سـدّة الكـوت… رمزية مدينة تتوارثها الأجيال بقدسية وحب

كتابة / حميد الزاملي

قريباً من بوابتها الأولى من جهة الغرب، يقف حسن إبراهيم حسن 65 سنة، متأملاً سدّة الكوت وأهزوجة الماء وأخبار السمك، كان يدرك حجم انتظار الماء وتأخر أخباره دائماً، لذا صمت مطمئناً لاحتراقات السنارة الغافية بين الأمواج، ربما كان على موعد مع حتمية وصول السمك وأخبار النوارس وأصوات البوابات، لقد تعمق في الوقوف كثيراً، لكن الأسماك تحذلقت وعرفت نقاط القوة والضعف لديه، انها تحتمي بوعي كبير بالأمواج الصاخبة هرباً من سنارته التي لاحل لها للأمكنة المنيعة الحامية للسمك، لم ييأس حسن وأدار ظهره لكل خطوط النظر المرسومة من عشرات الدكات التي تمددت مع دجلة من أوله الى آخره. وظل عاشقاً وفياً الى لحظات التربص أمام السدّة بكل عنف، ربما كان للتربص الموعود في روحه صمت هو الآخر، لذلك تماهى مع الزمن الحاضر وأبقى لعينيه فسحة تستوعب الهموم والخطايا التي سجلتها السدة ولم تترك وراءها رائحة للدخان أو البارود.

فكرة الإنشاء وولادة السدّة
قال بصوت عالٍ بعد أن لاحظ وقوفي بجانبه: لا تتعجب ياصديقي، منذ الطفولة وحتى الآن لم انقطع عن سدة الكوت، إنها جزء لا يتجزأ من يومياتي، بل هي مكاني المعتاد الذي أرتاده وأزاول هواية صيد السمك بواسطة السنارة، قاطعني مضيفاً بفخر وثقة: إنني احفظ سيرة سدة الكوت كما قصائد الغرام، لقد ولدت فكرة إنشائها عام 1912 أيام الحكم العثماني في العراق بالضبط مع صراخ جدي في لحظاته الأولى، كما اخبرتني أمي ذات يوم، لكنها لم ترَ النور مثل جدي بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، وبعد خضوع العراق لهيمنة بريطانيا عام 1917 تبلورت الفكرة من جديد، حيث قامت هيئة الري البريطانية بدراسة موسعة للوضع المائي لنهر دجلة في منطقة الكوت، بعد ذلك صار القرار بإنشاء السدة في المكان الحالي، حيث طلبت الحكومة العراقية من بعض الشركات البريطانية المباشرة بالإنشاء. وفي عام 1934 بدأ العمل فعلياً في السدة، واستمر حتى منتصف عام 1939، وقد بلغت التكاليف يومها ثلاثة ملايين دينار عراقي، وقد كانت شركة كولد نستن وبيتي فورد البريطانيتان، من ابرز الشركات التي ساهمت بإنجاز البناء، تم افتتاح السدّة رسمياً من قبل ملك العراق آنذاك، الملك غازي الذي توفي بعد الافتتاح بثلاثة أيام في حادث سير لم تعرف تفاصيله.

خلود النهر يمدُّ السدة بالبقاء
ويذهب حسن بذاكرته الى تكوين السدة وعدد بواباتها المتشابهة والتي تبلغ 56 بوابة وممراً مائياً مخصصاً لمرور السفن والزوارق يسمّى (اللوك) وتساعد السدة في تنظيم حصص الماء من محافظة واسط وحتى التقاء نهر دجلة مع الفرات في جنوب العراق. لقد شهدت سدة الكوت الكثير من الأحداث والحروب ومشت عليها خطى مختلفة وحفظت في ذاكرتها تواريخ الأيام بكل تفاصيلها، ومرت من فوقها الوعود والعربات والخيول والمجنزرات، وضربتها الطائرات في حرب الخليج الأولى والثانية عدّة مرات وأوغلت فيها حدّ القسوة. يعود حسن ويستدرك، لكنها في كل مرة تنهض من أحزانها وتتعافى وأثناء الحرب الأخيرة عام 2003 أصبحت المعبر الوحيد لكل شيء متحرك. ذات مرة صدر قرار بتوسيع ممرها الخاص للسيارات، وتم اعداد الخرائط والكشوفات الخاصة بذلك، كان الهم الأكبر هو استقبال الكثير من العابرين، لا أدري حينها من الذي فكر بذلك أولاً؟ وهل راعى مشاعر السدة التي لم تشتك يوماً من الزحام والأثقال، إن عدم الاكتراث بها من الجميع مثلما يجري الآن يصعب مهمتها في المستقبل لكنها وبأنفاس العشاق وخلود النهر مازالت كما هي منذ إنشائها وحتى الآن.

عنوان الكوت الدائم ورمز العطاء
المواطن غانم جليل جاسم 50 سنة، الذي يسكن المنطقة القريبة من السدة والتي تسمّى “العزة” يذهب بعيداً حين يبيّن قدسية السدة الخاصة لدى أبناء العزة خصوصاً وأهالي واسط عموماً، فهي عنوان الخير والتواصل والمحبة، إنها التقاء الجهات الأربع عندما تكون في أحسن الحالات، فمن جنوبها يتهادى الريح حاملاً رسائل الخير والمحبة، ومن جهة الشمال تضج فورة الماء البيضاء ومعها النسائم العذبة التي طالما انتظرتها الأمهات اللواتي تأخرت ولادتهن عن مواعيدها، فذهبن مشياً لعبور السدة ليستعجلن ولاداتهن بكل يسر، وبالتالي سار معها الغرب وصولاً الى الشرق وبالعكس، لذلك صارت جهات الأرض الأربع بوقت واحد.
فيما يعود محمد علي جابر 67 الى عقود مضت، قضينا أعمارنا مع هذه السدة، فقد كنت عاملاً فيها طيلة 30 سنة، وعندما أدركني التقاعد، لم انفك من مفارقتها والابتعاد عنها في أحلك الظروف، ففي كل مساء أقف أمام جمالها مستعيداً أيام العمر بكل تفاصيلها، لي أقارب ماتوا وهم يعملون في إنشائها، إنهم قرابين السدّة التي أبت أن تفارق أجسادهم وأصبحت قبورهم مبنية من الأمواج الفضية، صار لزاماً أن أفي لهم قليلاً بهذه الوقفة اليومية التي تكتب في الماء رسائل الشكر والثناء لتضحيتهم وشجاعتهم التي لا تُنسى أبداً. وختم جابر قوله: إن السدة هي عنوان الكوت الدائم ورمز العطاء والذكريات والأصدقاء والأموات والأحياء وكل ما خلّدته دورة الحياة.

السدّة تهب الوجود والبقاء
ياسر العطية شاعر وقاص، صادف وجوده في المكان متأملاً السدّة وخرير الماء وانسيابيته، لوح أنه يستمد أشعاره وقصصه من السدّة، فكلما تباعدت الأفكار عن أوراقه أسرعت الى عبور السدّة سيراً على الأقدام عند ذلك تتقارب الدكات وتتزاحم القصص، العطية وهو يشير بيده الى أحد الصيادين، كلما ينحدر الماء سريعاً تخفت همسات ذلك الصياد الممسك بسنارته، أظنه يستمد قوة الترقب والتحمل من صمود سلاسل السدة المستمر حتى الآن، أليست هذه المشاهد أمهات للقصص والأشعار. وأردف العطية بالقول، إنني في هذا المساء المعبأ أدوّن أمل أصحاب الخطايا الذين أودعوا أسرارهم في الماء، واقتفي أول استفزاز في السنارة عند ذلك تنفتح دروب الأزمنة في أشعاري وتتوضح في قصصي أعمار السلاسل التي تفوقت على كل التقنيات والابتكارات، وظلت منذ ولادتها وحتى الآن لم تشتك يوماً من تعب أو ملل، وختم العطية كلامه قائلاً، ربما زرعتنا السدة مع جذورها في اعماق دجلة وصرنا رديفاً لعمرها نستمد كل شيء من خلودها الذي وهبنا الوجود والبقاء والتحمل.
الوصول الى وسط السدّة لا يستغرق كثيراً، فالشعور يصل الى قرارة الأشياء في وقت واحد رغم المسافة المملوءة بكل ما تعنيه الهواجس اللاهثة للاقتراب، وكأن الموج قد استحضر قراراته المتوهجة لاستقبال العابرين الى مبتغاهم، وترك للنوارس حرية التمسك والعشق الصوفي للمكان، لتنفتح للقادم أجواء الأمل والوصول.

سر انشاء سدّة الكوت وخرائطه
استوقفني المعلم المتقاعد بدر عبد عواد 72 سنة وقال، أراك تكثر المجيء الى السدّة كأنك تترك في خطوك مكاتيبَ في ذاكرة البوابات المتخمة أصلاً. وأضاف مبتسماً، مابين الوصول المتكرر والترقب الشامخ بوابات لا تغفو وكأنها في لحظتها الآنية قد أفردت ذروة أخرى من الشبق والعذوبة، يمتد من أولها الى أخرها كجرح يوازي الشريان الطافح دوماً والراقد جوار البوابة الأولى من جهة الغرب الذي يسمّى اللوك.
يتوقف عواد لحظات يسترجع ذاكرته يعطي أنفاسه دفقاً ويعاود القول، حين ترى اللوك تنهمر حكاياك الى قاعه الفضي وتنشتل يحرسها الحاجز الحديدي المنتصب صديقاً لدوداً للماء، ومن الجهة الأخرى، أي جهة الشرق، تأخذك اللحظات الزمنية الذاهبة والقادمة من عمر الماء من حيث لاتدري وتتثاءب كما الآهات وتشعر بأنك تغور مع زوارق الصيد الصغيرة البعيدة عن أطراف السدّة من جميع الاتجاهات احتراماً وإجلالاً لعنفوان الماء الصاخب الذي يذكر الجميع بالاستمرارية رغم كل شيء وكأنك تنفذ قانوناً رسمته مسلة حمورابي المبتعدة قسراً عن احضان الوطن حتى الآن.
ويبيّن بدر المفعم بكهولته، هل تعلم أن أبي عمل مع البنّائين في سدّة الكوت ومن حينها أصبحت لي أواصر مشتركة معها، فصار لزاماً أن أتواصل معها حتى النهاية وأعرف كل صغيرة وكبيرة عنها. فعلى سبيل المثال، هنالك أشياء غير معروفة عن السدّة منها إنها منذ الإنشاء والى يومنا هذا وهي بنفس الهمّة والإصرار، وحين أرادوا توسيعها الى ممرٍ ثانٍ لمرور السيارات لم تستطع اغلب الشركات إنجاز هكذا عمل لصعوبته ودقته المتناهية.
فتم الرجوع الى مصممها الأصلي، المهندس البريطاني الذي لايمكن لغيره معرفة إكمال وتوسيع أي شيء فيها، لكن المهندس ذاك أخفى الرسومات والخرائط الخاصة بالسدّة مع مقتنياته الثمينة، وبعد مماته ورث ابنه المهندس أيضاً كل شيء من والده، بما فيها التصاميم الخاصة بالسدّة، وبعد الاتصال مع الشركة المنفذة للسدّة بضرورة توسيع الممر الخاص بها لتخفيف الزحام، كان لابد من العودة للخرائط الهندسية والتصاميم، وهكذا أكمل الابن مابدأه الأب.
وأضاف عبد عواد وهو يحدثني بكل سعادة وفرح، أنه قد شارك في التوسيعات التي حدثت فيما بعد، وكما عمل أبي في إنشائها لأول مرة، شاركت في توسيعها أيضاً، إن بيني وبينها أشجاناً وذكريات وأبوّة لايمكن وصفها بسهولة. أكمل بدر حديثه ومضى في أروقة المساء وذاب مع أصوات الرذاذ ورقصات الأنوار فوق وجه الماء، وتزاحم مع النوارس العائدة من يومها.

(امشي اعله جال الكوت
وانهدم بيه)
اتكأت على حافة البوابة الأولى من الشرق، فطرق سمعي همس عذب، أصغيت جيداً، فكان صوت الإعلامي ثامر الطائي 32 سنة، موظف إعلام محافظة واسط، الذي استمر بحديثه المصحوب بالأنين، إن السدّة تشكو ولا يوجد من يستجيب، فالعربات الكبيرة والمجنزرات وزحمة السير وشح المياه هي من الأشياء التي تشكوها السدّة، نأمل أن تبادر الجهات المختصة بوضع الحلول المناسبة للحفاظ على السدّة، وأضاف الطائي، لو كان الأمر بيدي لجعلت السدّة لمرور المشاة فقط، ولجعلتها مكاناً سياحياً وترفيهياً لأبناء المحافظة، وأشار بيده الى نهر دجلة باتجاه الجنوب، أليس المنظر محزناً هذا الذي نراه أمامنا، أين الماء وصخبه وارتطامه مع (جال) الكوت كما غنى حسين نعمة ( امشي اعله جال الكوت وانهدم بيه).
لقد أصبح النهر المقدس لدى أبناء واسط مكبّاً للنفايات والجزرات والأحراش والرمال بسبب الإهمال وشح الماء. هل تعلم ياصديقي، محافظة واسط تروي بحدود مليون ونصف المليون دونم سنوياً وسدّة الكوت تؤدي دورها بكل وقار.
يا صديقي ألا ترى السدّة تتألم، أنها تنعى نهر دجلة قبل الأوان، لكننا لم نفقد الأمل أبداً، وإن الله عز وجل قد رسم في هذا البلد رافدين جميلين، هما دجلة والفرات ولابد له من حمايتهما. كان حديث الطائي مفعماً بالحزن والآهات، ربما لأنه قد تعايش مع السدّة أكثر من غيره منذ ولادته في محلة المشروع الممتدة من موقع سدّة الكوت وبواباتها البالغة 156 بوابة، وحتى الجنوب بمحاذاة نهر دجلة. تسللت عائداً الى الكورنيش بمحاذاة ضفة دجلة الخالد وكان الجميع بمختلف الأعمار يتنادمون بثقة ويشيرون الى سدّة الكوت الشاهد الكبير على طموحاتهم وذكرياتهم.

المدى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here