عناقيد النار..جدلية التأويل في السياسة العراقية اختيار عبد السلام محمد عارف رئيساً 11

عناقيد النار..جدلية التأويل في السياسة العراقية اختيار عبد السلام محمد عارف رئيساً للجمهورية العراقية 11

د. حميد حمد السعدون

وحينَما سألنا الأستاذ (ناجي طالب) عن حيثيات هذا الموضوع وخلفياته، أفادنا متكرّماً “في تموز/ يوليو 1962. عدت الى العراق، بعد قضائي فترة طويلة في النمسا ولبنان، وقد وجدت الجو السياسي مُحتقناً. وبعد فترة نقل لي السيد (رجب عبد المجيد) رغبة السيد (علي صالح السعدي) وممثلين عن حزب البعث العربي الاشتراكي، في لقائي، ولم أمانع في ذلك. وجرى هذا اللقاء في داري أواخر عام 1962، وحضره السادة (علي صالح السعدي وناظم جواد) ممثلين عن حزب البعث، وطلبت حضور السيد (رجب عبد المجيد) معنا. ما جرى في هذا اللقاء، حديث عام عن الوضع السياسي الذي يمرّ به البلد. وقد كانت وجهات نظرنا الى حد ما متقاربة في ما يخص ضرورة اجراء حوارات سياسية، مع كل القوى والشخصيات الوطنية لأهميتها لوحدة البلد، وقد طلب مني – السعدي – في هذا اللقاء، الانضمام الى صفوف حزب البعث، لكني رفضت، وأخبرته بعدم رغبتي في الانضمام الى أية حركة سرية، اضافة الى ذلك لم أكن سهلاً معهم في ما طلبوه (**). ولم يخبروني، أو يلمّحوا لي بخططهم الهادفة لاحداث تغييرات سياسية عميقة، كما أنّي لم أسأل عن هذا الأمر أما في ما يخصّ ترشيحي لمنصب رئيس الجمهورية او أي منصب اخر، فلم أخبر به في هذا اللقاء أو في غيره، وربما جرى تداول هذا الاقتراح داخل اجتماعاتهم الحزبية المغلقة، إضافة الى ذلك، إنّه لم تكن لي علاقة معرفة مع قادة الحزب، بما فيهم – أحمد حسن البكر – الذي لم تتعد علاقتي معه، الطابع الاجتماعي المعتاد. لقد عرفتهم بعد 8 شباط/ فبراير (1963). وبعد انتهاء الاجتماع، وأثناء توديع الزائرين، أخبر– السعدي– الأستاذ– رجب– إن العمل معي ليس سهلاً كوني صعب المراس”. أرىٰ أن – علي صالح السعدي – بعد أن وجد أمامه شخصية قوية ومتّزنة وواعية لما تعمل، مثل الاستاذ ناجي طالب ورافضة الانضمام الى العمل الحزبي، حوّل ترشيحه نحو عبد السلام عارف، الذي أخبرهم، بما يرغبون سماعه، فأضيف ترشيحه، لترشيح حازم جواد وأحمد حسن البكر، فآلت اليه رئاسة الجمهورية مساء 8 شباط/ فبراير عام 1963. ومع كل الاختلافات في تسمية الشخص الذي رشح عبد السلام للرئاسة، فما نعتقده، أن أحمد حسن البكر بحكم صداقته القديمة لعارف ووفائه له، اقترحه كوجه أمامي، ولم يفرضه، ولو كان للقيادة القطرية للحزب، وتحديداً – علي صالح السعدي وحازم جواد – رأي آخر، لنفّذه البكر بحماسة، لأنه رجل حزبي ملتزم ويحترم القرارات الحزبية، هذا غير أن حاجة البكر الى الحزب، أكثر من حاجة الحزب للبكر، خصوصاً بعد أن قدِّم كوجه أمامي للسلطة الجديدة، يمتلك من الصلاحيات والتأثير، أكبر مما يملكه رئيس الجمهورية، وكانت تلك الفترة قد شهدت توافقاً متجانساً بين القيادات العليا للحزب والسلطة. ولذلك فالقول الصحيح، إن آراء – السعدي وحازم والبكر – قد توافقت على اختيار عبد السلام عارف لمنصب رئيس الجمهورية، سواءً بالرغبة أم بالحاجة أم بالاعجاب. واذا كان هناك من لوم في هذا الجانب، فالثلاثة يتحمّلونه، يرافقهم في ذلك بعض الشيء طالب حسين الشبيب. والثابت أيضاً في هذا الموضوع، ان عبد السلام كان يحس بنية حزب البعث العربي الاشتراكي على التغيير، من خلال الزيارات التي كان يقوم بها له، أما علي صالح السعدي أو حازم جواد أو عبد الستار عبد اللطيف ومن جو المناقشات السياسية التي كانوا يجرونها معه. لكن وباليقين القاطـع، ومن خلال كل شهادات من شارك في التغيير سواءً كانت المكتوبة منها أم المسموعة، فأنه لم يعرف التوقيت أو ساعته، وكل ما كان يعرفه في هذا الجانب، أن هناك موفداً من القيادة القطرية للحزب، سيصل اليه ويعلمه بساعة الصفر، وما ينبغي له القيام به، كما أنه لم يشترط وكذلك لم يلمّح له قادة الحركة، بأي منصب سيحتله بعد النجاح، كل ما كان لديه ولديهم اسقاط نظام قاسم، واللاحق سيكون أسهل. وهذا ما يؤكده أحمد حسن البكر حيث يقول “إنّ نقاشاً دار قبل ما يزيد على الثلاثة أشهر من تنفيذ الثورة، يتعلق بعبد السلام عارف، وقد سألني صالح مهدي عماش، عن فردية عبد السلام، فأجبته مؤكدا على ذلك. وبعد ذلك اتفق الجميع على عدم الاتصال به وبعدم إخباره بالثورة، حيث أصرّ الجميع على عدم تبليغ عبد السلام، وفعلاً لم يبلغ بساعة الصفر، ولم يعلم شيئاً عن تنظيماتنا وخططنا. وكان هناك قرار بتعيينه سفيراً في أي مكان يختاره بعد نجاح الثورة”.
ويمكن أن نلاحظ ذلك من خلال شهادة الاستاذ عدنان القصاب موفد الحزب لعبد السلام عارف في ساعة الصفر، حيث يقول (جرى اجتماع لفرع بغداد لحزب البعث العربي الاشتراكي مساء يوم 7/2/1963 في دار الرفيق أبو طالب عبد المطلب الهاشمي لمراجعة ما نفّذ من مهمات فرع بغداد الذي كان مسؤوله حازم جواد، وحضر في هذا الاجتماع أيضاً طالب شبيب، عضو القيادة القطرية. وقد جرى استعراض مهمات أعضاء قيادة الفرع صباح يوم الثورة، وكان من المهمات التي أوكلت لي، هو تبليغ عبد السلام عارف في الساعة (9) صباحاً يوم 8 شباط/ فبراير، وابلاغه بقيام الثورة، وهذا ما فعلته حينما اتّصلت به هاتفياً في الساعة (10: 9)، طالباً منه عدم خروجه من الدار الاّ بعد وصولي، لأن لديَّ رسالة مهمة له، وأبلغته أن هناك ثلة من الحرس القومي موجودة قرب داره، ستمنع دخول أو خروج أي أحد عليه، قبل وصولي. وبعد أن نفّذ الطيارون مهماتهم ولمرتين في قصف وزارة الدفاع ومعسكر الرشيد، وبعد أن أعلنت الاذاعة بيانات الثورة، ذهبت اليه بحدود الساعة (40: 10) صباحاً، أي بعد ساعة ونصف الساعة من بداية القصف واذاعة البيانات، فأعلمته بمهمتي وباتصالي الهاتفي معه قبل أكثر من ساعة، فسألني بامتعاض عن حازم جواد، فأخبرته انه مشغول بواجب آخر. عندها سألني هل ألبس ملابس عسكرية أم مدنية؟ فقلت له: إلبس ملابس عسكرية وكان تقديري ان ذلك آمن على حياتنا، ثم عاد وأخبرني، انه لا يملك بدلة عسكرية، فقلت له: سوف أجلب لك بدلة عسكرية من العقيد الركن طارق ابراهيم العمر (وكانت داره قريبة من دار عبد السلام). فقال لي: أي رتبة أحمل؟ ولأني لم أخول بمنحه رتبة أعلى حينما أحيل الى التقاعد، ولخشيتي من أن يرتّب قولي له من التزامات او حقوق على الحزب.. عندها أخبرته: من المستحسن أن تلبس ملابس مدنية. وقد نفذّ ما طلبته منه، وأراد أخواه عبد السـميع وصباح، الركوب معه، فقلت له: أفضـل أن تكـون وحدك. وقد ركب في السيارة العائدة لي، وهي بالأصـل تعود لأمانة العاصمة، وتحمل الرقم (532/ بغداد) نوع شيفروليت، وانطلقنا باتجاه مقر القيادة في معسكر ابي غريب، وقد عبرنا نحو الكرخ على جسر الصرافية الحديد، الذي كان تحت سيطرة مجاميع الحرس القومي الذين يقودهم (حمزة الباهلي) الذي أمن المسلك بعد احتلاله مركز شرطة (الباغات) الذي تحوّل الى مقر للحرس القومي، وعقبنا طريق مطار المثنى باتجاه أبي غريب. عند مرورنا بمعسكر الوشاش، كانت هناك تظاهرة صغيرة مناهضة للحركة، من جنود كتيبة مقاومة الطائرات، وقد خشيت أن يتعرفوا على عبد السلام مما يضعنا في مشكلة لسنا مستعدين لها، لكننا تجاوزناهم. ولم أرتح الاّ في بداية منطقة المأمون، حيث استقبلنا أبناء الثورة والحرس القومي، وكانت هناك أيضاً (هناء العمري) (*) التي هتفت للثورة والحزب وله. ثم استمررت في طريقي حتى اوصلته الى مقر القيادة في مرسلات أبي غريب، بعد الساعة الحادية عشرة بقليل. وبعد فترة قصيرة كانت هناك ناقلات جنود تتحرك، وكان يمتطي أحدها البكر وحازم وطالب وعبد الستار عبد اللطيف، وقد رفع الأخيرة عبد السلام عارف الى اعلى الناقلة، وتوجه الجميع نحو الاذاعة في الصالحية. واستكمالاً لذلك، وهذا ما يشير له (طالب شبيب) عضو القيادة القطرية، حيث يؤكد إن عبد السلام عارف لم يعرف أو يعلم عن الثورة أي شيء قبل وصول المهندس عدنان القصاب اليه وابلاغه بمرافقته الى معسكر أبي غريب، وما يعّزز ذلك القول رواية الصحفي (يونس الطائي) رئيس تحرير صحيفة الثورة التي كانت تصدر آنذاك، والمقرب من الزعيم قاسم، ووسيطه لثوار رمضان مساء 8 شباط/ فبراير 1963، حينما خرج بانطباع أن عبد السلام عارف، ليس بالقوة المؤثرة، بل انه تابع برغم اعلان تنصيبه رئيساً للجمهورية في الحكم الجديد. مما يولّد القناعة بحقيقة من يملك القوة والتأثير وهو غير وضعه يوم 14 تموز/ يوليو 1958 وما بعدها حينما كان رجل الثورة وقائدها والمزهو والمتغطرس والمتعالي على الجميع.

المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here