سيرة لم تكتب د. محسن الموسوي يكتب ذكرياته ومذكراته عن شقيقه المفكر 2

سيرة لم تكتب د. محسن الموسوي يكتب ذكرياته ومذكراته عن شقيقه المفكر العراقي المناضل عزيز السيد جاسم

د. محسن الموسوي
خاص بالصفحة
ومنذُ بدء العدوان أو قبله بقليل تملكته كآبة شديدة و سوداوية عميقة: قال لحميد سعيد أن العراق داخل نفقاً مظلماً لا نهاية له. وعندما سعيت بعد اسابيع من البرود الى انتظاره على رصيف الشارع أمام مكتب الاستنساخ الصغير جداً في أحد فروع شارع السعدون ببغداد رآني عن بعد، وكان قد قطع الطريق مشياً على الأقدام الى مرقد الامامين في الكاظمية ذهاباً واياباً. كان يرتدي بدلة زرقاء كالحة. وبان عليه الشحوب. غاب عني معنى ذلك اللون، وهو لون اللوعة والحزن لدى المتصوفة. وكان قد بلغ مجاهدات المتصوفة في تلك السنوات، وتحديداً منذ 1988. رآني عن بعد، فتكسرت الكآبة تحت وقع ابتسامته، تلك الابتسامة التي تجب غيرها، الابتسامة التي تجعل عبد الرحمن طهمازي يتذكرها ويغيب فيها باكياً بلوعة كتلك التي يحتمها الغياب الذي غابت معه الابتسامة. تورد وجهه بتلك الابتسامة، وهربت الكآبة. وأوضحت له ما كان شائعاً بين المثقفين من أن رئيس البلاد يمتلئ غضباً عليه. ويبدو ان الوشاة قد أكثروا حقداً وتمادوا كذباً. ولربما قال أبو خوله كتابةً ما رأى لزوم قوله كمثقف يأخذ دوره بجدية منذ نعومة أظفاره. ولكن هل كان التصوف الذي التزمه أبو خوله جديداً عليه منذ اعتقاله سنة 1988؟ كان الاعتقال حاسماً بدون شك. قبله بأيام وفي مطالع شهر حزيران تكرر الكلام كثيراً عن كتابه المزمع نشره بعنوان (علي بن أبي طالب سلطة الحق). تكرر الكلام. وكان الدكتور بشار عواد معروف يعاني أزمة فعلية وهكذا رأيته كلما التقيته في مقر الجبهة الوطنية ومؤتمرها الوطني الذي يديره الراحل حسن العامري. كان العامري قد أبعد عن دائرة الفعل السياسي، وأنيطت به مهمة جمهرة الجمعيات العراقية والعربية لحشدها في الأزمات. والتقيت بشاراً بصفته ينوب عن (المؤتمر الاسلامي)، وعن (المؤرخين). لم أكن أدري أن دوراً موكلاً اليه، كما أوكل الى غيره لتجريم كتابات عزيز السيد جاسم. كان ولربما عاش صراعاً داخلياً، وهو ما لا أستغربه، فالدكتور رشدي عليان رحمه الله زارني بعد أشهر، اثر خروجي من الموقف معتذراً، لا عما جرى للكتاب ومؤلفه سنة 1988 ولكن لما جرى لي بسبب ذلك. اما الدكتور عرفان عبد الحميد، استاذ الفلسفة الاسلامية في جامعة بغداد، فقد جلست مصادفة جواره في مؤتمر ببغداد، قبل يومين من اعتقالي وشقيقي. استغربت حرجه من هذه الجيرة وتململه، وكأنه يخشى أن يراه آخرون في مثل هذا الموقف. كان يحظى برعاية الدكتور فاضل البراك مدير المخابرات حينذاك، ويود الابقاء على هذه الرعاية. لم أكن عارفاً بما يدور. ويبدو أن بشاراً قد أوكلت له مهمة قراءة الكتاب بهدف منعه أو تحريمه. وأغلب الظن ان دائرتي المخابرات والأمن طلبتا منه ذلك. الذي اعرفه انه كتب تقريره سلباً ضد الكتاب. وكتب مثله الدكتور رشدي عليان رحمه الله والدكتور عرفان عبد الحميد. فكلاهما كانا من خبراء الدكتور فاضل البراك عندما كان مديراً عاماً للأمن وبعدها لجهاز المخابرات. وكان ابو خوله (عزيز السيد جاسم) قد كتب مؤلفه في شهر رمضان، وعرضه للنشر، لكن وزارة الثقافة والاعلام احالته الى وزارة الاوقاف. وكان بشار خبيرها وأحد مستشاريها. ولهذا لم يجد الكتاب طريقه للنشر. ولم يكن الأمر غريباً: فالنزعة الطائفية، اخذت طريقها حينذاك لسوء الحظ. وبدأت (الاوقاف) تعيش خطاً تمييزاً بين الكتب (الموثوقة) و(غيرها): فاليعقوبي والمسعودي وابو الفرج، ودعبل الخزاعي، ناهيك عن الطوسي وغيره يدخلون باب الدخيل الذي لا يعتد به. لكن بشاراً كان يعيش ازمته إذ كان متوتراً حاداً بدون مناسبة. واستغربت ذلك، حتى جاءني المرحوم الدكتور عصام عبد علي، وكان من قبل وزيراً للتعليم العالي، وحذرني بسرعة ان بشاراً يشترك في طبخة خاصة ضد شقيقي، ولربما ضدي. واخبرت ابا خولة. في يومها اخبرني ان المرحوم عبد الرحمن الدوري – وكان مديراً عاماً للأمن العام اتصل به – وطلب نسخة مخطوطة من الكتاب. واعتبر ابو خولة ذلك دليلاً على فشل مكيدة الاوقاف. وكتب مقالة في جريدة العراق يميز فيها بين أنواع الرقابات والممنوعات، واردفها بأخرى ينبه فيها الى مخاطر الانزلاق في الطائفية، وأخرى يشيد فيها بذكرى الامام الحسين بن عبد الله، وتالية يشكو فيها ما يجري لنخيل العراق وبساتينه من هدر و تدمير وقطع وبتر: (ارحموا عمتكم النخلة). لكن الضالعين في كل ذلك يتآزرون في أمر واحد: مصالحهم أولاً. اما مصلحة الوطن وارضه واناسه، واقتصاده، وتكوينه وجغرافيته. فكلها في خبر كان، لا تعنيهم بشيء. “كل شيء للمعركة”: بمعنى تدمير البلاد تحت راية الادعاء بالمعركة القومية مع ايران. كانت الحرب ثماني سنوات من الدمار والقحط والتلف. والمثقفون يسعون جاهدين للحيلولة دون التدهور. ها انت يا من تقرأ تراني أتهرب من المضي في الإفصاح عما ينبغي أن يقال الآن، لماذا تماطلني كتابة هذه الهواجس الخاصة؟ لماذا تأخرت في كتابة ما ينبغي أن يكون فصل الخطاب؟ ولماذا تهرب مني الكلمات وتحل غيرها لتوصيف أحوال باتت معروفة عما آل اليه الوضع في العراق منذ بدء الحرب مع ايران في أيلول سنة 1980. ولكن، الا تترابط القضايا والاشياء في خيط متصل؟ ألم يرها أبو خولة، وأعيد وأكرر كنيته لصعوبة الحديث عنه باسمه، على الرغم من ان هذا هو الاسم الذي اختاره باصرار منذ صغره: عزيز السيد جاسم. لم أزل طفلاً في السنة الثانية من التعليم الابتدائي عندما كان ذلك المدير اللامع صبري فرج، مدير النصر الابتدائية، يبث شكواه لنا نحن الصغار من أن عزيزاً مزق شهادة الابتدائية والتي ظهر فيها الأول على المدرسة ومثيلاتها في لواء الناصرية لان اسمه جاء بما لا يرغب فيه: عزيز السيد جاسم علي. قال له اسمي (عزيز السيد جاسم). هكذا أعلن انتماءه واسمه ورفض غيره، فلا حدود ولا ألقاب. ويكفيه النسب الى والده سيداً من آل البيت. لم يتخل عزيز عن ذلك أبداً. وسيتكرر هذا الانتماء في رواياته وقصصه ظاهراً أو باطناً. لم يوارب في ذلك. ويصعب القول ان هذا الانتماء غاب في تكوينه الشخصي. بل يصعب القول انه غاب عن ذلك التوتر بين ما عرف عنه في الستينات وبداية السبعينات من انغمار في الحياة والعمل السياسي النظري والتنظيمي. كانت كبرياؤه واضحة جلية تفرض هيبتها على الآخرين، وتحتم عليهم مراعاتها. لكنها ليست كبرياء المتغطرس، بل هيبة الشريف، فهو وديع محب ودود تجعل منه عاطفته ورعايته للآخرين محط محبتهم واستماتتهم من أجله.
المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here