محمد مهدي الجواهري الشاعر الكبير لسان حال كل العراقيين وفي

عربي الخميسي

القسم الاول
كنت قد قرأت منذ مدة موضوعا شيقا على موقع الحوار المتمدن تحت عنوان
السياسيه والعلاقات الدوليه ، ومنه استوحيت عنوان مقالتي المتواضعه هذه
بعد اضافة اسم شاعر العرب الكبير الجواهري ، ورب سائل يسأل يا ترى ما هي
العلاقة بين الجواهري بهذا الموضوع ؟ واليكم القصه وأبدأ بموجز المقالة
المذكوره

الدين عندما يوظف لأغراض سياسيه

فألمقالة باختصار شديد ، ذات طابع سياسي يتعلق بالحقوق المدنيه
والانسانيه ، يجسدها الفلم الوثائقي الاسترالي المسمى ( باليبو ) ،
وباليبو هذا هو اسم فلم مأخوذ عن اسم قرية اندنوسيه صغيرة واقعة في تيمور
التابعه لأندنوسيا ، واندنوسيا هذا البلد الشاسع الواسع الواقع في جنوبي
شرق اسيا ، مؤلف من عدد كثير من الجزر المبعثره هنا وهناك في المحيط
الهادي، وان تعداد سكانه يبلغ حوالي 300 مليون نسمه الغالبية منهم يدينون
بالدين الاسلامي .

وان موضوع الفلم كما تقول كاتبه المقاله ، يكرس لوصف حالة القتال
الشرسه التي دارت ابتداء بين الاستراليين نيابة عن البريطانيين ضد جيوش
الامريكان ، الذين استخدموا هم بدورهم الاندنوسيين نيابة عنهم لطرد
البريطانين منها ، كما سبق لهم ان قاموا بطرد البرتغالين وقبلهم
اليابانيين والهولنديين ، وهكذا تجري الحروب الخفية وغير المعلنه بين
الاقطاب ذات المصالح والاهداف المتصارعه والمتقاطعه فيما بينها وبانابة
غيرهم من الشعوب المسالمة البرئيه !!

ففي سنة 1975 ولغرض تخليد ضحايا هذه الحرب الظروس والفضائح الانسانية
المرتكبه من جرائها ، وعن واقعة تعتبرها استراليا ، حدث اجرامي وواقعه
مؤلمة ومغيبه مذ ذلك التاريخ ، ولم تجر بحقها في حينه اية تحقيقات او
اجراءآت قضائيه مشروعه ، فقد ارسلت استراليا الى اندنوسيا زمرة من
الفنانين مؤلفه من خمسة اشخاص ، هم طاقم منتجي وممثلي فلم باليبو وكلهم
من المدنيين ومن العامليين بالتلفزيون الاسترالي ، الا ان جميعهم تعرضوا
الى المحاصرة ، ومن ثم اطلاق النار عليهم وقتلهم كلهم بدم بارد دون ذنب
ارتكبوه ، ومرة اخرى في اعقاب هذا الحادث ارسلت حكومة استراليا وبعد ثلاث
اشهر منه ، احد الفنانين المشهورين الى قرية باليبو مسرح الجريمه ،
لتسجيل تقرير مصور عن ملابسات قتلهم ، فجرى قتله هو الاخر ، بعد القاء
القبض عليه من قبل الاندنوسيين وكالعاده لم تحرك الحكومه الاندنوسيه
ساكنا لاجراء التحقيقات اللازمه ..!

والان وبعد 35 سنة قامت الحكومه الاستراليه بفتح ملف القضيه من جديد ،
باعتبار ان قضية مقتل اولئك الفنانين السته جريمة بحق الانسانية ، وتطالب
الحكومه الاندنوسيه باللقاء القبض على الفاعلين ومحاكمتهم ، والذين لا
يزال بعضهم على قيد الحياة ويشغل وظيفة ومنصبا عاليا في الدوله ، وفي
القوات المسلحه الاندنوسيه.·

وحيث ان فلم الوثائقي ( باليبو ) فلم يثير الجدل والاحتقان وسيشحذ عواطف
ذوي الضحايا .! ومعهم ستتعاطف الجماهير ليست المحليه فقط بل على نطاق
عالمي ! وعلى مستوى جميع منظمات حقوق الانسان الدوليه ، مما سيحط من سمعة
وقدر الدوله الاندنوسيه بكل تأكيد ، وهذا ما تخشاه وتحاول بشتى الوسائل
احتواء الازمة بينها وبين استراليا ، ومحاولة منها باقناع الاخيره بعدم
تحريك شكوى امام المحاكم الدوليه المختصه او اجازة عرض الفلم واعتبار
الجريمة عادية وليست جريمه ضد الانسانيه ، الا انها حتى الان لم تقدم
اعترافا او اعتذارا او سببا مقبول لذوي الشأن للحادث المأساوي المذكور
،..! وعليه قامت الحكومه الاندنوسيه بمحاولة بائسه وذلك بالاتصال بحكومة
نيوزيلانده هذاالبلد القريب من استراليا ، والتي ترتبط معه بروابط متينة
وعلاقات صميميه واشبه ما يكونا بلدا واحدا بكل الاعتبارات ، وان كليهما
عضوان في منظمة الكومنولث ، ولهذا فهي اي اندنوسيا تضغط على نيوزيلانده
سياسيا واقتصاديا لكي تقوم بالتدخل لدى استراليا بشكل او باخر ، وبهذا قد
يمكن وعن طريقها احتواء القضيه ، او تخفف من حدية الموضوع وجديته ، وان
تقنع استراليا بعدم السماح بعرض فلم باليبو الذي ترعاه الاخيره وتصر على
عرضه .

ولما فشلت كل المحاولات لجر نيوزيلانده للتدخل ، وحيث لا توجد اسباب
مبرره لأندنوسيا للضغط على نيوزيلانده ، لذا فقد قامت الاولى بتوظيف
امورا اخرى لخدمة هدفها المذكور ..! وهنا الفت عناية القارئ الكريم لبيان
كيف وظفت اندنوسيا الامور الدينية لأغراض سياسيه ضيقه .. وهذا هو بيت
القصيد من موضوعي واليكم التفاصيل ……

· دولة نيوزيلانده تعتمد اقتصاديا على ما تصدره من منتوجات حيوانيه بجميع
مشتقاتها ، وكذلك اللحوم الطازجه ،ودواجن واخشاب وبعض الفواكه ، وان
اندنوسيا هي الدوله الاولى في تسلسل الدول التي تستورد اللحوم من
نيوزيلانده ومنذ عشرات السنين ، وبكميات كبيره نسبة لعدد نفوسها وحاجتها
منه ، مما يوفر هذا ربحا كبيرا لنيوزيلانده سنويا يقدر بمئات الملايين من
الدولارات لا يمكن للحكومه النيوزيلنديه الاستغناء عنه خاصة ، وهي تحت
وطئة الازمه الاقتصاديه العالميه بالوقت الحاضر ، ومن هذا الباب جاءت
اندنوسيا لتضغط على الحكومه النيوزيلانديه وتبلغها بامر غاية بالاستغراب
، وهي حالة تعبر عن ضيق افق سياسي ، ولتبرهن ان السياسيه لا لون ولا طعم
لها ولا حتى اخلاق ، وان الغايه تبرر الوسيله .. جاءت اخيرا لتبلغ
نيوزيلانده وعلى لسان وزير خارجيتها ان اندنوسيا سوف تقاطع استيراد مادة
اللحم باعتباره لحم غير حلال ، بسبب طريقة ذبحه غير الاسلاميه حسب ادعاء
وزير خارجيتها مبررا ، ان ذلك جاء استجابة الى اعتراض مجلس علماء الدين
الاسلامي الاندنوسي ومعهم باقي رجال الدين في اندونسيا ، ولم يعد بعد
الان الاعتراف بالوثائق المعتمده المرفقه مع البضاعه المصدره ، وذلك
اعتبارا من الاول من شهر تشرين الاول الحالي ، حتى يعاد النظر بالموضوع
من كافة جوانبه ..!

واللافت للنظر ، ان اندنوسيا وعلى مدى عشرات السنين اعتادت استيراد
اللحم النيوزيلاندي، وخلال كل هذه المده الطويله لم تعترض يوما على
نيوزيلانده حول طريقة الذبح ، علما ان نيوزيلانده تملك مجزرة صحية حديثه
للذبح ، وتقوم بذبح الضأن على الطريقه الاسلاميه ، وكما هو معلن على
صفحات موقعها الاكتروني ، وبذات الوقت ان الامر ليس سريا ، حيث يمكن
للزائر الاطلاع عن كثب بما يجري، وكيف تتعامل نيوزيلانده مع توفير اللحم
الحلال وفق متطلبات الجاليه الاسلاميه في نيوزيلانده قبل البلدان الاخرى
…!
وهكذا جرى توظيف الامور الدينيه لأغراض سياسيه ، مما ذكرني بحادث ثان
تاريخي تعرض من جرآئه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري للحبس ولأول مره
في حياته ، وقع ذلك خلال الحكم الملكي بالعراق وبسبب اللحم الحلال واللحم
الحرام عند الطائفه اليهوديه ، حادث يدعو الى الضحك يشبه الى حد بعيد ما
مر ذكره اعلاه ولكن بالعراق وليس بنيوزلانده ، سأتي عليه في القسم الثاني
.

القسم الثاني

الكاشير والطاريف وحبس الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري

في القسم الاول اعلاه تطرقنا الى مسالة توظيف الامور الدينيه بين الدول
لخدمة اهداف سياسه، وبهذه السطور ، ساتحدث عن واقعه وقعت بالعراق ايام
الحكم الملكي لها علاقه بذات المعنى وهو استخدام الدين لاغراض مبيته
كيديه لا علاقه للدين فيها ، واليكم تفاصيلها ولكن قبل الخوض بأصل
الموضوع ابين ما يلي :

· من الاحكام الشرعيه لبعض الديانات مثل الدين الاسلامي واليهودي
والصابئي المندائي -وربما غيرها من ديانات لست متأكدا منها – هذه كلها
تحرم على مريديها اكل لحم الضأن غير المذبوح على الطريقة التي تفرضها هي
وفق شريعتها الدينيه ، وحديثنا هذا يخص اليهود تحديدا

وهكذا تلاحظ ايها القارئ الكريم ، المبررات والخطوط العريضه التي اتى
بها الانقلاب الذي قام به رئيس اركان الجيش العراقي أنذاك ، والاهداف
النبيله المعلنه التي توخاها ، والتي خططت لها الحركة الاصلاحية والاحزاب
الداعمه له

وحين ادرك الإصلاحيون ان الحكومه المدنية لا تحكم ولا سلطان لها ، ولم
تنفذ ما عودت به ، واستهانت بحقوق الشعب ، ولم تكن سوى مجرد واجهة لحكم
دكتاتوري عسكري متجبر لا غير، لذا فلم يكن من البد من استقالة عناصرها من
الوزاره ،والانتقال الى صفوف المعارضه .
ومن الطبيعي ان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وهو من يدعو للإصلاح
قد غير رأيه بهذه الحكومه التي اعيد تشكيلها بعد استقالة الاصلاحيين منها
، وبدأت جريدته جريدة الانقلاب تهاجمها ، وتنتقد ممارساتها التي تقوم بها
ضد الشعب ، خلافا لتعهداتها التي قطعتها على نفسها ، واخذ يوجه لها
انتقادات شديدة اللهجه واللاذعه احيانا ، مع التحفظ بعدم اعطاء الحكم
ذريعة قانونيه للنيل منه ، مما اغاض هذا الامر السلطه والفريق الركن بكر
صدقي بالذات ، واخذت الجهات الحكومية تراقب الجريده وتترصد ما تكتبه على
صفحاتها من مواضيع واخبار ..!
ومن سؤ الصدف ، ان شبابا من فقراء اليهود في العراق ، قاموا في تلك
الايام بانتفاضه احتجاجا على الحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفه اليهوديه
الموكله اليه مهمة تسعير اللحم الكاشير ( الحلال ) ، التي هي من ذبح رجال
الدين اليهودي كما اسلفنا ، وكانت اسعارها لا تناسب الاسعار الزهيده
لللحوم التي تباع بالاسواق العامه من ذبح القصابين المسلمين ، وقاموا
هؤلاء الشباب بتهديد الحاخام بانهم سيتناولونها نكاية به وباسعاره ،
ويعني هذا بالنسبه له تصرفا تخريبيا ،وحالة من التمرد داخل الطائفه غير
مسبقه ،يمكن اعتبارها خروجا غير مألوف على شرع الدين اليهودي ،

الا ان الجواهري ومن موقعه الوطني دفع بجريدته الانقلاب مساندة
الانتفاضه كمطاليب عادله للفقراء من اليهود ، وبذات الوقت محاولة النيل
من السلطه بشخص الحاخام ساسون احد العناصر المواليه لها ، وعلى اساس توفر
مبدأ حرية الرأي والنشر للصحافه كما جاء بمنهاج الوزاره والمهم ان
الجواهري الكبير من صفاته الخيره لم ولن يفرق او يفرط بين مكون واخر من
المكونات العراقيه كل على حد سواء وهكذا كان يتعاطى مع الكل ومن اجل الحق
والعدل.

واستمرت الجريده متابعة الانتفاضه ، ونشر تطوراتها يوما بعد يوم ، وهنا
استغلت الحكومة هذا الموقف من الجواهري وجريدته ، ووجدت ضالتها ، فقامت
بالاتصال بواحد من مواليها المخلصين الحاخام خضوري ساسون نفسه ، واشارت
عليه بتحريك شكوى التحريض ضد الجواهري…!
وحيث ان الجواهري حقيقة كان قد اعطى الدليل المادي للأتهام بحجة التحريض
، عندما ايد في جريدته فقراء اليهود في نضالهم ضد الاسعارالعاليه لللحوم
التي كانوا يشترونها من الجزارين اليهود المختصيين ، والتي لا تتناسب
ودخولهم الماليه ، وبموقف الحكومه المساند لرئيس الطائفه اليهوديه ،
وبتشجيع منها ، قام الاخير بتحريك الشكوى على الجواهري امام قاضي التحقيق
، والذي بدوره احالها الى محكمة جزاء الرصافه لمحاكمته بتهمة التحريض
واثارة الرأي العام ..! وفق مواد قانون العقوبات البغدادي كما كان يسمى
آنذاك ..
وامام قاضي الجزاء عبد العزيز القصاب ، وفي اليوم المعين ، وقف الجواهري
في قفص الاتهام ، وبعد توجيه التهمة ، وسماع اقوال الجواهري وعدد من
محاميي الدفاع على رأسهم المحامي البارز حسين جميل ، اصدرت المحكمة حكمها
على الجواهري بالحبس البسيط لمدة شهرا واحدا مع اغلاق جريدته ( الانقلاب
) وذلك إستنادا الى قانون الصحافة الذي كان قد شُرٍع في بداية عهد
الاحتلال البريطاني للعراق .
الا ان الجواهري ( الوطني والثائر العنيد ) سخر من الحكم والمحكمة ومن
قاضيها ، باعتبار التهمه تهمه كيديه وتافهة ، مما حدى بالمحكمة وقاضيها
اعتبار ذلك اهانه بحق المحكمة ، فقررت تبديل العقوبه وجعلها شهران باضافة
شهر اخر اليها ، وهكذا يكون قد خرج الجواهري من المحكمة الى السجن
المركزي في بغداد ، لقضاء مدة عقوبته الشهرين بدلا من شهر واحد وهكذا
ايضا يكون قد وظفت المسالة الدينيه لأغراض سياسيه للنيل من الخصم حقدا
وكيدا ..
واما عن ردة فعل الجواهري عن الحادث وتعليقه على التهمة والعقوبه وتأثير
ذلك عليه سيأتيكم لاحقا في القسم الثالث

القسم الثالث

· الجواهري الانسان الانسان … قصيدة لم تنته بعد …!

تطرقنا في القسم الثاني اعلاه ما يفيد الموضوع الخاص حول المسالة
السياسيه الا اني وبصدد ذكرالشاعر الكبير الجواهري في مجرى الحديث وجب
علي التوقف عنده مطأطئ الراس محني القامه اجلالا واكراما لهذه النخلة
العراقيه الباسقه واذن لابد من بضع كلمات مضافة اليها القليل من كثير من
نصوص مختاره مما اورده عنه بعض المؤرخين والكتاب والشعراء والادباء
الافاضل
فقد تحدث عن هذه الشخصية الكاتب السيد سليم طه التكريتي ، في كتاب نشره
عام 1989 فقال : ((أن الجواهري كان قطعة من إحساس متوقد ، وثورة على كل
شيء ، على الحكم ، على المجتمع وعلى نفسه هو ، ولا يمكن أن يرضيه شيء ،
ولا أن يشبعه مال ، ولا أن يهدأه جاه . ولم يعرف عنه طيلة حياته أنه
استقرّ على وتيرة واحدة ، أو رضي بالنعمة المتوفرة ، أو ألف العيش الرتيب
لفترة ما . فهو جذوة من أعصاب متوترة ، وفكر جوّاب ، وروح هائم وراء
المكانة، فهو فذ في هذه الناحية ، أضافة إلى أنه أبرز الشعراء طراً
وأغزرهم مادة ، وأكثرهم أغراضاً ، وأنبتُهم قافية ، وأطولُهم نفساً ،
وأعمقهم أدباً ، وأشرقُهم بياناً وألصقُهم بالتراث ، وهذه أمور لا تتوفر
في أي شاعر معاصر من شعراء العربية ، لا سيما وأن معظم الشعراء المعاصرين
يركضون وراء الخفيف السهل من الإنتاج الشعري .
والجواهري شاعر من النسق الكارزماتي يشظي نفسه قنابل في وجه الظلم لا
يهادن ولايسالم واقرأ له هذا المقطع يصف الخونة من أبناء البلد الذين
كانوا خدما للاستعمار وأعوانا له : حيث قال —-

ولقد رأى المستعمرون فرائسا
منا وألفـوا كلب صــــيد سائبا
فتعهدوه فراح طوع بنانهــــم
يبرون أنيــابا لــــــــه ومخالبا
أعرفت مملكة يبـاح شهيدهـا
للخائنين الخادمــــــين أجانبـا ؟
مستأجرين يخربون ديارهم
ويكافأون على الخراب رواتبا

وكما نعى الشاعرعلى الحاكم بغيه ، نعى على الرعية استسلامها ، وخنوعها
،فقذفها بألسنة
من نار ونخسها بمهماز من فولاذ ،علها تفيق من غفوتها ،وتقهر خوفها
ومسكنتها وهو في ذلك متفق مع قول أبي العلاء:
أعاذل قد ظلمتنا الملـوك ونحن على ضعفنا أظلل

وذمه للشعب ، هو الذم البناء لا الهدام ، إنه الهجاء بغير حقد ، الصادر
عن حب وغيرة على الشرف و الوطن ، واقرأ له هذا المقطع يذم خنوع الشعب وهو
ذم شديد اللهجة ، قاسي النبرات :
أطبق دجى أطبـق ضـــباب
أطبق جهــامـا يا سحـــاب
أطبق دمار علــى حـمــــاة
دمـارهــم أطـــبق تــبـــاب
أطبـــق علــى متبلــديـــــن
شـكــا خمــولهـم الذبـــاب
لـم يعـرفوا لون السمـــــــاء
لفـرط ما انحنت الرقــاب
ولفـرط ما ديست رؤوسهم
كـــمـــــا ديــــس الـتراب
أطـبــــــق علـى المعزى
يراد بها على الجوع احتلاب
أطبق على هذي المســوخ
تعـاف عيشــــــتهـا الكــــلاب
وقد ردد الشاعر كلمة ” أطبق” سبع مرات في هذا المقطع القصير ، وهو فعل
أمر غرضه التمني يوحي بيأس الشاعر من خمول الشعب وبلادته ، والألفاظ
شديدة اللهجة دالة على الغضب العارم ، والثورة الجارفة التي تضطرم في نفس
الشاعر .
إن الذي يعرف الجواهري ، ويعرف ما جبلت عليه نفسه من تعطش للحرية وإلى
العدالة ، وما لا قاه من وجع في المنافي ، وتضييق الحكام ، يستطيع أن
ينسب إليه شعره ، فلا يختلط بأشعارغيره ، فقد كان شعره نفثه من روحه
الناقمة ، و شواظا من لهيب نفسه ، أو كان كما يقال مرآة نفسه ، عكست ما
فيها من إباء وكرامة وشرف وكبرياء .
وهناك ميزة في شعره ظاهرة للعيان ، مسفرة للقارىء وهي روح السخرية ،
وكأنها البلسم الذي يبلسم جراحه ، والشهقة التي يجد فيها الراحة والعزاء
، وهو يستخدمها في شعره طريقة من طرق التعبير عن تبلد الجماهير ، ومهمازا
يستنهض به العزائم ويستثير به الهمم . وأكثر ما تتجلى هذه الميزة في
قصيدته ” تنويمة الجياع ” وهي مطولة تنعي إلينا بلادة الشعب وغفلة الرعية
، و لا أدل على ذلك من تكرار الفعل ” نامي ” في القصيدة حوالي أربعا
وخمسين مرة في قصيدة عدد أبياتها تسع وتسعون بيتا، ونكتفي منها بهذه
الأبيات حيث تتجلى روح السخرية المرة و التهكم اللاذع :
نامي جياع الشعب نامي
حـــرستك آلهة الطـعـــام
نــــامي على زبد الوعود
يـــداف في عسل الكــلام
نــــامي تصحي نعـم نوم
المرء في الكرب الجســام
نــــامي إلى يوم النشـــور
ويـــــــوم يؤذن بالقيـــــام
نـــامي على نغم البـعوض
كـــــأنه سجع الحمـــــــام
نـامي على البرص المبيض
من ســوادك والجـــــــذام
نـامي فحرز المؤمنين يذب
عــنك على الـــــــــــــدوام
نـــــــامي فنومك فتنـــــــة
إيــــــقاظها شر الأثـــــام
إن الـــــتيقظ لـــو علمــــت
طليعة الــــــــموت الزؤام
نامي! إليك تحيتي وعليـــ
ك نـــــــائمة ســــــــلامي !
وهي قصيدة كما أشرنا آنفا طويلة تتجلى فيها مرارة اليأس وروح التهكم
وطابع السخرية .
لقد آمن الجواهري أن الشعب مصدر القوة ومنبع الحصانة وجرثومة النماء ،
وأدرك أن جبروت الحاكم يستمد بقاءه من جبن الشعب ، ونهبه لخيراته من سكوت
الرعية ولامبالاتها واستهتاره ودعارته من بلادة الناس ، فصك الشاعر
الآذان بالكلمات القاسية، وزلزل القلوب الواجفة بالمعاني القارصة، وحرك
النفوس الغافلة بالتهكم البناء والذم الصادر عن حب وإخلاص أملا في حرية
غائبة، وعدالة أعز من الأبلق ، ومساواة موؤودة، ونهضة مؤجلة إلى يوم
النشور.( انتهى الاقتباس )

تعليق
————-
الحقيقه التي لا يختلف عليها اثنان من مؤرخي تاريخ العراق الحديث ، ان
الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري رجل عصره واسطورة زمانه مع الفارق
لمفهومة الاسطوره التي تشير الى حالة ضعف اليقين ، اما الجواهري فهو اشبه
بكتاب مفتوح ، وعطاء دائم لقرن من الزمن تقريبا ، فما تركه من تراث ثر
ثمين من شعر بليغ ، ومحرر رفيع ، وقول وبيان ، ومن ممارسات سياسيه
وثقافيه واجتماعيه ، ومواقف رفض ذات توجه وطني حداثوي عن وعي وادراك ،
وقيمَ انسانيه عاليه، وتجارب نضاليه صلبه ، لسنوات الطويله من حصاد عمره
، تغني المؤلف في تأليفه ، والكاتب في كتاباته ، والشاعر في شعره ،
والباحث في بحثه …! وخلاصة القول ان محمد مهدي الجواهري هو العراق هو
الشعب كله بعربه وكرده وباقي مكوناته وبمختلف عقائدهم .. في انتفاضاته
وكبواته ، في سكونه وثوراته ، وكما في انجازاته وفي استحقاقاته ، فمن
يروم دراسة تاريخ عراق القرن العشرين ، عليه ان يدرس الجواهري عندما يدرس
موضوع العراق هذا الطود الشامخ ، وسيبقى شامخا ما دام العراق حيا ابيا ،
ومشروع قصيده لم تنتهِ بعد !!

القسم الرابع

الجواهري من داخل سجنه
ونعود الى موضوعنا حول لحم الكاشير والطاريف ، وما جناه الجواهري من
موقفه المؤيد للمضربين من شباب اليهود ، ندرج ادنا مقولة احد مشاهير
الكتاب بهذا الصدد ، حيث
يذكر الكاتب العراقي الشهير سليم طه التكريتي ايضا ( ان الفائده الوحيده
التي جناها الجواهري في قضية الكاشير والطاريف ، كانت قصيدته في السجن ،
والتي نظمها وهو يمضي فترة محكوميته ، وتقع هذه القصيده في 31 بيتا .. )
كما قال الجواهري في الصفحة33 من مذكراته حول قضية حبسه ، انها مجرد تهمة
هي اقرب الى السخرية منها الى الواقع ، مما اثارت هذه الحاله في نفسه
شاعريته ، واوحت له بقصيدة تشير الى الكاشير والطاريف والتي يقول بها :-
يا عابثا بسلامة الوطن العزيز وبالامان
ومفرقا زمر اليهود طوائفا كلأ لشأن
ما انت والكاشير والطاريف من بقر وضأن ؟
ان لم تفدك عقوبة فعسى تفيد عقوبتان

وفي قصيدة اخرى كتبها بعيدا عن السياسيه والشعر الجاد ، كتبها باحساس
إنساني مرهف، وحنين للاهل والاصدقاء والاحبه يقول فيها …
يا ساكني ارض الرافدين انني
احبكم اني احن اليكم
أسامركم رغم الفراق وحكمه
لأني بحبكم عشيق متيم
نأيت عن الاحباب رغم ارادتي
ورغم ارادات لكم قد نايتم
اناجيكم والقلب عندي ممزق
واوجاعكم في اضلعي تتحكم
اناغيكم والطلم يطحن جمعكم
فأحس أهي والمدامع تسجم
ارى الشعب منساقا الى السلخ عنوة
يحار لمن يشكو لمن يتظلم
ويا سامعي في الرافدين بليلة
يؤرقني فيها يتيم وأيم
وليس لدي اليوم الا مقالة
وهل تنفع الاقوال والموت يحكم
وكل الذي عندي فدى لأحبتي
وليس الذي عندي سوى ما بنيتم

القسم الخامس
انا والجواهري الكبير
ومن بقايا خزين الذاكره اروي لكم متى واين رأيت هذا الشاعر العبقري
وكشاهد عيان للاحداث اقول : –

اني شخصيا كنت قد التقيت والشاعر محمد مهدي الجواهري لفترات قصيره ،
ولكن حضوري هذا كان عرضيا ، اذ لست انا بشاعر او اديب ، ولن ادعي صحبا
لمجالسه، ولكنني رايته للاول مرة عام 1948 عندما كنت مشاركا مع الجمهور
العراقي الثائر في مسيرة تشييع جنازة اخيه الشهيد جعفر الذي سقط ورفاقه
الشهداء الابرار غيلة وظلما برصاص شرطه السلطه الملكيه آنذاك ايام وثبة
الشعب العراقي في كانون الثاني عام 1948 ضد معاهدة برتسموث الجائرة والتي
كانت قيد التوقيع – بين العراق وبريطنيا العظمى وقد انضممت لمسيرة
المشيعين عند ساحة الوثبة التي كان اسمها ساحة الملك فيصل الثاني –
الواقعه في راس جسر الاحرار اي جسر مود سابقا – عند محلات حافظ القاضي –
حين قام الجواهري باعادة القاء قصيدته المشهورة بعد ان القاها عند جامع
الحيدرخانه – اتعلم ام لا تعلم ان جراح الضحايا فهم – وكانت الجماهير
مكتظه جدا الى درجة لا يمكن تصورها ولكي تشاهده تلك الحشود الهائجه فقد
اوتي بسلم – درج – خشبي من دائرة كهرباء العبخانه واتكاءه على جدار حائط
مبنى المصور ارشاك في مدخل الجسر وحينها صعد عليه وظهر للملئ والقى تلك
القصيده النارية والملهمة لعواطف الجماهير والمعبرة عن مشاعر السخط
والعداء للسلطه الحاكمة واعوانها والجهات الامنيه فيها ومن ثم تحرك النعش
وتحركت الجماهير خلفه نحو جانب الكرخ عابرة الجسر وكانت المسيرة منظمة
وعلى شكل مجاميع تضم مكونات الشعب العراقي باكملها ومنها من قدم بغداد من
الوية العراق الاخرى خصيصا للتشييع وكان فيها المسلم والمسيحي واليهودي
والصابئي المندائي العربي والكردي والكردي الفيلي والتركماني والايزيدي
والاشوري والسرياني والارمني وغيرهم الاف المؤلفه جميعها تهتف وتردد صيغة
الرده الموحدة التاليه : – للنجف للنجف نعشك يا جعفر للنجف …. ما نشف
ما نشف دمك يسيل وما نشف — وعلى شكل كراديس او ما يسمى جوكات كل اثنتان
منها تشكلان مجموعه واحده.. الاولى تسير امام الثانيه وهي تردد المقطع
الاول من الرده – للنجف للنجف .. الخ والثانية تجاوبها بالمقطع الثاني ما
نشف ما نشف .. الخ مصحوبه بضرب الطبول ونفخ الابواق وقرقعة الزناجيل
والسيوف والدروع واواني النحاس والحديد والوسائل الاخرى

ومما يلفت النظر غياب رجال الشرطه والعسكر وخلو الشارع من اللون الخاكي
على الاطلاق حتى وصول جثمان النعش محمولا الى ساحة المتحف العراقي عند
علاوي الحله ومنها نحو مدينة النجف ترافقه الكثير من سيارات الوفود التي
حضرت خصيصا لهذا الغرض

ومرة اخرى اروي هذا الحدث فبعد جريمة شباط الاسود عام 1963 ومن ايران –
الاهواز التي وصلت لها مختبأ كتبت الى الشاعر الجواهري عن فاجعة الشعب
العراقي بالانقلاب العار وعن جرائم البعث التي ارتكبت بحق المناضلين
الاشراف من شيوعيين وديمقراطيين وكشاهد عيان عندما علمت بترأسه لجنة
الدفاع عن المعتقليين من الشعب العراقي ومعه عدد من الشخصيات العراقيه
المعروفه وكان وقتذاك في براغ عاصمة جيكوسلوفاكيا ولها فروع في بعض
البلدان الاجنبيه وكان الفيلسوف برترنادرسل الشخصيه البريطانيه الشهيره
ممن تبنى هذه الحمله مع بعض الشخصيات العراقيه المتواجده في انكلترا
وعلمت فيما بعد ان رسالتي تلك كانت من الوثائق المهمه والمعتمده لدى
اللجنة المذكوره امام الرأي العام والجهات الرسميه باعتبارها شهاده
عيانيه توصف بشاعة الجرائم التي ارتكبتها فلول البعث الفاشي بحق الوطنين
الاحرار
ويبقى
الجواهري والراحلون الافذاذ بشواخص منجزاتهم .. وبضمير الانسان خالدون

عربي الخميسي

الأول من أب / 2017
استراليا / سدني

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here