الملكية وثورة 14 تموز 1958م (2)

فارس كريم فارس
أما على الساحة السياسية، فقد ظهرت معالم واضحة لجبهتين منفصلتين ومتباعدتين بل ومتعاديتين، وهما الجبهة الملكية المتحالفة مع الشيوخ والإنجليز المحتكرة للسلطة والثروة، وجبهة القوى الوطنية والقومية خارج السلطة. كما شهدت هذه الفترة انتشار وترسيخ الأفكار والأيدولوجيات الغربية الحديثة في صيغتها الليبرالية والاشتراكية. وكذلك شهدت هذه الفترة تصاعد نمو الحركات السياسية السرية في ضوء إصرار الملكية على محاربة أفكار الأجيال الجديدة وحالة الجمود والتكلس الذي تعاني منه، وبهذا انعدمت المشاركة السياسية ضمن مجريات العملية السياسية في بناء الدولة الوطنية فعلياً، وبدأت بظهور علامات انحدار إلى الفوضى، مع استمرار العراقيين بمطالبتهم بالاستقلال بعد (معاهدة بورتسموث) لعام/1948م التي رفضها العراقيون لتأكيدها على مظاهر السيادة البريطانية.
إن حالة الفراغ الفعلي للساحة السياسية العراقية في العهد الملكي، قد خلقت عوامل ساهمت في بناء أرضية ملائمة لنمو أحزاب معارضة سرية، اختلفت جذرياً عن أحزاب النخبة السياسية السائدة في تلك الفترة من حيث أفكارها وأهدافها ومكونتها وممارستها واستمراريتها. وهي أحزاب اهتمت بصد ومنع الفساد الحكومي والسياسة الخارجية الموالية لبريطانية وقمع الحريات العامة. ومن أبرز تلك الأحزاب هي الاحزاب اليسارية والوطنية التحررية، التي وقفت ضد المعاهدة العراقية البريطانية، والتي طالبت بإنهاء مفعولها لتعارضها مع ميثاق الأمم المتحدة وبجلاء القوات البريطانية.
ان الملكية خلال الفترة من 1921 – 1958 اعاقت بهذا الشكل او ذاك قيام دولة وطنية مستقلة, ديمقراطية حديثة وفق ما كانت تطرحه من شعارات, الا ان الملكية فعلت الكثير في الوقت نفسه لتحضير العراقيين لحمل الصفات الوطنية, سواء جاء ذلك اختيارا او للضرورة, بصورة مباشرة ام غير مباشرة, عبر عمليات بداتها هي ام عبر عمليات وقعت في شراكها, والاهم من ذلك ففي تلك الفترة ترعرع المجتمع العراقي في خضم الازمات وفي لحظات خطر كبير ومعاناة مشتركة وفي ظل ارتعاشات الجماهير الهائجة وانفجاراتها الغاضبة واذا اراد المجتمع العراقي ان يبقى متماسكا مستقبلا وان يحافظ على هوية مستقلة, فانه سينظر الى انتفاضة 1920 وحرب 1941 ووثبة 1948 وانتفاضتي 1952 و1956 وثورة تموز 1958 على انها مراحل في تقدم العراق باتجاه الانسجام الوطني واولوية الهوية الوطنية ورفض حالة الصراع والانقسام المذهبي والعرقي, الذي نحن عليه الان.
انقلاب أم ثورة
ان ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 التي شرعت للعهد الجمهوري الاول في الدولة العراقية, كانت حركة انقلابية في طابعها العام حيث حصلت حركة التغيير هذه ضمن مؤسسات الدولة الرسمية نفسها, ولكن مستوى التغييرات الجذرية التي انجزتها ومستوى الدعم الشعبي الذي حظيت به, جعل منها حركة ذات طابع جذري في البناء والتغيير الاجتماعي اي ( ثورة ) بالمعنى السياسي للكلمة. ان ما حصل في يوم 14 تموز كان من الناحية التكتيكية, من تخطيط جماعة صغيرة بمعزل عن الشعب, بيد ان نظرة اوسع ينبغي ان تضع احداث 14 تموز في اطارها الطبيعي ضمن مجرى تسلسل الاحداث تاريخيا, وبهذا المنظور تبدو هذه الاحداث وكأنها ذروة نضال جيل كامل من الطبقة الوسطى والدنيا والعاملة, وثمرة نشاط جيل ثوري متشرب حتى الاعماق كانت له مقدماته في انقلاب عام 1936, والحركة العسكرية عام 1941, ووثبة 1948, وانتفاضات 1952/1956, كان فيها تنظيم الضباط الاحرار متابعا لهذا التوجه, لذا جاءت احداث 14 تموز على انها اكثر من مجرد تغيير في نظام الحكم بل ثورة جذرية على واقع العراق السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
قام الرئيس عبد الكريم قاسم بتشكيل الوزارات الثلاث في مرحلة ما بعد 14 تموز ولحين سقوط النظام في شباط الاسود عام 1963, كما واعلن عن تشكيل مؤسسة (مجلس السيادة) بشكل مفاجئ في بيان الثورة الاول, دون اتفاق على تكوينه بين اعضاء تنظيم (الضباط الاحرار) التنظيم الذي يقف وراء تخطيط عملية الانقلاب, في وقت كان من المفترض ان يضم مجلس قيادة الثورة, كل الذين خططوا للقيام بالانقلاب.
وبهذا فقد ادت طريقة ممارسة السلطة السياسية الى اقامة نظام سياسي يمكن تسميته (نظام الزعامة), فقد انفرد عبد الكريم قاسم بالسلطة عندما احتل منصب القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء ووزير الدفاع, واصبح الحديث عن السلطة في العراق يتمحور حول شخص (عبد الكريم قاسم) الذي اصبح مصدرا وحيدا للسلطة في العراق في ظل نظام الجمهورية الاولى.
رغم الانجازات الجذرية التي قامت بها ثورة 14 تموز, حيث تحول العراق من نظام الحكم الملكي الوراثي الى النظام الجمهوري, وخرج من الاحلاف الاستعمارية كحلف بغداد, واصدر قانون الاصلاح الزراعي لصالح الفلاحيين الفقراء, وشرع قوانين للحفاظ على الثروة النفطية وعزز الاستقلال الوطني وقام بإنجازات كبيرة على طريق التنمية الاجتماعية, واعتبر دستور الثورة – العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن واقر حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية (وهذه احدى اهم النقاط الايجابية للدستور المؤقت الجديد بشان القضية الكردية).,,,,,, وغيرها من الخطوات التي عززت من مكانة العراق الاقليمية والدولية, الا ان هدف الوصول للسلطة والاستيلاء عليها استحوذ على تفكير القوى والنخب السياسية, اما ما ستفعله بهذه السلطة فستفكر به لاحقا. فلم تحظى موضوعات مثل كيفية تداول السلطة, وآليات تحقيق الديمقراطية باهتمام يذكر. وانعكس ذلك بشكل جلي على دستور هذه الجمهورية, الذي بدا خارج وظيفته التي وجد من اجلها ألا وهي تنظيم ممارسة السلطة السياسية. فقد جاءت فقراته مقتضبة خاصة المواد المتعلقة بممارسة السلطة.
وبقيت قضايا شكل النظام الحكومي السياسي الذي يجب تطبقه ومن سيقوده؟ دون حلول, فرجال السلطة الجديدة يفتقدون للخبرة ولوحدة العقيدة, كما كان الضباط الاحرار ومن آزرهم من القوات التي قامت بالثورة غير متجانسة ومتباينة. وبعد استلام السلطة بدا الصدع يدب في اوصال التحالف الهش الذي التقى على خلفية العداء للنظام القديم وكان على وشك التفكك في اي لحظة, وهذا ما حدث بين الرجلين الذين قادا الانقلاب بعد اقل من خمسة ايام على الحدث المذهل الذي وضع البلاد بين ايديهم. وقد افضى هذا النوع من الصراع على السلطة الى التأسيس للفهم الاستبدادي ونمو الدكتاتورية, فبمجرد الوصول للسلطة ينقلب الواحد منهم على الاخر ويحاول سحقه, والمسحوق بدوره يسعى لاسترداد ما فقده والثأر ممن هاجموه. ذلك الفهم الذي ساهمت في تدعيمه اغلب الاحزاب السياسية الراديكالية في تلك الحقبة, حيث كان الصراع بينها خطير ودموي لأنه صراع نابع من اختلاف ايديولوجي يشمل خلاف في الفهم حول التفاصيل السياسية والاقتصادية الاجتماعية.
ان وظيفة الدولة الاستبدادية التي تبرز خلال مراحل الانتقال, هي خلق علاقات انتاج او نمط انتاجي لم يكن قائم, وتصفية العلاقات القديمة, اخذين بنظر الاعتبار ان كل نمط انتاجي يفترض شكلا مختلفا من اشكال تدخل الدولة, فسيادة النمط الرأسمالي تستدعي مستوى تدخل اكبر من الدولة, هذا التدخل يكون ضمن حدود مرسومة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة, ولكنه ادى في مجتمعات نامية الى شكل سافر من اشكال الدكتاتورية. ان الدولة كعلاقة تتمتع باستقلال نسبي مكتسب كونها تمثل المصلحة الجماعية للمجتمع, والدولة هي عامل تماسك التشكيلة الاجتماعية وعامل اعادة انتاج شروط النظام الذي يحدد سيطرة طبقة على اخرى.
فخلال ثورة 14 تموز وما بعدها, كان المجتمع والاقتصاد العراقي يمر بأزمة عميقة, تراجعت فيها علاقات الانتاج الاقطاعي لكنها ظلت باقية ومؤثرة, وحققت الرأسمالية العراقية تطورا ملحوظا لكنها ظلت عاجزة عن قيادة النشاط الاقتصادي, وحافظ راس المال الاجنبي على مواقعه وان تقلص حجم نشاطه وتأثيره بفعل قانون رقم 80 لعام 1961 الذي انتزع حوالي 99,5% من اراضي العراق من ايدي الشركات الاجنبية, وظل الانتاج السلعي الصغير قائما ومنتشرا, وعجز قطاع الدولة تجاوز العلاقات الرأسمالية في الانتاج. ان نمط الدولة الرأسمالي لم يستقر بسبب تعايش انماط واشكال مختلفة من الانتاج في ظل التكوين الاقتصادي – الاجتماعي الواحد.
ان الدولة بأجهزتها البيروقراطية ونخبها السياسية كانت مدفوعة بمشكلات التنمية الاقتصادية, النمو السكاني نشر التعليم, توسيع استخدام التكنولوجيا, اي كل ما يتعلق بتحديث المجتمعات التقليدية اكثر من اهتمامه بالمسائل السياسية بشان بناء الدولة. الامر الذي ادى الى تقليص نظرية بناء الدولة وجعلها ذيل لنظرية التحديث.
وهنا نشأت اشكالية بناء الدولة بربطها بالتحديث ونتائجه المتمثلة في تقليص العملية ألسياسية بوصفها القدرة على ممارسة حرية الاختيار والإبقاء على الخيارات مفتوحة بشان البدائل الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية. وبالعكس من ذلك استطاعت بلدان اخرى ان تؤكد على استقلالها وبناءها السياسي وسيطرتها على مستقبلها الاقتصادي حتى على حساب معدلات نمو اوطأ مثل الهند كما ان تنفيذ المهام الاجتماعية والاقتصادية للتحديث لم يؤدي كما كان مفترضا الى التنمية السياسية, وهذا الخطأ الاستراتيجي الفكري والسياسي الفادح تكرر مع الاسف الشديد في سبعينيات القرن الماضي اثر التحالف بين القوى السياسية حيث لم تعطى الاهمية المطلوبة لتطور الديمقراطية السياسية والاجتماعية بالتوافق مع تطور التنمية الاقتصادية مما ادى لنشوء دكتاتورية مستبدة اضاعت ثمار التنمية الاقتصادية لعشرات السنين ولم تحقق أي تقدم بالديمقراطية السياسية ايضا.
وعلى العموم كان يمكن ان تكون الانطلاقة للحركة العسكرية في 14تموز وبإسناد الجماهير الشعبية التي حولتها الى بداية ثورة حقيقية ضد التخلف والخضوع للأجنبي التي كانت تمتاز بها الملكية في العراق, انطلاقة لنظام حكم جديد يتمسك بالديمقراطية السياسية وبجعل الشعب حقا مصدر للسلطات من خلال مجلس تأسيسي والتهيئة للانتخابات ودستور دائم يفصل السلطات الثلاث ويضمن التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والحقوق المدنية والحريات الفردية…….ولكن سار التاريخ بعكس ما هو مُتَأملْ حيث تم اختيار الطريق الوعر والاكثر دراماتيكية, الذي جلب الكوارث والويلات و الالام وما يزال, طريق الدكتاتورية والاستهانة بالشعب وحقوقه وحريته. انتهى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here