عناقيد النار . . جدلية التأويل في السياسة العراقية الميــغ . . وروفــا . . والموســـاد 12

د. حميد حمد السعدون

فضلاً عن ذلك، فأنَ الموساد، وزيادة في الحيطة والتوريط، نظّمت لمنير علاقة مشبوهة مع السيدة “باربرا” زوجة مدير شركة النفط العراقية I .P C في كركوك، التي تعلّقت به لوسامته الشخصية ورشاقته العسكرية، ولخدمة الهدف الذي كلفّت به. وقد كانت لقاءاتهم الحميمية مستمرة في بغداد أو في الموصل، بعيداً من أعين الاجهزة الخاصة أو المتطفلين، وهذه العلاقة قوت من عزيمته وتصميمه لسرقة الميغ – 21، بعد أن ضمنت له السيدة المذكورة تحقيق كل طلباته. وبعد التحاق منير بسربه القديم – الجديد، السرب 11 في قاعدة الرشيد العسكرية في بغداد، جرى التنسيق لترتيب كافة الخطوات بشكل دقيق، وبما يضمن النجاح، وبعيداً عن أية مفاجأة. وقد كان من حسن حظ منير إصابة ابنته بمرض تكسّر الكريّات البيض في الدم، وهو مرض، كانت العلاجات الطبية المتوفرة في العراق في حينه، غير قادرة على التعامل معه، وهذا ما أعطاه العذر في ترويج طلبه لمعالجة ابنته خارج العراق، وبشكل رسمي، وهذا ما تحقق، حينما غادرت زوجته وأبناؤها، على رحلة الخطوط الجوية العراقية المتجهة للندن في الأول من آب/ اغسطس 1966. على الرغم من ان البعض يدّعي، أنه جرى تهريب أسرته عن طريق محطة الموساد العاملة في كردستان باتجاه ايران، وهو أمر بعيد عن الصحة، لأن حصول ذلك، تحت أي أغطية أو إخفاءات لا يتيح لمنير، التعامل الطبيعي مع الايام المتبقية لهروبه، كما أن حصول ذلك، ينبّه الأجهزة الخاصة، بدون أن ننسى أن جميع أجهزة العمل الخاصة في الشرق الاوسط، مخترقة من بعضها البعض. لكن الذي نرجحه، أن الموساد قد رتبت في الأيام القليلة التي سبقت هروب منير عملية نقل بعض اليهود العراقيين الى ايران، عن طريق كردستان، وبشكل أشبه بالعلني، غايتها من ذلك، إشغال أجهزة الاستخبارات العراقية عن الضربة القادمة. وفي يوم 16 آب/ اغسطس 1966، كان الموعد المتّفق عليه بين منير والموساد لانجاز العملية. وحدّثني أحد أفراد التشكيل الذي طار مع منير في تلك الطلعة الجوية، بالقول “كان تشكيلنا من ثلاث طائرات، وكان خط سيرنا الملاحي، على الشكل التالي: بغداد – كربلاء – الكوت – بغداد، وهي ملاحة قد تستغرق بحدود الساعة.. بعد اقلاعنا أنا وآمر التشكيل، تأخر منير عنّا بحدود خمس دقائق، بحجة التدقيق.. ثم بعد اقلاعه، اتّصل بنا، بأنه يعقبنا في الأثر. وقد استبطئنا التحاقه فاتصلنا به، لكنه لم يردّ علينا، وكرّرنا الاتصال ولم نحصل على نتيجة، فأخبرنا قاعدة الرشيد الجوية بالأمر.. وقد تولّد لدّي انطباع بتعرّض طائرته لخلل فني.. وبعد عشر دقائق استلمنا أمراً من قاعدة الرشيد بقطع خط سيرنا الملاحي المقرر، والتوجه غرب العراق، لملاحقة منير وإسقاطه.. ونفذّنا الأمر، الذي شاركتنا فيه بعض الطائرات المنطلقة من قاعدة الحبانية.. لكننا لم نجد له أثراً..”. أما منير فإنه بعد أن أقلع من قاعدة الرشيد الجوية، طمأن آمر تشكيله بأنه في إثره، لكنه بعد أن وصل للارتفاع الذي يريده، أطلق طائرته نحو الغرب بأقصى سرعة تستطيعها، عاقداً العزم أن لا تفوته ولو ثانية واحدة من الوقت، في نفس الوقت الذي قطع اتصالاته مع القاعدة الجوية والتشكيل الذي طار معه، متجنّباً المرور في مجالات التدريب التي يشغلها طيّارو قاعدة الحبانية. وبينما كان منير على وشك أن يدخل الأراضي الاردنية، استلم التشكيل الذي طار معه، أمراً بملاحقته وإسقاطه، فتغيرت واجباته من ملاحة اعتيادية، الى تشكيل قتالي، لكن الوقت الذي فات والمسافة التي قطعها منير كانت حائلاً في انجاز هذا الواجب الجديد الذي كلّف به. بعد وصوله للأجواء الاردنية، فأنه اتّجه جنوباً باتجاه البحر الميت، هادفاً من ذلك، تجنب المفاجآت غير المتوقعة في المجال الجوي الاردني. الاّ أن سلاح الجو “الاسرائيلي”، وفرّ له الحماية في هذه الفسحة التي لا يستغرق قطعها أكثر من اربع عشرة دقيقة، باعتبار أن سرعته، ضعفي سرعة الصوت (2) ماك. وهذا ما حصل، حيث لم تقلع طائرة أردنية لمقاطعته. وحينما دخل الاجواء “الاسرائيلية” كان قائد سلاح الجو “الاسرائيلي” الجنرال “مردخاي هود” هو الذي يوجّه خط سيره الملاحي على الشبكة الوطنية للاتصالات موفّراً له الأجواء المناسبة لغرض الهبوط في مطار “عتليت” العسكري. وقد نظّم له “الاسرائيليون” بعد ذلك مؤتمراً صحفياً مستهدفين إحداث فرقعة مدّوية على هذا الانجاز الذي تحقق، والذي شكل صدمة لجميع منتسبي الجيش العراقي. والغريب أن روفا أشار في مؤتمره الصحفي، إن سبب هروبه، متأتٍ من الاضطهاد الديني الذي يتعّرض له! وهي فرية رخيصة، سـوّقها لتبرير فعله الخياني، وقد أكد الكثير من الطيارين بما فيهم آمر سـربه، انه كان “مدللاً” عند قيادة القوة الجوية العراقية، بل إن طلباته، أيّاً كانت، فانها مجابة. ومهما كان الامر، فأن الخيانة للوطن، لا يمكن تبريرها تحت أية حجة او ذريعة، مهما كانت صحيحة. وقد رتّبت الموساد لمّ شمل عائلة روفا أولاً في لندن، ومن ثم في الولايات المتحدة الامريكية، بعد أن استحصلت له على كل الضمانات المناسبة لمواصلة حياته في الولايات المتحدة الامريكية، حسب رغبته. وقد سألت الاستاذ خليل ابراهيم الزوبعي، والذي كان يشغل أثناء فرار روفا منصب الملحق العسكري العراقي في واشنطن، عن نشاط الاجهزة الاستخبارية العراقية في ملاحقة هذه القضية، خاصة وان المذكور لم يبق في “اسرائيل” الاّ فترة قصيرة، لا تتعدّى الأشهر، التي مكنّته من الحصول على هويتها الوطنية، فأجابني “أن الاستخبارات العسكرية العراقية، أرسلت بداية عام 1967، فريقاً، لمتابعة روفا وإمكانية إلقاء القبض عليه وإعادته للعراق، بعد أن تكرر ظهوره العلني في مدينتي واشنطن ونيويورك . الاّ أنه عرف عن طريق السفير العراقي آنذاك – ناصر الحاني – بمهمة الفريق العراقي الذي جاء لتعقّبه، ولذلك اختفى نهائياً عن الأنظار، ولم يكن بالامكان البحث عنه في عموم الولايات المتحدة الامريكية…”، وحينما كررّت عليه السؤال، بصيغة أخرى، وذكّرته بما قيل، بأن أحد عصابات “المافيا” أبدت استعدادها لانجاز تلك المهمة، نظير مليون دولار، الاّ أن الاستخبارات العراقية، امتنعت عن الاجابة فرّد عليّ “وهل تعتقد ان الاستخبارات العسكرية العراقية، كانت تملك هذا المبلغ آنذاك؟ لقد كان هذا المبلغ في تلك الفترة، شيئاً خرافياً، يضاف الى ذلك ان تأمين مثل هذا المبلغ، يستوجب قراراً سياسياً ومن قمّة رأس الدولة، وليس بمهام وظيفية بحتة، وللأسف، لم يكن بالامكان الحصول على ذلك القرار السياسي لأسباب ومسببات كثيرة”. إن ما أقدم عليه منير روفا من فعل خياني، كان سابقة لم يألفها الجيش العراقي طيلة تاريخه الحافل بالمآثر، مما أوجع قلوب جميع العراقيين بكافة مكوناتهم، وعدّوه سقوطاً فرديا وأخلاقياً لصاحبه، الذي تملّكه الشيطان في ما أقدم عليه. وعلى الطرف الآخر، فإن فعلته، كانت محطّ إعجاب وتقدير وفرحة طاغية “اسرائيليا”، ترتّبت عليها كثير من التداعيات التي طالت حياتنا بعد هذا التاريخ.

المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here