لا تذهب إلى المدير أو تستعين به.. إنجز معاملتك التقاعدية بالاعتماد على نفسك خلال 24 ساعة فقط

موظفو الدولة لا يتساوون في الأداء والنزاهة

(الجزء الأول)

أحمد عبد المجيد

أحلت الى التقاعد مرتين. الأولى عام 1988  حيث حطت الحرب العراقية الإيرانية اوزارها وكسبت  منها سبع سنوات خدمة ضاعفتها واضيفت الى سنوات وظيفتي التي باشرت بها يوم 1973/11/23 ، والثانية عام  2017حيث ابلغتني إدارة الذاتية في كلية الاعلام- جامعة بغداد انني وصلت عتبة التقاعد، حيث لا مفر من مغادرة الوظيفة الحكومية والانصراف الى اهتمامات ما قبل وداع الحياة.

ولأنني صحفي من النوع، الذي لا يموت الا وهو ممسك بالقلم، فقد عددت الإحالة الثانية الى التقاعد مزحة ثقيلة على اساس ان الصحفي الممارس لا يترك مهنته الإ في لحظة إنقطاع نفسه الأخير.

وهكذا تسلمت أمر احالتي الى التقاعد بين مصدق ولا مصدق. وحين حدثت الأستاذ سعد البزاز عن احالتي على التقاعد، وجدته رافضا كلياً مبدأ ان الواحد مثله ومثلي لا يتقاعد طالما نذر نفسه لمهنة هي في النهاية ترتبط بسعادة الناس وجعل العالم أفضل.

وهكذا ايضا تصرفت وابقيت امر تقاعدي من الوظيفة محطة انطلاق ثالثة لحريتي في العمل وارتباطي بمهنة غالباً ما وصفتها بالزوجة الثانية، التي لا مفر من التصرف معها كشريك حياة برغم ثقل مسؤولياتها وخشونة أوضاعها وصعوبة البيئة التي تحيط بها. نعم كل شيء في بيئة الصحافة، هذه الأيام، غير سار ومعقد ومواجهي ومحتشد بالتحديات.

من مسموعاتي وتجاربي اعرف ان انجاز معاملة تقاعدية أمر محفوف بالعقبات والصعوبات الروتينية وشبهات الفساد.

ولطالما اطلعت على شكاوى مواطنين تصل الى الجريدة تتحدث عن هموم وشجون مراجعة دائرة التقاعد العامة، مثلما سمعت عن شبهات الفساد، التي ترافق انجاز معاملات التقاعد برغم ان حصول الموظف الحكومي على امتيازات هذه النهاية من حياته هو حق مشروع وواجب الوفاء من الآخرين وبضمنهم موظفو التقاعد.

وأوكد ان بعض العاملين على رصيف مبنى الدائرة، في ساحة الشهداء بجانب الكرخ، هم الذين يشيعون أجواء صعوبات الإنجاز، وهم الذين يفاتحون قليلي الصبر بأهمية عدم مراجعة الدائرة وتخويل شخص (معقب) يتولى انجاز معاملة التقاعد لقاء رسوم هي رشا يتقاضاها بذريعة منحها لموظفي الدائرة لكي يعجلون بإنجاز المعاملة.

والمثير في الأمر، ان مبالغ هذه الرشا أخذت تتصاعد مع تصاعد وقائع الاحاديث (الظالمة) عن فساد موظفي الدائرة، الذين نسمع عن صنوف عراقيلهم دون ان نجرب التعامل معها مباشرة او الاطلاع على طرق استيفائها من يد الى يد وبالجرم المشهود.

وكل الذي يحصل ان (المعقب)، المحترم (البريء المتعاطف) مع المتقاعدين، يأخذ المبلغ الذي يقترحه ويحلف بأغلظ الايمان انه يعطيه الى موظفي الدائرة، لكي ينجزوا المعاملة في يومين أو ثلاثة بدلاً من شهرين أو ستة اشهر.

وهي مبالغة، نصحني اكثر من صديق بتصديقها والاكتفاء بتكليف هذا المعقب والاستغناء عن وجع الرأس والروتين والمراجعة اليومية او قول روح تعال باجر.

ظاهرة مرضية

ولقد رأيت اني لست مغفلاً كما يجب بحيث أصدق أمراً من هذا النوع، كما تعففت عن المساهمة في ظاهرة مرضية تقتضي من الصحفي دون سواه ان يواجهها بقوة ويفضح الشبكات التي تحاول تكريسها في حياتنا العامة وسط مناخ من الاستسلام التام.

ولهذا رأيت ان من واجبي ألا أكون طرفاً في اشاعتها وتعميقها بدلاً من محاربتها بسيف الرفض والنزاهة.

وهكذا بدأت خطواتي الأولى في انجاز معاملة تقاعدي الوظيفي عبر آليات مهنتي الصحفية، التي تتطلب قبول التحرك أسوة بالنظراء الذين قادتهم تعليمات قانون الخدمة الوظيفية الى مراجعة دائرة التقاعد، التي تحول اسمها الى الهيئة الوطنية للتقاعد.

وخلال تدريسي مادة التحقيقات الاستقصائية لطلبة الدكتوراه في الكلية طلبت من الطلبة انجاز تحقيقات ميدانية من قبلهم، واتذكر ان احدهم زعم انه كان يراجع دائرة التقاعد لانجاز معاملة قريب له، وانه اكتشف ممارسات عجيبة في تقاضي الرشا، وطلبت منه على الفور ان يرصد الظاهرة وان يكشف عن ذيولها ويتبع ابطالها، ويومها تمنى علي الانتظار بضعة أسابيع أخرى بهدف الحصول على نتائج أفضل من شأنها أيضاً ألا تعوق مهمته بإنجاز المعاملة نهائياً.

وانتظرت لكن الطالب ظل يماطل لانه لا يملك دليلاً مادياً واكتفى، كما يبدو، بالمسموعات على حساب قدرته الميدانية في توثيق الجريمة او رصد توابعها المادية او القانونية وهي وحدها التي يعتد بها امام القضاء.

***

لا أخفي ان زملائي في الجريدة تطوعوا من جهتهم بتقديم المساعدة في انجاز معاملة تقاعدي. كان بعضهم يستكثر مراجعة رئيس تحرير جريدة يومية كبرى، كـ(الزمان)، بنفسه لمتابعة خطوات عملية من هذا النوع، وكان بعضهم الاخر قد سمع ما هو أقسى فيما ذهب بعضهم الثالث الى اقتراح تخويل شخص لهذا الغرض يقوم مقامي بالمراجعة. واقترح اختيار محام معروف مقابل أتعاب جرت العادة ان يتفق بشأنها معه. وأصر فريق رابع على طلب مساعدة أصدقاء يعملون في دائرة التقاعد، ولأن قسم المندوبين يرتبط بمعظم الوزارات بعلاقات مصلحة مع شعب الاعلام فيها، فقد تطوع زميلان للذهاب معي الى الدائرة والبدء بهذه الخطوة، لعل وعسى، يتم اختزال الإجراءات الإدارية أو بلوغ الغاية بأقل ما يمكن من حضوري المباشر.

وفي هذه المحاولة اصطدمنا بعقبتين الأولى ان رئيس الهيئة (المدير العام) كان غائباً عن الدائرة بحجة تصريف عمل خارجها (رأيته في اليوم التالي يشارك ببرنامج تلفزيوني في القناة الحكومية محوره البطاقة الوطنية)، والثانية ان مسؤولة ما يسمى (اعلام) التقاعد تكاسلت عن المساعدة واكتفت بالحديث عن ان الإجراءات يسيرة ولا تتطلب سوى الصبر يوماً واحداً للحصول، في اليوم التالي، على هوية التقاعد. وهي الاجراء الأخير الذي يخرج به المتقاعد كاسباً معركته مع الروتين ودرابين الدائرة، التي تحتاج الى خريطة طريق متكاملة شبيهة بالخرائط السياحية للوصول الى القسم المطلوب او المستهدف.

وكنت اسأل كيف يكون بمستطاع المراجعين البسطاء محدودي التعليم تحديد أماكن المراجعة وسط زخم بشري من طراز الذي تشهده دائرة التقاعد، وازاء مبنى متقادم لا يخضع لعملية تسلسلية تقود المراجع الى انجاز معاملته بسيولة او انسيابية؟

لحظة يأس

وفي لحظة يأس تحدث زميلي صباح الخالدي الى مدير مكتب الرئيس (رئيس الهيئة). وهو اربعيني طويل القامة يتولى حجب اكبر شخصية عن مقابلة الرئيس باختلاق الاعذار من قبيل (عنده لجنة برلمانية) و(يرفض مقابلة أحد) و(ألغى مواعيده). وهذه الجملة الأخيرة نطق بها امامنا اكثر من مرة لاقناع مراجعين اخرين ضربوا مواعيد هاتفية مسبقة بالساعة والدقيقة.

لكن مدير المكتب واسمه عبد الرزاق اردفنا بعبارة ماذا تريدون منه؟

واضطر زميلي الخالدي الى تقديمي اليه بصفتي الصحفية، وفيما أنا اتراجع من الاحراج نادى عبد الرزاق على موظف في المكتب وطلب اليه ايصالنا الى شباك الأضابير، وشعرت باليأس لمجرد ذكر اسم الاضابير لاني أحمل صورة نمطية عنها ترتبط بالغرف المظلمة وتراكم الاتربة وإدارة الموظفين المغضوب عليهم، الذين يدفنون في مثل هذه الأماكن أما لبطء حركتهم أو مشاكستهم، ثم يقضون بقية أعمارهم مستسلمين راضين يعدون الساعات طيلة وقت الدوام.

اصطحبنا الموظف الشاب مصطفى سامي الى رئيس الشباك. وقد بدت غرفته ضيقة في الطابق الأرضي خالية من الموظفين وتتوزع على مناضدهم بقايا معاملات واوراق متناثرة.

وأولى المفاجآت ان هذا الرئيس رحب بنا وابدى تفهماً تاماً وهو يستقبلنا. اعطيناه رقم كتاب الإحالة الوارد من الكلية، فاتجه الى جهاز كومبيوتر، متهالك موضوع فوق منضدته واجرى عملية بحث عن الاسم الثلاثي فاذا بالتفاصيل تظهر على الشاشة.

سحب ورقة مطبوعة وطلب مني ملء جداولها ثم التوقيع بعد اختيار اسم المصرف القريب من منطقة سكني، واعطاني ورقة صغيرة بالموعد 1/8/2017  واقترح حضوري في اليوم التالي في ساعة مبكرة (الثامنة) مع بدء الدوام.

غادرنا الدائرة في جو لاهب عند الواحدة ظهراً واصررت على ان نستقل سيارة أجرة مكيفة لان مجيئنا كان مرهقاً في سيارة تفتقر الى التبريد برغم ان سائقها الذي اوقفناه في منطقة البتاويين خدعنا عند السؤال عن جاهزيتها.

لا انكر اني غادرت الدائرة حاملاً انطباعاً اولياً ايجابياً. فالتعقيد أقل مما توقعته وملامح التسهيل تبدو ممكنة والمكننة الالكترونية اخترقت العمل اليدوي. صحيح ان مصطفى كان هو السبب، لكن رئيس الشباك، كان هاشاً باشاً، برغم ساعات طويلة من العمل المرهق أمضاها داخل قفص يسمى مجازاً غرفة أو ما شابه. ومع ذلك فان الانطباع لا يستكمل أو يصبح قراراً نهائيا حاسماً دون المرور ببقية الحلقات في اليوم التالي.

***

لازمني الارق في تلك الليلة لسببين الأول الخشية من عدم الاستيقاظ مبكراً للوصول الى دائرة التقاعد في الوقت المقترح، والثاني ترقب ما قد يحدث من مفاجآت في اليوم الموعود. ولتفادي خشيتي رجوت زميلي المصور قحطان سليم الذي اعرفه مثابرا نشيطا يتجه يوميا الى سوق المتنبي لانجاز اعماله، الاتصال بي عند الساعة السادسة صباحاً.

وكانت مصادفة اني استيقظت في الخامسة فجراً وابقيت هاتفي الى جانبي للرد على مكالمة قحطان.

ولأن (التساهيل من الله) فاني وصلت دائرة التقاعد في السابعة، اي قبل بدء الدوام الرسمي بساعة كاملة. كان مئات المراجعين قد سبقوني في الانتظار، عند البوابة، بعد دخول منطقة التفتيش الأولى. كان الجو ساخناً وازداد سخونة طول الطريق الذي قطعته مشياً من ساحة الرصافي عبوراً على جسر الشهداء. وسريعاً احتميت بظل جدار المبنى الذي بدأت سيارات الموظفين تزحف عليه طاردة المراجعين الى الحواشي. مرت الساعة كما تمر الدقائق على المرضى او المصابين بأوجاع. وأدرت رأسي نحو البوابة لأجد أفواج المراجعين تزحف. واسرعت الخطى معهم ودخلت كما يدخل خيط غليظ بخرم أبرة ضيق. واتجهت مسرعاً أيضاً نحو (الشباك) الموعود، وانا أحمل مستمسكاتي الرسمية الأربعة ونسخة ملونة مصورة منها. وكان صاحب مكتب الاستنساخ قد عرض عليّ انجاز معاملتي في ساعة كما يزعم مقابل اجور اتعاب تبلغ الف دولار، ثم تراجع عندما أبديت امتعاضي فقال أذهب يمكن ان تنجزها في يومين.

وداخل القاعة الضيقة المخصصة للانتظار كانت الكهرباء مقطوعة والظلام يحيط المكان الا من اشعة الشمس الهاربة من بعض شقوق الجدران. بعض المراجعين كان متذمرا وساخطا وبعضه يضرب اخماساً في أسداس وبعضه ذهب للانتظار في زاوية القاعة  ليس بمقابل الشباك ولا قريباً اليه.

وبقربي يقف ثلاثة شبان احدهم يحمل كيساً بلاستيكياً شفافا بداخله صمونتان وقطعتا خيار وعلبه جبن معلب. عرفت انهم من موظفي شباك الاضابير، فغمرني وجودهم بالاطمئنان لاني سأستدل على بدء العمل من خلالهم. وفعلاً ما ان انيرت الأضواء حتى انسحبوا واحداً اثر آخر الى الداخل. ولم تمض سوى دقائق حتى ظهر شابان يحملان درازن من الاضابير. وضعوها بقوة على منضدة خلف الشباك وسادت فوضى ثم شرع المراجعون بالتجمهر وصرخ احد الموظفين (ارجوكم تراجعوا نحن سننادى على كل صاحب اضبارة). ولم يمتثل احد لندائهما، بل عمدت سيدة طويلة القامة هزيلة القوام عرفت فيما بعد انها قادمة من اربيل، بإدخال بوز وجهها عبر الشباك الحديدي لرؤية ما يحدث، فصرخ بها الموظف: تراجعي ارجوك سننادي عليك. وفعلاً بدأ اعلان الاسم الأول وكتابة اسم موظف على الورقة الصغيرة التي بحوزة المراجع. قال: (اذهب الى احمد كنعان)، وقال الثاني (اذهب الى ميثم)، وبعد اعلان أسماء نحو سبعة مراجعين جاء دوري فكتب الموظف على ورقتي (ميثم) ثم أشار الى الدرج أمام  قاعة الشباك (من هناك.. في الطابق الثاني). وهرولت لإثبات قدراتي الجسدية والقول ما معناه أن قواي بخير. وبلغت الطابق الذي كان مزدحماً ويحتفظ بدرجة حرارة ليل اليوم السابق. وكان علينا معرفة الطريق الى ميثم. دخلت في ممر ضيق وآخر مفتوح ثم على غرفة محكمة الاغلاق. وتراجعت وانا اتساءل كمن يبحث عن شخص عزيز، ورأيت معظم الذين ذهبوا قبلي مشغولين مثلي بالبحث عن الكنز المفقود واقتحمت غرفة فإذا انا بمواجهة عدد من الموظفات وسألت احداهن واومأت لي .. من هنا ثم من هناك ثم امامك .. قسم التخصيص والتقدير ، وهو أهم وأبرز الاقسام التي تقرر مصير رحلة انجاز معاملة التقاعد ومستمسكاتها ووثائقها.. القسم القادر على جعلك تنتظر شهوراً او تذهب الى بيتك سعيداً خلال 24 ساعة فقط.

(يتبع غدا)

 

الزمان

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here