عناقيد النار..جدلية التأويل في السياسة العراقية انقلاب 8 شباط 1963 .. 9

عناقيد النار..جدلية التأويل في السياسة العراقية انقلاب 8 شباط 1963 .. هل استهدف عبد الكريم قاسم أم الشيوعيين العراقيين ؟

د. حميد حمد السعدون

والسلطة وتحديداً، حزب البعث، تراخوا في السيطرة على حالات الحقد والثأر والمواقف الشخصية واللا أبالية. مما أتاح فيما بعد لعبد السلام عارف، أن يذبح من وضعوه في أعلى مواقع الدولة، متّهماً إيّاهم بكل بذاءات القاموس السياسي التي يعرفها، ومن ضمنها عدم سيطرتهم على الأوضاع التي دفعت الغرائز اللا إنسانية أن تطغى في التعامل مع الإنسان، في وقت كان البلد بحاجة إلى التسامح والروح الجماعية والتغاضي عن الصغائر، من أجل تحقيق وترسيخ وتوطيد سلطة وطنية تتسع لكل العراقيين ونشاطاتهم. في ظل ذلك الجو، استمّرت حملة الإرهاب والبطش، وفي الوقت نفسه استمر تساقط القيادات الحزبية الشيوعية الرئيسة، بحيث لم يسلم من أعضاء المكتب السياسي غير (عزيز محمد) الذي كان يقود فرع الحزب في المنطقة الشمالية، محتمياً بسلطة ونفوذ البارزاني. في حين أن ثلث أعضاء اللجنة المركزية، كانوا بين سجين أو قتيل، أما كوادر الصف الثاني والثالث، فقد تساقطت بالجملة بيد الأجهزة الأمنية وأجهزة الحرس القومي، نتيجة الاعترافات المتوالية من رفاقهم. في حين أن لجنتي التحقيق الرسمية والخاصة بالتحقيق مع الشيوعيين المعتقلين، كانت تمارس القتل العشوائي وغير القانوني، ولعل في قتل أكثر من عشرين سجيناً شيوعياً في قصر النهاية بأمر من وزير الدفاع في حينه، ومن دون إذن أو موافقة الجهات العليا، أو أية جهة قضائية يبيّن لنا مدى الفوضى والحقد المتأصل في النفوس. أما الخطوط العسكرية للحزب الشيوعي والتي كانت محل اهتمام المحققين، فقد بدت الصورة فيها مأساوية. فالمسؤول الرئيس (جورج حنا تلو) عضو المكتب السياسي، قتل في البيت الحزبي الذي كان يسكنه بعد دهم الدار، والمشرف على هذه الخطوط (نافع يونس) كان رهن الاعتقال، في حين كان المسؤول الأعلى عن القسم العسكري هو السكرتير العام للحزب. أما أعضاء هذا التنظيم وكوادره فقد تساقطت هي الأخرى بسرعة جراء الاختراق التنظيمي والاعترافات الهائلة، بحيث أن المحققين لم يطلبوا من (نافع يونس) غير التصديق على خارطة التنظيم العسكري التي كشفها التحقيق، لكنه كان ينكر أية علاقة له بهذه الخطوط وأشكالها التنظيمية. ونواجه بسؤال يظهر أمامنا في كل لحظة، ما الذي جعل الأمور تصل الى هذا الحد؟ وبـإجابة واضحة ودقيقة لا تتوارى خلف كلمات مزوّقة، نقول ان الابتعاد عن الحوار ومحاولة إقصاء الآخر وادعاء امتلاك الحقيقة، ناهيكم عن الغرور والاستعلاء واستصغار الآخرين ومن كلا الطرفين قادت الى هذا الصراع غير العقلاني بين الشيوعيين والبعثيين، وإلاّ فما التفسير الذي تتكئ عليه الاحزاب السياسية حينما يكون محل اهتمامها الشديد الحصول على السلاح، بدلاً من تعميق الحوارات الوطنية وعلى الأصعدة كافة؟ وما التفسير أو العذر الذي تعلنه الأحزاب السياسية، حينما تطلق لأعضائها وأنصارها، العنان في ممارسة العنف من دون رقيب أو حسيب، سواءً ما حدث عام 1959 أو عام 1963! لا أجد كلمة لامة وحاوية تفسر ما حدث، غير كلمة (الغرور وعدم المسؤولية)، لأن ما حدث كان محنة للوطن وللمواطن، انعكست آثارها في ما بعد، بسبب ما خلفته من ندوب لا تمحى وخسائر باهظة، ترافقت مع غيرها من الأفعال، حتى وصل الأمر لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في نيسان/ ابريل 2003، مع ما رافق ذلك من فوضى دمرت الدولة ومؤسساتها، وبطريقة منهجية متصاعدة، وكأن الهدف الأساس لها، إلغاء العراق من خارطة الوجود الإنساني، خصوصا بعد سياسات الانفراد والاستئثار واحتكار العمل السياسي والنقابي.

أسباب الأفول

من الضروري أن نتقصى مسبّبات أفول الحركة الشيوعية في العراق، ومدى مسؤولية الحركة أو السلطة أو الآخرين عن ذلك، كما نجد من الأهمية، البحث عن شكل العنف الذي مورس ضدهم، وبطريقة وصلت أحيانا إلى المطلق. الأكيد أن ذلك الأفول جاء كثمرة للانحدار العام في السياسات العراقية والعربية، خصوصاً في تغييب الشكل الديمقراطي عن الحكم، وإهمال الجماهير وعدم السماح لها بالمشاركة الجدية في صنع السياسات والقرارات، يُضاف الى ذلك أن ليس هناك من مرجعية واحدة للتوّجه الجماهيري، فالجماهير متفرقة الى أجزاء صغيرة خارج الدائرة السياسية، ومن الصعوبة جمعها أو ترشيد تجمعاتها وتطلعاتها إلاّ في أوقات قصيرة ومؤقتة واستثنائية. كما أن عدم قدرتهم على ترجمة الدعم الجماهيري الذي حظوا به في نهاية الخمسينات الى مكاسب سياسية راسخة، فهو أمر يمكن ردّ أسبابه الى تمثيلهم الضعيف نسبياً في السلطة وعدم رسوخ أقدامهم في صفوف الضباط والوحدات الضاربة في الجيش من ناحية، والى تبعية وخضوع مسلكهم لمتطلبات السياسة السوفيتية معظم الوقت من ناحية اخرى، حيث قام شيوعيو العراق بمنح الأولوية لرغبات موسكو مما أدى الى إضعاف نفوذهم بين أبناء وطنهم والى حرف اتجاه مؤيديهم وإضعاف معنوياتهم، ولذلك فانه نتيجة للصراع الداخلي بين مطالب وضعهم الداخلي وبين ما تمخضّت عنه التزاماتهم الخارجية، فأن الشيوعيين قد حاصروا أنفسهم في وضع مُهلك الى حدّ أسهم في دفعهم نحو الكارثة. يُضاف الى ذلك ان الحزب الشيوعي، لم يُحسن التعامل مع حلفائه، حينما تمكّن من التقرب الى السلطة، بل أنه أعاب على حلفائه بالأمس، أفكارهم وأشخاصهم وممارساتهم، وأحياناً استعمل العنف ضدهم، وهذا ما كان واضحاً أيام ما سميّ (المّد الأحمر) ضد حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الوطني الديمقراطي، والحركات القومية المتعددة والمستقلين، مما خشّن قلوب الجميع عليه ودفعهم الى أن يمارسوا العنف المقابل معه، بل أنّهم تعاونوا مع بعضهم لمقاومته ومقاومة أساليبه، والحزب الشيوعي، بتلك الممارسات، كشف عن قصر نظر واضح في أشكال التحالفات لتحقيق الأهداف الوطنية، بحيث نأت جميع الأحزاب عن التحالف معه بعد عام 1959، لعدم الاطمئنان لنيّاتهم، بعد اتّضاح أساليبهم العنيفة ضد الجميع، وكان الانطباع ان الشيوعيين لا يتحالفون مع أحد الاّ لمصلحة، وحينما تنتهي فعلى الحليف أن يتلقّى كل ما هو مُسيء ومُضر من حلفائه الشيوعيين. ومن الأمور ذات الدلالات المهمة في هذا الأفول، والتي لم تعط اهتماماً واسعاً، ان الشيوعيين، بممارساتهم الجماهيرية الصاخبة، والتي كانت أقرب ما تكون صدى لرجع (الغوغاء) قد حطموا سلسلة من التراتيب والتقاليد الاجتماعية التي كانت لها حصة في وضع المجتمع العراقي، بقوتها وتأثيراتها. ولعلّ في موضوعاتهم التي كانوا يطرحونها عن المرأة والزواج والارث، أو في عدائهم العلني مع المؤسسات الدينية والاجتماعية، ذات التأثير الواسع في المجتمع، قد حشد بالضد من أفعالهم جماهيرياً كان ممكناً ان تكون محايدة. وفي هذا الجانب فأن صيغ الاستهزاء والاستخفاف التي كانت تمارس من قبل المتظاهرين، المقادين من قبل الشيوعيين كانت تُّنصب على رموز سياسية ووطنية وقومية ودينية واجتماعية، لها موقع من الاحترام والتقدير عند عموم الناس، في حين أن الحزب وتظاهراته وغوغاءه، لم يستطيعوا ان ينهوا الموروث القبلي والديني والاجتماعي والشخصي عند الناس، لكي يأخذوهم جميعاً نحو تحطيم هذه المؤسسات أو الرموز، ولذلك فأن تأثيرات البيئة كانت أكبر من تأثيرات التثقيف الحزبي، ولعلّ في فشلهم في تحقيق اضراب عمال الميناء في البصرة عام 1960، برغم اتّساع وقوة تنظيمهم الحزبي، بسبب انقسام وانتماء مؤيديهم لعشيرتين متعاديتين، أو في قيادتهم لأحداث كركوك الدموية في تموز/ يوليو 1959، حينما تصرّف الجميع على وفق أواصرهم العرقية والعدوانية ما يدلل على ذلك.

المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here