سيرة لم تكتب د. محسن الموسوي يكتب ذكرياته ومذكراته عن شقيقه المفكر (6)

سيرة لم تكتب د. محسن الموسوي يكتب ذكرياته ومذكراته عن شقيقه المفكر العراقي المناضل عزيز السيد جاسم (6)

د. محسن الموسوي
خاص بالصفحة
وعندَما رآني صديقه الشاعر الصدوق حميد سعيد أعيش ألم الفراق وأضرب أخماسا بأسداس حول مصيره في تلك الأشهر الحالكة التي تلت اعتقاله سنة 1991، قال: ولكن، حتى لو جرى الذي نخافه، أليس هذا ما ينشده ولا يخاف منه او يخشاه). كان حميد قد قرأ أيضا لكتابه اللاحق (متصوفة بغداد) الذي صدر عن دار خاصة يديرها الدكتور عصام عبد علي، هي دار (المعرفة). وكان شوق المتصوفة إلى اختتام الرحلة الدنيوية باديا، الأمر الآخر فحب بغداد، اذ لاحظ (حميد سعيد) أن بغداد أسرة قوية لم يكن يتصور من قبل أن أبا خولة يتعلق بها لهذا الحد. ينفي أبو خولة أن يكون قادرا على التمثل بعلي بن أبي طالب. لربما كانت مسعى للاقتداء، لكنه يرى في الإمام فريدا. ومهما يكن فقد سعى إلى الإمام بجوانب شخصه وحياته في هذا الكتاب، معترفا بالكتابة معتركا صعبا. يقول: حين كتبت هذه الأوراق، كانت في ذهني أفكار كثيرة عن علي بن أبي طالب، ولكن عظمة الجوانب الفكرية المتعددة في سيرة علي وحياته وفرحتي في صعوبة متابعتها. فكما كتبت فكرة، جاءت فكرة أخرى، وما أظن أن الكاتب الذي يكتب كتابا عن الإمام علي، ويختتمه. إلا أن يكون على ثقة تامة بأنه لم يف الموضوع إلا بعض حقه. وحالما اردت غلق أفكاري المكتوبة بين دفتي هذا الكتاب، تواردت أفكار وآراء أخرى، فالكتاب يتطلب اختتامه، والكتابة عن علي لا تختتم!- ص12 الموضوع أوسع من الكتابة، وأعمق. والمقدمة مفتتحا تعترف بذلك: فهي مكتوبة بعد الانتهاء من الكتابة التي أنجزت في رمضان من سنة 1987 أو 1988. وقدمت المخطوطة لوزارة الثقافة والإعلام قصد إجازتها وإحالتها الوزارة إلى الأوقاف، والتي إحالتها إلى الدكتور بشار عواد وآخرين، الذين تحفظوا عليها. رد عزيز السيد جاسم على التحفظات في جريدة العراق، وقامت قائمة المتضافرين طائفيا لافتعال أزمة إفادتها الدكتور فاضل البراك مدير المخابرات حينذاك للضغينة التي احتقن بها. لكن الموضوع أصبح ورقة بيد مجموعتين: الطائفيين واليمين. أما اليسار المضروب أصلا فله مشكلاته ومحنته الصغيرة. ومن جانب آخر كان اليسار الطفولي من أرباع المثقفين في المنفى يحيكون كيدهم بتشف عن ماض لم- يتبينوه حتى هذه اللحظة. كما قلت: ناولت الدكتور سهيل إدريس المخطوطة في بغداد، وفي سيارتي. فلم يكن أبو خولة يحضر الفنادق والمؤتمرات. وزاره د. سهيل إدريس لاحقا بعد إطلاق سراحه في داره ببغداد بصحبة غالي شكري وآخرين. كان ذلك قبيل انعقاد مؤتمر المربد ومهرجانه سنة 1988. لاحظوا فيه انكسارا، ولاحظوا غياب الوهج الذي كان فيه. قال غالي: انطفأ وهجه. وهذا صحيح. إذ أجبر عزيز السيد جاسم على مهادنة جزئية للكتابة كما تريد الدولة أو أطراف فيها لتبرير إطلاق سراحه. ولكن لنقرأ الطور الأول في الكتابة، وعناوين فصوله لنتعرف على منهجية وأسلوب يتجاوزان الذهنية الرثة البالية التي شغلت موقعا متقدما أثناء الحرب على إيران. الفصل الأول: مشيئة الرب، والثاني: اصطفاء المصطفى لعلي، والثالث: شجاعة علي: البلاء المتطابق، والرابع: دلائل الشجاعة في حرب صفين، والخامس: السياسة العسكرية لعلي، والسادس: تأريخ لأوليات سياسية، والسابع: سلطة الحق في رفض السلطة، والثامن: سلطة العقل، والتاسع: عدل علي، والعاشر: علي مدرسة التاريخ التربوي، والحادي عشر: سلطة النص في بلاغة علي بن أبي طالب. أما جملة ابتداء الفصل الأول فتقول: (وراء تموجات العالم المتجدد المنطوي على ملايين الملايين من ظواهر الولادة والنمو تقف مشيئة الرب التي لا يدركها القاصر). الكتاب بفصوله ولغته ومراجعه يختلف عن غيره، فهو مكتوب بلغة أخرى وبلاغة أخرى تجعل كتابة عزيز السيد جاسم متميزة عن البحث الأكاديمي او التأليف الصحفي؛ فكتابته لها مواصفاتها وعمقها وتوخيها للصدق. ومن الواضح أن قراء الدوائر الخاصة لم يقرأوا الكتاب، وطلب منهم تلفيق تهمة، فحاروا في تدبيرها وهم على معرفة بذلك: وهذا سر ارتباكهم وقلقهم وتراجعهم اللاحق. غفر الله لهم، فقد كانوا أسرى رغباتهم وحاجاتهم ووقعوا في دائرة الظلمة والكذابين. قال الدكتور سهيل إدريس: أنه استدعي سنة 1988، واستفسر منه الوزير عما إذا كنت طرفا في ايصال الكتاب للنشر عن دار الآداب ببيروت. قال: قلت: لا. لا علاقة للدكتور الموسوي بذلك. أنا عارف بعزيز السيد جاسم وكان من كتاب الآداب طيلة الستينات. ثم أضاف: تعلم، أني كذبت في الجزء الأول، وصدقت في الطرف الثاني. وهذا صحيح وبدون ما أعرف بما قاله الدكتور سهيل إدريس، قلت شيئا مماثلا. وكان ما كان. وبينما كنا في الموقف وقبيل خروجي منه، اشتد إطلاق الرصاص في بغداد، وكنا وحيدين في تلك الليلة. وسمح لنا أن نعتلي السطح لنرى ما يجري. كان الخميني يعلن انتهاء الحرب من جانب إيران، وأضاف أنه في هذا الإعلان كمن يتجرع سما لإيقاف نزف الدم. فرحت الدولة العراقية بذلك. واحتفى الناس بالخبر. ولكن السلطة وصدام تحديدا اعتبرا ذلك انتصارا. وهذا سر البهجة. هز أبو خولة رأسه بقلق، وأضاف: الحمد لله لانتهاء هذا النزف المجاني. ولكن صاحبنا سيجعل من الأمر انتصارا عسكريا، وسيقوده ذلك إلى ما هو أخطر: مغامرة أخرى أشد وطأة وتعاسة. وفعلا لم تمض أشهر حتى راودته فكرة (الكويت) دون حساب للنتائج، لا على الصعيد القومي، ولا الجيوسياسي، ولا العسكري أو الاقتصادي. قوميا كانت الكويت أكثر مناصري صدام، وأناسها من أكثر دعاته وأنصاره. وفجأة انتحرت الايديولوجية القومية على يديه: فاحتلال أرض عربية بالقوة يعني نهاية أي مشروع قومي وإبداله بلغة غاب وقبلية عنجهية لا مكانة لها في المشروع القومي الذي له مبادئه ومنطلقاته. أما على الصعيد العسكري: فالجيش المنهك زج في كارثة أخرى. وعلى الصعيد الاقتصادي لم يفهم مكانة النفط في اقتصاديات الدول العظمى، ولا التغيرات الجارية بنية النظام العالمي الذي كان يحتاج إلى نقطة أو بؤرة للتمركز وحشد القوى خلف قوة نافذة مهيمنة واحدة بعد إخفاقات النظام السوفيتي. كانت الكارثة التي رآها أبو خولة عن بعد، ورآها تمضي اتساعا وخطرا كل يوم. خرجت قبله عندما قال العقيد أمجد (ارتدي ملابسك. واذهب إلى المكتب). كل شيء بدا مبهما كما ذكرت. ورافقني الملازم حسين إلى المنزل، على مسؤوليتي، كما قال، لإبدال ملابسي. انفجر أهل البيت بكاء لهول المفاجأة. فلا علم لهم أني قادم. كما لا علم لهم أني ذاهب من قبل. وبقي أبو خولة ثلاثة أشهر أخرى. وقال الضباط كان يزداد كآبة وحزنا. كنا نزوره باستمرار. لكن هذا لم يخفف من الأمر. وعندما كنت موقوفا زارني صديقي المرحوم الروائي والقاص فؤاد التكرلي (توفي سنة 2008) ولم أره منذ 2004. كما زارنا الراحل عبد الجبار العمر، من أصدقاء المرحوم شفيق الكمالي، ومن أكثر الناس طيبة وصدقا. وسعى لإقناع د. بشار بكتابة تقرير مغاير يقدمه للأمن العامة لتيسير إطلاق سراح أبي خولة. لم نكن نعلم أن الورقة بخط صدام تحدد المدة عادة، ولا قدرة لدى هذه الدوائر غير التنفيذ.
المشرق

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here