حول المستقبل والدراسات المستقبلية (2)

فارس كريم فارس
أن الدراسات المستقبلية، حينما تجمع بين استكشاف المستقبل المحتمل والمستقبل المفضل، فإنها عبارة عن خليط من البحث النظري والتطبيقي، والمنهجية والفلسفة والسياسة التنفيذية. وكمدخل أفضل لفهم طبيعة الدراسة المستقبلية، أن ينظر لها على أنها شجرة ذات أغصان باحتمالات مختلفة على كل غصن، وأن مهمة دارس المستقبل تتمثل في دراسة الشجرة بشكل كلي، باعتبار أن كل غصن يمثل سيناريو بديل والذي علينا أن نتجنبه أو نسلم به.
وعموما فقد نشأ اول اهتمام بالدراسات المستقبلية في الغرب والولايات المتحدة الاميركية خاصة المتعلقة بالاستراتيجية الاميركية المناسبة لمواجهة الاخطار المحتملة على الصعيد الدولي، وذلك في حقبة الحرب العالمية الثانية 1939-1945 وما بعدها ثم تداعيات الحرب الباردة واعلان الولايات المتحدة عن مشروعها العالمي ومصالحها القومية المنتشرة في العالم اجمع.
فأصبحت الدراسات المستقبلية تمثل بعداً اساسياً من ابعاد العلم، لارتباطه بالاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة والسياسة ونمط الحياة الانسانية، مما يفضي عليها صفة الشمولية. فتجاوز الفكر الغربي الاهتمام بالماضي للحاضر وتركيز الجهود على المستقبل كبعد من ابعاد الزمن، فالزمن في الفكر الغربي ثابت ومتغير في ربط الفكر المعاصر ظاهرة الزمن بظواهر اخرى تتداخل وتختلف، لكنها لا تلغي الزمن كالعلم والايدلوجيا والسلطة. فأرضية التفكير في مسألة الزمن بالنسبة لذات الفكر وتأويلها تكون خاضعة لمجالات وأدوات معرفية كالخيال والرمزية والتأويل، فحصل تراكم معرفي في حقل البحث المتعلق بالمستقبليات يربط بالضرورة بين التاريخ ودراسة المستقبل والعلم السياسي وامتد البحث والحوار في الغرب حول اشكالية المستقبل كعوالم مختلفة وجب التحشيد لها معرفياً وعلمياً وسياسياً فأصبحت الكتب والدراسات عامرة بالدراسات المستقبلية وهي من محاور البحوث العلمية والأكاديمية وملامحها.
وما زالت الدراسات المستقبلية مسعاً علمياً حديثاً وما زالت منهاجيتها وأدواتها التحليلية محل مناقشة وجدل حاد في المؤسسات ومراكز البحوث المهتمة بقضايا استشراف المستقبل. وعلى الرغم من تعدد الرؤى والمناهج، الا ان هناك اتفاقاً واسعاً بأن ليس هناك مستقبل واحد بل مستقبلات عدة بديلة او محتملة، لذا لابد من تعدد القراءات الاستشرافية للمستقبل لأنه ما زال قيد التشكيل وليس معطى نهائياً. ومن نافلة القول، انه وعلى الرغم من عدم امتلاكنا زمام المستقبل، الا اننا نمتلك جزئياً تشكيل جانب مهم منه. فالدراسات المستقبلية تسعى لاستشراف آفاق المستقبل ودروبه الممكنة، بهدف رسم خرائط للملاحة الصعبة في بحار المستقبل. فامتلاك بوصلة حول نمط التطورات والتفاعلات المستقبلية المحتملة، يساعد راسم السياسة على تحديد درجات الحركة والمناورة حتى لا يصبح المستقبل قدراً محتوماً تستقبله الامم والشعوب دون حول او قوة.
ان الدراسات المستقبلية تعبر عن فن وعلم انطلاقاً من دراسة الواقع واستكشاف التيارات الغالبة، فيبدأ الباحث المستقبلي في دراسة سبل معالجة الواقع المعاصر بناءً على مألات ممكنة ومستقبلات مرادة، وارتبطت الدراسات المستقبلية بالتحليل التاريخي والدراسات الاستراتيجية عبر دراسة المستقبلات المفقودة والمستقبلات التي كان يمكن ان يسير التاريخ عليها والتي يمكن استخلاصها من عناصر التاريخ، لان المستقبلي يلتقي مع المؤرخ في دراسة الاحداث لكن المؤرخ يهتم بصورة صار عليها التاريخ بينما المستقبلي يهتم بما سيصير عليه. وهذا يحتاج الى صياغة فن مستقبلي له نوع من الاستجابة لخصوصيات المجتمع وواقعه مع خلق امكانية الابداع لدى المحللين على مستوى القدرة والكفاءة ليقدموا نوعاً من التصور المرغوب فيه والممكن تسويقه الى صناع القرار.
لقد كانت الدراسات المستقبلية لصيقة بالدراسات الاستراتيجية، لأنها تعبر في احد جوانبها عن نوع من التخطيط له القابلية على اعادة الطرح والصياغة اذا اخفقت في جانب معين، وخاصة مع وضع مجموعة من المشاهد المستقبلية التي اذا لم يكن بالاستطاعة تحقيق مشهد محدد سلفاً فعلى الاقل التمكن من العودة له بعد مدة زمنية خاصة اذا كان هذا الطرف (الدولة) يملك مشروعاً حضارياً ونظام اولوية للأهداف القومية تمكنه من امتلاك القوة.
وقد وردت العديد من المسميات والمفاهيم المرتبطة بمحاولات رسم صورة مستقبلية ومنها:
التخطيط: ويمثل التدخل الواعي لإعادة صياغة مجمل الهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال مجموعة من السياسات المتكاملة والمتاحة لسلطة تملك امكانات المتابعة والتنفيذ وخلق الظروف الموضوعية لتحقيق هذه السياسات، وقد يكون التخطيط قصيراً او متوسطاً او بعيد المدى .
والتنبؤ: ويستند للفكرة القائلة ان المستقبل امر محدد مسبقاً، انما المطلوب هو الكشف عنه فالنبوءات مجالها بعض القناعات والممارسات الفردية وليس الادارة والممارسة على مستوى الدولة. وأثبتت خبرة المهتمين بشؤون المستقبل، ان التخطيط يحتاج الى خلفية اطول في مداها من الاسقاطات والتنبؤات والتحليلات المستقبلية، التي تفيد في رسم المسارات المستقبلية الاكثر استقراراً للتنبه للمخاطر في الوقت المناسب.
ومع تعقد العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وزيادة عدم اليقين المستقبلي يزداد البحث في مناهج واساليب جديدة، فما نستطيع ان تقوم به لا يتجاوز ان يكون وضع سيناريوهات تركز على حركة المتغيرات الرئيسة ودورها في تشكيل صور المستقبل، تاركة باقي التفاصيل لمراحل تالية من التخطيط تبحث فيها عن السياسات الملائمة لتحقيق هذه الاتجاهات المستهدفة للمتغيرات وما نستطيعه لا يتجاوز ان يكون تعبيراً عن مجمل النسق في صورة انساق فرعية، أي ان ما نفعله نوع من التحليل المستقبلي الاستكشافي بدءاً بمجموعة من الافتراضات الاختيارية مستهدفين في ذلك الحوار مع العقل وليس الوصول الى تنبؤات.
وتمثل الدراسات المستقبلية محاولات لتصور سمات بدائل المستقبل المترتبة على الخيارات البديلة والمسارات المختلفة التي يحتمل ان تتخذها الاحداث او يحددها صانعو القرار. وتحدد السمات المستقبلية كنتيجة للتفاعل المتبادل بين مجموعة الخيارات المتخذة وبينها وبين مختلف جوانب النسق الاجتماعي والفكري والاقتصادي والحضاري الذي يتكون المجتمع منه. وترتبط القدرة على تصور السمات البديلة بمدى فهمنا للنسق الاجتماعي ألاقتصادي الفكري بمكوناته الرئيسة من بنى وأنساق فرعيه, ومعرفة الكيفية التي تتفاعل بها الاحداث في اطار النسق الكلي. وتزداد القدرة على التصور الدقيق لبدائل المستقبل كلما زادت المعرفة العلمية بالواقع الحالي والتطور التاريخي الذي انتجه والكيفية التي يتم بها انبثاق الحاضر من الماضي والمستقبل من الحاضر.
فالدراسات المستقبلية تركز على الاسس الاتية :
• الدراسة العلمية للواقع الحالي وكيفية نشوئه وتطوره التاريخي.
• دراسة البنى والانساق الفرعية والعلاقات التي يتم خلالها التغير والتطور في اطار النسق الكلي للمجتمع.
• المعرفة العلمية المتوافرة عن القوانين الحاكمة للعلاقة بين الظواهر المختلفة.
• عرضة الواقع للتغير والتطور.
• تصبح عملية مستمرة تستفاد من هذا التراكم في المعرفة لترسم صور جديدة لاحتمالات المستقبل في ضوء ما استجد من احداث واتجاهات والا تفرض الصيغ النظرية السائدة كمسلمات او حقائق غير قابلة للنقاش والتغيير وان تبقى مجرد فرضيات بحثية قابلة للخطأ او الصواب حتى يتم اثباتها وان تضاف اليها فروض اخرى مع تقدم الزمن.
ان ما توصل اليه الانسان من معارف وخبرة حياتية, يتيح له الاستنتاج بانه يمكن له ملامسة الحقيقة في معرفة واستكشاف المستقبل لحدود معينة, لان التغير والحركة الدائبة للواقع وعناصره المتفاعلة دوما وبدون توقف يجعل من الصعب بمكان الوثوق بما سيترتب عليه المستقبل بشكل دقيق او اقرب للدقة مما يتطلب عرض عدة احتمالات او سيناريوهات قد تكون سلبية او ايجابية, ولكن ذلك لا يعني قطعا التخلي عن السعي الدائم لتطوير الأداة المعرفية والنضال المثابر من اجل جعل المستقبل افضل واكثر امان وعدالة. انتهى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here