رواية ( بلدة في علبة ) تسجيل بانوراما لتاريخ السماوة

رواية ( بلدة في علبة ) تسجيل بانوراما لتاريخ السماوة
هذه الرواية الزمكانية برعت في صناعة خلق الابداع الروائي , في مجسداته المركبة , في التعاطي مع الاحداث السردية في المتن الروائي , الذي تعاطى بثنائية مركبة رائعة , السرد التاريخي / الوثائقي , والسرد الروائي , في عملية متوازنة بتنسيق ابداعي متوازن , لاشك ان مقتضيات السرد التاريخي / الوثائقي , يحتاج ان زحمة كبيرة من المصادر والمستندات والوثائق الارشيفة , ومصادر اخرى متنوعة , في مجالاتها التوثيقية والارشيفية , واعتمدت هذه الرواية على سرد الصور الفوتوغرافية , التي تؤرخ تاريخ مدينة السماوة , اي ان كل صورة فوتوغرافية من الصور 19 صورة تشير الى جوانب معينة من حياة وتاريخ المدينة العريقة السماوة , وهي تتحدث بتعابيرها الدالة عن سمات متميزة وظاهرة ومعروفة في معلوماتها المعرفية , في السرد الحكائي , وحكائي يفسر ويعلق على هذه الصور الارشيفية . ,لاشك ان قيمتها الثمينة بالغة الاهمية , لذلك اهتمت بشكل بارز في انطاق الصورة بالسرد الحكائي . والبراعة المتناهية في الجهد الابداعي , الذي خلق ارشيف متكامل , في جمع المصادر التاريخية / الوثائقية , في البحث والتدقيق واللهاث وراء معلومة تاريخية لا يرقى اليها الشك , تشير الى التاريخ محدد . سواء كان قديماً في عمقه الحضاري . او حديثاً معاصراً للواقع الموجود , في المعطيات التراثية الموروثة التي ظلت حية تعيش وتتحرك , وفي التقاليد الشعبية المتداولة , التي اصبحت جزء من الحياة اليومية وسلوكها وتصرفها , في المعالم الشعبية القائمة في مكونات حياة الناس المعيشية في نشاطها المعيشي اليومي , وما تحتوي من شواهد شاخصة قائمة بذاتها . اي اننا امام عمل روائي مركب في عملية تأليفية , بين السرد الروائي , والسرد الارشيفي الحكائي , ضمن المحيط الاجتماعي والانساني والسياسي , ورواية ( بلدة في علبة ) نطقت بما هو موجود في العلبة من الصور , تحدثت عما تحتوي في داخلها من محتويات ارشيفية , يرسم خريطتها التاريخية , الجغرافية . السياسية , خريطة حاراتها الشعبية وحكاياتها الغرائبية , وحكايات الف حكاية وحكاية . ويأخذنا الكاتب المؤلف في رحلة سياحية ممتعة ومشوقة , في تراثها الشعبي , في سيرتها الشعبية , في معالمها الشاخصة . حاراتها , اسواقها , شوارعها , حركة الناس , فنادقها , مطاعمها , المقاهي الشعبية ومميزات كل مقهى شعبي . مواسم اعيادها , العاب الاطفال في الحياة العادية وفي الاعياد . سهرات الليل وحكاياتها الغرائبية , منطقة القشلة وما حولها . في اسلوب روائي متقن في ابداع , في مهارته وادواته وتقنياته .ثم ندخل في ذكر الاشياء الجديدة , التي تدخلها لاول مرة في مدينة السماوة , في قائمتها الطويلة , ونحصي منها بعض هذه الاقتطافات :
× اول مدرسة للبنين والاخرى للبنات دخلت في مدينة السماوة
× اول معمل ثلج في مدينة السماوة
× او محطة قطار اقيمت في مدينة السماوة
× اول جسر معلق في مدينة السماوة
× اول سينماء فتحت في مدينة السماوة
× اول مدير بلدية السماوة
× اول من ادخل الكهرباء في السماوة
وكذلك يتضمن ارشيفها الصوري , اول زيارة الملك فيصل الثاني . وحتى اول قبلة حب خسرها من اجل فيليم ( سبارتاكوس ) , هذا السرد الرائع من خلال الصور الناطقة التي تؤرخ الحياة اليومية , بهذا التوثيق المشوق , خالٍ من الضجر والملل , في دس المعلومات والمصادر التاريخية / الوثائقية الغنية في قيمتها . لكننا نتوقف امام حدثين بارزين في الارشيفية مدينة السماوة , وسجلت عبرهما , صفحات من البطولة والمجد والوطنية . في الملاحم البطولية , ظلت نجوم ساطعة ومضيئة تشع بضوئها الكفاحي والنضالي والوطني لمدينة السماوة . اولهما : قطار الموت . والثانية صفحات المجد من بطولات جسورة التي اشعلت شرارة ثورة 1920 , في مقارعة الاحتلال البريطاني واجباره على التفاوض . لاشك ان الملحمة البطولية الخالدة , التي بصمت بصماتها بشكل بارز تاريخ العراق السياسي المعاصر , بأنها امتلكت تراث مجيد بطولي يشع بالانوار الوطنية الحقة , حين هبت الجموع الغفيرة , رجالاً ونساءاً واطفالاً, في النخوة العراقية الاصيلة , في انقاذ 500 سجين سياسي من براثن الموت في قطار الموت , وهم في انفاسهم الاخيرة , الجريمة الرهيبة في وحشيتها , التي ارادت ارتكبها سلطة الفاشست البعث , ولكن لولا يقظة وفطنة ووطنية سائق قطار الموت , الذي خالف الاوامر الصارمة بالسير البطيء , حتى يموتوا اختناقاً في صيف تموزاللاهب في الطريق , قبل وصولهم الى مدينة السماوة , فقد انطلق باقصى ما يستطيع من سرعة , وكسب اربع ساعات من عشر ساعات الطريق , وكان في استقبال قطار الموت جموع غفيرة من الناس التي تجمهرت وتقاطرت في جموعها محطة القطار, في نجدة وانقاذ حياة السجناء السياسيين , وهم بين الحياة والموت , فقد هبت اهالي السماوة الابطال , اهل الغيرة والشرف والنخوة والوطنية الاصيلة , هبة رجل واحد , وكسروا الاقفال الحديدية واخرجوا السجناء , ومنعوا رجال الامن والشرطة من الاقتراب منهم , وهم في حالة يرثى لها ( شارفوا على الموت وانزلوهم الى رصيف المحطة , حيث تمددوا عراة واهنين , لا يستطيعون الحركة . كانوا يشيرون بأيديهم طالبين الماء , ويستنشقوا الهواء بعمق , وهم يطلقون الحشرجات , فأسرع الناس اليهم , بالماء والملح واللبن والخبز والرقي , ويمنعون رجال الشرطة والامن من الوصول اليهم ) ص220 . والحدث الوطني الثاني الذي اشعال شرارة ثورة 1920 , وتسجيل ملاحم بطولية مجيدة , برجالهم الاشداء وشيوخهم بالروح الوطنية الوثابة , وفي يوميات الثورة المجيدة , وهم يسطرون صور البسالة والبطولة في المقاومة الجسورة , حتى تكبيد العدو خسائر فادحة , واجبر على الجلوس الى طاولة المفاوضات , وان الاحفاد الحاليين لا يختلفون وطنية وبسالة وبطولة عن اباءهم واجدادهم , وهذه المآثر الوطنية الخالدة , ركز عليها باهتمام خاص الاديب الروائي القدير ( حامد فاضل ) في روايته ( بلدة في علبة )
×× السرد الروائي :
الاب مصور فوتوغرافي , لكنة تربى على الروح الوطنية منذ نعومة اظافره , وشارك في كل الاشكال النضالية والجماهيرية , من بمساهمات فعالة , في المظاهرات والاضرابات والاعتصامات , وتوزيع المنشورات السياسية , والمشاركة في الفعاليات النضالية الاخرى , بما فيها المشاركة في فعاليات اتحاد الطلبة الذي انبثق تأسيسه خلال وثبة كانون , في ساحة السباع في بغداد . لكن هذه الروح المفعمة بالروح الوطنية بالنضال الجسور , لا يمكن ان تكون بدون دفع ضريبة كبيرة فادحة , فقد فصل من مدرسته الثانوية , واعتقل وسجن وتعذب وتشرد , وعانى المعاناة القاهرة , حتى اضطر تحت وطئة التهديد بالسجن والاعتقال , وتشديد الخناق والحصار عليه , ان يغادر هرباً مع عائلته الى مدينة الشامية , ولكن بعد ثورة 14 تموز عام 1958 . رجع الى مدينته الاصلية السماوة ( توقفت امام بيتنا المتواضع في منطقة العالية بمدينة الشامية , سيارة خنساء استعار محركاها رغاء جمل , لتمضي بنا الى مدينة السماوة . حيث قوض أبي خيمة غربته بعد عام من قيام ثورة 14 تموز عام 1958 , التي اتاحت له فرصة العودة الى مسقط رأسه ) ص45 . ولكن هذه العودة , تخللتها صراع حياتي شرس , صراع من اجل توفير الحياة البسيطة والمتواضعة لعائلته وتوفير لقمة الخبز , التي كانت تعاني الفقر والحرمان , ورحل عن الحياة , وترك العبء الثقيل والمرهق الى ابنه , لكنه ترك كنز الارشيف الثمين بالصور الفوتوغرافية في العلبة , وهذا المقصود من عنوان الرواية , بأن الارشيف التاريخي والحياتي لمدينة السماوة , موجود في العلبة , هي في الصور الفوتوغرافية , وكل صورة تحمل سمات مميزة من تاريخ السماوة , الراقدة في احضان نهر الفرات , وتعيس في سلام وتآخي وتعايش في اديانها المختلفة المتواجدة في المدينة , هذه ارشيفية الصور لها طعم تاريخي / وثائقي بدلالاتها المعبرة , اصبح الابن معلم , لكن كان يعاني شظف العيش المرهق , بالراتب الضئيل الذي لا يكفي عائلته , إلا ايام معدودة , ذلك امتهن الاعمال الشاقة والمرهقة , الى جانب وظيفته التعليمية , من عامل بناء , الى عامل فرن , الى اعمال مرهقة اخرى , ليسد رمق الجوع والفقر , في ظل الحصار الدولي الخانق , حتى اضطر ان يشجر خبز التنور , ليبع الخبز , لكي يساعد زوجته المريضة , وحتى فكر في الرحيل الى السعودية عبر البادية الصحراوية , لكن محاولته فشلت رغم انه وصل على مشارف الحدود , ليرجع الى عائلته , يصارع الحياة الشاقة والمتعبة , حتى انه عجز في توفير الحليب لطفله الرضيع , وكانت مناجاته الاخيرة , كالغريق الذي يتشبث بالقشة من الغرق , كان معينه الصور الفوتوغرافية, لتسد رمق جوعه وفاقته وعوزه , في وضعه المخيب بالخيبات المحبطة , في حياته التي جفت فيها السنين بالجفاف العجاف
× رواية ( بلدة في علبة ) الروائي حامد فاضل
× 272 صفحة
× اصدار : دار سطور للنشر والتوزيع . عام 2015
جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here