الذين كانوا في منفاهم معارضين

علي علي

في بلد يعوم على بحور من الخيرات، تدور الدوائر عليه، فيأتي أناس خرجوا من رحمه، ليتسابقوا على سلبه جهارا نهارا، فكأنهم يقطّعون أثداءً كانت قد أرضعتهم يوما ما، ويتنكرون لمأكل ومشرب وسقف كانوا يلوذون بحماه، ويعقون أما وأبا أيما عقوق دون وازع او رادع. يقابل هذا أن ليلى مازالت وبنجاح منقطع النظير تجذب الباكين والمتباكين عليها، وفق ماقال أحدهم: “كل يبكي على ليلاه”. والإثنان -الباكون والمتباكون- ليسوا “غشمه”..! بل هم يعرفون تماما من أين تؤكل الكتف، ويدركون تمام الإدارك أن “دخول الحمام ليس كخروجه”..! فهم يستقتلون ويستميتون كي لا “يخرجوا من المولد بلا حمص”.
في عراقنا الجديد حلت الكعكة بدل الحمص، والجميع حريصون على نيل أكبر قضمة ممكنة منها، بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة في القضم، والسبل المتبعة فيه. وكلنا يتذكر “عام السعد” عام 2003 يوم هبط علينا وحي الديمقراطية والتحرر من القيود والكبول، وتخلصنا من سياسة القمع والبطش التي عشناها عقودا قبل ذاك العام، ونفذ منا من نفذ من دهاليز السجون وأعواد المشانق وأحواض التيزاب، وتحقق الحلم لاسيما لمن كانوا في معارضة نظام مستبد جثم على صدور العراقيين بكل وحشية وقسوة، تلك المعارضة التي اتخذت من دول الشرق والغرب نقطة مثابة لها، تنطلق منها بكل الاتجاهات بغية الوصول الى إقناع الرأي العام -علاوة على الخاص- في المساهمة بإسقاط صنم الطاغية، وكان لها ذلك.. وسقط الصنم وولى عهده، وانفتحت للعراقيين آفاق الأمل المشرق وباتت الأماني السعيدة قيد التحقيق، وكان من المفترض أن نقول “وعاشوا عيشة سعيدة”.. وكيف لايكون هذا..؟! وقد قوض نظام الانتخابات النظام الدكتاتوري، وحلت صناديق الاقتراع محل سياط الكبت والحزب الواحد والقائد الأوحد، وعاد المعارضون من “منافيهم” الى أمهم الأرض، وتراموا في أحضان الوطن، وكنتيجة حتمية لما عانوه من مرارة النفي والاغتراب في سبيل العراق، أن تكون لهم الصدارة في حكمه باحتسابهم مناضلين ضحوا بالغالي والنفيس، وعلى المواطن المغلوب على أمره في الداخل العراقي طيلة سنين، أن يهيئ لهم الكراسي التي يتربعون عليها، بعد أن اصطبغت سبابته بلون البنفسج وهو في غياهب الحلم الأخضر.
إلا أن الرياح لم تأتِ كما تشتهي السفن..! فقد أغلقت آفاق الأمل المشرق، وتبددت الأماني السعيدة، وتضببت سماء الحلم الأخضر، ونهض شبح الكبت، وعادت سياط القهر والظلم تقسو على ظهور العراقيين في عقر دارهم، وفي شوارع مدنهم، ومدارسهم وأسواقهم وجوامعهم، وأنى ولوا وجوههم… و “عاشوا عيشه تعيسة مريرة بائسة”. وراحوا يرددون في غدوهم ورواحهم بيت الدارمي:
گلت انگضت بلواي بأول شبابي
ما أدري تالي الشيب يكثر عذابي
وكل هذا على يد “المعارضين” الذين كانوا في المنفى، والذين ركبوا أكثر من قطار، وأتوا من كل فج عميق للبكاء على ليلى او التباكي عليها، وكما قال المتنبي:
وكـل يدعـي وصـلا بليلـى
وليلــى لا تـقر لـه بذاك
إذا اشـتبكت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى

وعلى مابدا لم يكن قدومهم الى الوطن من أجل المواطن ولا (لسواد عيون العراقيين) فقد أتوا رافعين راية الأنانية مذعنين لشيطان رغباتهم الدنيوية. وقد أحسنوا اختيار ما يشبع رغباتهم تلك، إذ كما تقول الحكمة: إثنان لايمكن إشباعهما؛ طالب العلم وطالب المال، فكانوا هم من الصنف الأخير طبعا، ووجدوا في خزائن العراق مايسهل نهبه، مع غلو ثمنه، وهو ماكانوا -على مابدا- يخططونه ويرسمون له إبان وجودهم في منافيهم باحتسابهم معارضة. وبتحصيل حاصل شاء قدرهم أن يتربعوا على عرش التسلط والتحكم بالأموال والخيرات والثروات والنفطات، فبانت هنا البطون التي “جاعت ثم شبعت”، فاغتنوا في ليلة وضحاها، وملأوا جيوبهم سحتا، ومازالوا يغترفون من مناهل ثرية، ماكانوا يحلمون بشم رائحتها مطلقا، على حساب بطون “شبعت ثم جاعت”، وشتان طبعا بين البطنين.

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here