبنين. كان معروفاً في حدود ضيقة من الباحثين، يأتون اليه يسألونه عن إشكالات لغوية صعبة.

بجبته وعمامته البيضاء دخل علينا الصف في مرحلة الثاني متوسط من العام ١٩٧١، فبدأ بكلام يحببنا باللغة العربية، ولم يكن يتكلم إلا الفصحى، وتعرّض على أخطاء شائعة مُعرفاً بالدكتور مصطفى جواد ودوره في تنقية اللغة من الأخطاء الشائعة، كما تحدث عن أخطاء في كتابة الأسماء ومنها التاء المربوطة والمدودة. فقام طالب اسمه (حكمت)، مستفهماً:

ـ كيف اكتب اسمي شيخنا بالتاء المربوطة، وهو مكتوب في الجنسية بالتاء الممدودة؟

فأجابه:
ـ وما أكثر الأخطاء في بلداننا.

والطالب (حكمت) هو حكمت جواد، صار فيما بعد بطل العراق الدولي في كرة الطاولة، ولم يتفوق عليه في اللعبة إلا طالب آخر في نفس الصف، سبقه في نيل بطولة العراق والمشاركات الدولية هو (صلاح علي باقر).

كان في الصف طالب اسمه (سرور ماجد) وهو رئيس فرقة الانشاد في المدرسة ـ أصبح حالياً أحد الملحنين المعروفين ـ وبحسب ما كان يعلق في أذهاننا فان الشيخ حميد الخالصي بحكم زيه الديني، سيستاء من ولع (سرور) بالغناء، لكن الشيخ كان على العكس من ذلك، يتعامل معه بلطف، ويمازحه احياناً، بقوله:

ـ إنك تجيد الانشاد، ومن يجيد الإنشاد يجب أن يجيد اللغة العربية.

يقول له ذلك بابتسامة عفوية، حين يصحح له خطأً وهو يقرأ نصاً أدبياً أو بيتاً من الشعر.

وكان (سرور ماجد) يقدّم مع فرقة المدرسة نشيداً صباح كل خميس ضمن ما كان يُسمى بساعة (رفعة العلم). وذات مرة قدم منولوج الفنان عزيز علي (يا جماعة والنبي جان عدنه بستان)، وقد حاول طالب في الاتحاد الوطني البعثي استفزاز الشيخ الخالصي، فسأله:

ـ شيخنا ما رأيك بصوت سرور؟
فأجابه:

ـ كان من الحري بك أن تسألني ما حلّ بالبستان؟

وكان يقصد بذلك أن الكلمات عزيز علي ذات معنى عميق يدين فيه الواقع الحكومي العربي.

ذات يوم أراد أحد المدرسين أن يحرج الشيخ الخالصي بأن يلقي كلمة في (رفعة العلم)، وذلك لعلمه أن الشيخ لا يتكلم إلا الفصحى، وحين يلقي كلمته، فسوف يسخر منه طلاب المدرسة. فبدأ الشيخ كلمته قائلاً إننا نقف لتحية العلم، وكثير منا لا يعرف أن هذا العلم، يعني الوطن. وحين نحييه فاننا نحيي الوطن، وعندما لا يكون شعورنا على هذا النحو، فالعلم لن يكون سوى خرقة ملونة. إن القماش يبلى ويتمزق، والرجال يموتون، لكن الوطن يبقى مثلما يبقى العمل النافع.

ومضى يتحدث عن معنى الوطنية، ومن الذي يستطيع أن يخدم الوطن حقاً، وقد يكون الانسان الأبكم أكثر وطنية من الخطيب البليغ وأختتم كلامه بعبارات لافتة:

ـ نحن في الهيئة التدريسية، إذا لم ننجح في مهمتنا التعليمية، فنحن نخذل الوطن. وأنتم أيها الأعزاء إذا لم تجتهدوا في دروسكم، فلن تخدموا الوطن.

كانت كلمته صادمة، فشعرنا بأن ما كان يلقيه بعض المدرسين لم تكن سوى كلمات باردة، أما هذا الشيخ الذي أرادوا السخرية منه، فانه علّمهم كيف يكون الخطاب وكيف تكون تربية الطلاب على حب الوطن.

بعد زمن طويل، وقبل أشهر قليلة من هذا العام (٢٠١٧) كنت اتحدث هاتفياً مع الأستاذ غالب الشابندر، وفي اثناء الكلام عن الذكريات القديمة علمت بأن الشيخ حميد الخالصي، كان استاذه في متوسطة الكوت، مصادفة جميلة بحكم فارق السن بيني وبين الشابندر.

لإستلام مقالاتي على قناة تليغرام اضغط على الرابط التالي:
https://telegram.me/saleemalhasani

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here