لغتنا العربية ومدى تلاقحها باللغات الاوربية ! (*)

لغتنا العربية وتلاقحها باللغات الأوربية ! (*) بقلم د. رضا العطار

تقارضت الثقافات وتلاحقت واخصبت، ولم تنفصل امة عن العالم وتحيا في عزلة، إلاّ وعاد الضرر عليها هي وحدها، واستمر العالم في طريقه في موكب الارتقاء، حتى اذا فتحت ابوابها بعد عزلتها، كانت قد تخلفت عن هذا العالم اشواطا. وتقارض الثقافات يخصبها، كما لو كانت جسما حيا يتلاقح مع جسم حي اجنبي. فتخرج منه السلالات الجديدة، ثم على مدى السنين والتطور، تنبثق الانوار الجديدة.

ان الذي نسميه بالقرون المظلمة والذي تصف به السنين التي عاشت فيها اوربا فيما بين سنة 500 وسنة 1100 ميلادية، انما كان مرجعه انعزال اوربا ايضا، حين انقطعت مواصلاتها مع العالم في آسيا وافريقيا، وحين اصبحت القرية استكفائية في اقتصادياتها، فلم تعد روما تعرف الهند ولم تعد اثينا تسمع عن الصين.

وفي هذه القرون نفسها لم تكن الامة العربية منعزلة، بل كانت متمدنة تعرف الصين واسبانيا وما بينهما. فكانت سفنهم التجارية تشق عباب بحار الدنيا انذاك حتى وصلت الى جزائر الهند الصينية في الشرق الاقصى. فلم تزهر اقتصادياتها ويتضاعف حجم عمرانها فحسب انما هيأت لها المناخ على نشر ثقافاتها الوطنية، ناهيك انها اعطتها الفرصة الذهبية في نشر الاسلام في تلك الربوع النائية.

فوصلت صناعة الورق الى بغداد من الصين عبر مدينة طاشقند، ولولا ان العرب ينقلون هذه الصناعة الى اوربا لما كان الغرب اليوم على علومه وصناعاته الحاضرة.
ومن قبل ذلك بنحو الفي عام ادخل الفنيقييون وهم امّة سامية مثل العرب حروفهم التي نقحوها من الخط الهيروغلوفي الى اوربا ايضا.

ان لغتنا العربية تحوي مئات الكلمات الاوربية، كما ان اللغات الاوربية تحوي كذلك مئات الكلمات العربية. واننا نحن والاوربين يجب ان نجد في هذه الظاهرة الثقافية مجالا للتعاون المشترك، وميدانا للوحدة البشرية التي يهفو اليها كل انسان انساني.

لقد سبقتنا الامم الاوربية في الحضارة. ولذلك لا نستغرب ان تكون كلمة اوربا سامية
( اروب اي غروب ) لأن الفنيقيين كانوا يصفون الاقاليم الاوربية بأنها غرب بلادهم، على الجانب الاخر من البحر الابيض المتوسط، ولولا انهزم هنيبعل القرطجي في حربه مع الرومان، لكانت اوربا الان في اشتراك لغوي مع الامم السامية.
وكما اقترض الاوربيون منا، اقترضنا منهم.
فقد كانت هناك دولة عربية بالقرب من دمشق هي دولة تدمر او دولة زينب. وهي التي يسميها العرب الزباء. فقد كانت هذه الدولة العربية يونانية. ومن هنا دخلت مئات المفردات اليونانية الى لغتنا قبل الاسلام. ومما يلاحظ ان كثيرا من هذه الكلمات اليونانية يدل على ان الطبقة السائدة، طبقة الحاكمين، كانت عربية يونانية.

فقد اعتبر مثلا كلمة السيف، كلمة يونانية لفظا ومعنى. ثم اعتبر الخطأ المشهور حين يقولون ( خرجوا للصيد والقنص ). فإن المعاجم تفسر ( القنص ) بانه هو الصيد. فكأنهم خرجوا للصيد والصيد. وهذا سخيف. وانما التفسير الصحيح انه لما كانت كلمة قنص هي كلمة لاتينية تعني الكلبة ( كانيس ) تكون الجملة الصحيحة انذاك هو انهم
( خرجوا للصيد بالقنص ) اي بالكلاب.

وعندما نقرأ كتاب الحيوان للجاحظ، نجده يقول ان العقاب أنكدر على الذئب وعمل مخالبه فيه، فتقطع ظهره. فكلمة ( انكدر ) لها اصل لاتيني هو ( انكديرا ) اي انقض عليه. ثم نجد ايضا ان هناك كلمات ثقافية عديدة تعود الى اللاتينية او اليونانية، مثل القلم والقرطاس واللغة والادب والرقص والموسيقى والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والسفسطة والزخرفة.

ان هذه الكلمات تدل على ان الطبقة الحاكمة في دولة تدمر، التي كانت تمارس رياضة الصيد ورياضة الفنون الجميلة انما كانت يونانية لاتينية عربية. ومما يزيد هذا الرأي تأييدا هو ان كلمات الفضاء وكلمات الامتلاك، يونانية لاتينية ايضا، كالقانون والقسط والقاضي والميراث والفدان والعقار و البرج والزخرفه والقرميد والبركان والقصر، هذه قليل جدا من كثير جدا من الكلمات الاوربية التي دخلت لغتنا وبقيت على اصلها ولم تترجم ولم يخترع العرب كلمات عربية تؤدي معانيها، وهذا ما يجب ان يبحث.

فهي لا تزال تستعمل كما هي الان في اوربا، وربما يلتبس بعضها على القارئ العربي مثل كلمة – الميراث – فإن المعاجم العربية تقول ان الاصل هو الارث . وهذا الاصل يوناني ( ارس ) ويبدأ بحرف الهاء الصامتة، ومنه كلمة هيريدتيه الانكليزية والفرنسية،
واما كلمتا جرن وجران فعاميتان ومعناهما الحبوب. واما كلمة قاضي فترجع الى جوديك اللاتينية. واما كلمتا قسط وقسطاس فهما بلفظهما يستعملان في اللغات الاوربية.

ونستطيع ان نذكر من الكلمات العربية التي دخلت اوربا والتي تستعمل الان في لغاتها عشرة اضعاف ما ذكرنا هنا، وكل هذا يدل على ان الثقافات تتقارض ويأخذ بعضها من بعض وهذا التقارض هو في النهاية تلاقح واخصاب في التفاهم بين ابناء البشر. ويا للفائدة نكسبها عندما نأخذ بالكلمات الاوربية للمخترعات والمكتشفات الحديثة.
* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here