العراق الموحد للتناحر والاقتتال ام للسلام والاستقرار؟

جواد ملكشاهي
منذ تأسيس العراق الحديث قبل ما يقرب من قرن من الان ونحن نسمع (القوانة) المشروخة العراق الموحد وينبغي ان يكون موحدا و تخوين كل من ينطق بمفردة تقسيم العراق وربما اعتلى الكثيرون حبال المشانق بسبب هذه الوحدة التي اضحت وبالا على جميع ابناء الشعب العراقي.
عند كتابة الدستور العراقي الدائم بعد سقوط الصنم ، اكدت غالبية القوى العربية الشيعية والسنية والمدنية والعلمانية والليبرالية وغيرهم على ضرورة التأكيد على وحدة العراق في الدستور ليكون ملزما للجميع وعدم المساس بوحدته وتماسكه.
لست مبدئيا ضد الوحدة بمفهومها العام ، بل من المؤيدين والداعين لها عندما تكون لصالح الانسان كفرد والمجموعات البشرية كعشيرة او مكون او طيف او شعب ، بل الوحدة عامل قوة لحفظ الارض والعرض والكرامة والسيادة والدفاع عن الحقوق ، فضلا على ذلك يؤكد الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه بسورة آل عمران الآية 103 (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) اذن لا يختلف اثنان على ان الوحدة عامل قوة وينبغي العمل من اجله ، ولكن عندما نتصفح تاريخ العراق المعاصر ، منذ تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي و لحد الساعة ، فأن الوحدة القسرية التي فرضت على مكونات الشعب العراقي كنتيجة لمعاهدة سايكس بيكو سيئة الصيت كانت وما تزال عاملا للتناحر والاقتتال بين مكوناته التي تريد العيش الى جانب بعضهم بوئام واخوة وسلام.
المكون الشيعي تعرض منذ 1921 الى 2003 الى الاضطهاد المذهبي من الانظمة المتعاقبة على حكم العراق وتطور الاضطهاد الى المطاردة والقتل والاعدامات التي طالت ابناء المكون بذرائع مختلفة تارة بسبب الانتماء للاحزاب الاسلامية الشيعية وتارة اخرى بذريعة الطابور الخامس لأيران وحكومتها الشاهنشاهية و المذهبية الحالية واخرى بتهمة ماسمي ب(الغوغائية) وماشابهها ، وانتهى سيناريو القتل وسفك دماء الابرياء بالمقابر الجماعية التي دفن فيها الالاف من ابناء المدن من الاطفال والنساء والشيوخ بحجة المشاركة في الانتفاضة الشعبانية وتلاها القتل الجماعي على يد الارهاب بالمفخخات والاغتيالات فضلا على الاف الضحايا من الشباب في العمليات ضد القوى الظلامية الارهابية.
الكورد لم يكن وضعهم في العراق الموحد قسرا افضل من الشيعة حيث تعرضوا في سبعين عاما من القرن الماضي الى شتى انواع الظلم والاضطهاد في الحروب التي شنها الجيش العراقي بايعاز من حكام العراق على القرى والقصبات والمدن الآمنة وتدمير اكثر من اربعة الاف قرية وقصبة وحرق الحرث والنسل وانتهت بالانفالات واستخدام الاسلحة الكيماوية والمقابر الجماعية التي راح ضحيتها مئات الالاف من الابرياء لمجرد مطالبتهم بحقوقهم العادلة بتقرير المصير وانشاء دولتهم الكوردية المستقلة ودفعوا ضريبة هذا الحق المشروع خيرة شبابهم الذين سالت دماؤهم على مذبح الحرية.
المكون السني ايضا لم يكن بمنأى عن دفع ضريبة العراق الموحد ، حيث اعدم الكثيرون منهم لمجرد معارضتهم للانظمة الحاكمة التي توالت على حكم العراق و فرضت نفسها بقوة السلاح ، كما قتل الكثيرون منهم في الحروب التي شنتها تلك الانظمة على الكورد والعرب الشيعة ودول الجوار، فضلا على المسلسل الاخير للقتل الجماعي الذي ارتكبه تنظيم داعش الارهابي ضد المحافظات ذات الغالبية السنية وتدميرها عن بكرة ابيها بعد قتل الالاف من السكان الابرياء لتلك المحافظات فضلا على خسائر قدرتها بعض المنظمات بما يقرب من مئة مليار دولار.
الاقليات القومية والدينية من التركمان والمسيحيين والصابئة المندائيين والايزديين وغيرهم ايضا كانوا ضمن ضحايا العراق الموحد حيث تعرضوا لشتى انواع الظلم والاضطهاد على يد الانظمة الحاكمة المتعاقبة على حكم العراق بذريعة انتمائهم للقوى السياسية المعارضة وانتهت بعمليات القتل والتهجير الجماعي لهم في الحرب الطائفية التي اندلعت بعد 2003 وما تبعها من الهجوم البربري الوحشي لتنظيم داعش الارهابي الذي ارتكب مجازر بشعة وقتل الالاف من جميع المكونات وبالاخص ابناء الاقليات الدينية واليوم العراق اصبح شبه خالٍ من الوان القوس قزح الجميل الذي ينبغي ان تربطهم العلاقات الانسانية ، كل تلك الجرائم ارتكبت تحت خيمة العراق الموحد الذي يستقتل عليه ويروج له سماسرة السياسية الذين لايهمهم سوى ضمان مصالحهم الحزبية والطائفية والاجندات الاجنبية التي يعملون من اجلها.
دول الجوار ايضا دفعت ضريبة العراق الموحد ، حرب الثمان سنوات الطاحنة بين العراق وايران التي راح ضحتها اكثر من مليون انسان من الطرفين فضلا على خسائر قدرت بمئات المليارات من الدولارات كانت ثمرة العراق الموحد.
دولة الكويت وشعبها كانت ضحية اخرى لوحدة العراق بعد احتلالها من النظام المباد التي راح ضحتيها المئات من الكويتيين والالاف من الجنود العراقيين فضلا على خسائر قدرت بمئات المليارات وكذلك السعودية ودول المنطقة الاخرى التي كان لنظام البعث دور كبير في زعزة امنها و استقرارها و دعم جهات داخلية فيها ضد اخرى.
لولا العراق الموحد لما حلت كل تلك الكوارث بالمكونات العراقية ودول الجوار والمنطقة ولما هدرت كل تلك الثروات الهائلة على الاسلحة وبناء ما دمرته الاسلحة الفتاكة والتي ماتزال اثارها ظاهرة للعيان في المناطق التي احتلها داعش الارهابي ، اذن لابد من معالجة تلك المشكلة المزمنة المستعصية منذ ما يقرب من قرن من الزمن الذي اثبت عدم جدوى وحدته وسالت انهار من الدماء من اجل بقائه موحدا بقوة السلاح ، وكلما يستمر بقاء العراق الموحد قسرا لا يمكن ان يعم الامن والاستقرار لا في العراق ولا في المنطقة ، فالافضل والحل العقلاني والمنطقي هو الطلاق المخملي والاتفاق بين مكوناته الرئيسة الثلاث لتشكيل دولة لكل منها ووضع خيارات امام الاقليات القومية والدينية بين العيش في كنف هذه الدولة او تلك ليعيش الجميع جيرانا متحابين تربطهم مصالح مشتركة ، وضع نهاية للحروب والاقتتال والمآسي والويلات وبدء صفحة من الوئام والسلام والاستقرار بدلا من استمرار التناحر والحروب والاقتتال.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here