جعفر جخيور
بينما كنت اهِمُ بترتيب كتبي، وامسح ذرات الغبار عن بعضها؛ بعد عن ابعدتي قليلاً مشاغل الحياة الكثيرة وضغوطاتها عن الاستلقاء بين طياتها، والتأرجح على اغلفتها، والغوص بين سطورها، ناهلا ً منها ما لذب وطاب، مستخلصا ً مكنونها النفيس، وان تنوعت موادها وكتابها وعنواينها.
سقط نظري على كتاب النباهة والاستحمار للدكتور علي شريعتي والذي طالما استهوتني افكاره واطروحاته، فهممت اتصفحه باحثاً عن اشاراتي التي كنت اضعها بقلم شفاف برتقالي دلالة ً لأهمية السطور والفقرات فوجدته قد كتب : ولا شك ان الجيل الذي يستحقر نفسه بنفسه يكون حقيرا ً ايضاً. فسياسة الاستعباد والاسترقاق تقتضي التحقير اولاً، اي يُحقّر الذي يراد استرقاقه، حتى يظن انه من طبقة دنية واسرة منحطة، ثم يتقبل الذلة بكامل الرحب، ويلجأ للعبودية والاسترقاق.
غصت كثيراً بهذه السطور حتى اعياني التعب والهواجس، ولم اجد شاطئ يأويني، وكأنني في بحر متلاطم الامواج من التفكير والتفكر، ونوبات من الحزن والالم تعتصر شغاف القلب، بينما كان التيه هو المسيطر، اين نحن مما فيه؟ اين عراقيتنا من العراق؟ اين المواطنة من الوطن؟ ماذا حل بأرث الاباء والاجداد؟ هل فعلا ً ابتعلنا الطعم وصرنا مجردين لا نأبه لكوننا عراقيين والعراق لا يعنينا؟
وبينما انا في سكرات الحزن والالم وسياط التساؤلات المريرة، حتى وجدت سطورا ً برتقالية اخرى يقول فيها : الثقافة هي الوعي السياسي بالمعنى الافلاطوني للسياسة، لا بمعناها الصحفي اليومي، بل بالمعنى الافلاطوني للبحث المنتخب الاختياري. اي شعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته بالمجتمع والمقدرات الراهنة بالنسبة إليه والى مجتمعه، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وامته، والشعور بأنضمامه وارتباطه بالمجتمع، وشعوره بمسؤوليته كـرائد وقائد في الطليعة، من أجل الهداية والقيادة والتحرير والحركة الشاملة تجاه شعبه وامته. الامر الذي يجعل هذا بمثابة مسؤولية ثانية للأنسان. فثقافة الإنسان، وثباته على ما من شأنه ان يستلب منه، شيء واحد.
اطرقت رأسي وخدي تحتضن صفحات الكتاب، وسافرت بي المخيلة الى الف واربعمائة عام ونيف للوراء، تحديدا ً الليلة التي هاجر فيها النبي الاكرم، حين بارح دروب مكة وشعابها وأوشك على الانفصال عن جبالها ووديانها وهضابها فوجه إليها خطابه وكأنما هو يناجيها مع مرارة فراق ما فيها ومن فيها، ويقول: «والله إنكِ لأحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إلي ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت»
نستشف من هجرته الشريفة درسا في تعلم الأجيال حب الوطن، والانتماء له والدفاع عنه، بكل غال ونفيس، وأن الانتماء للوطن ليس مجرد شعارات أو كلمات بل هو حب وإخلاص وفداء وتضحية، وأن الإسلام جعل حب الوطن والانتماء له جزءا من العقيدة وجعل الدفاع عن ترابه واجبا مقدسا، ولا يجوز لمسلم أن يخون وطنه أو يبيعه مهما كان الثمن، وان درس الهجرة النبوية هو خير درس في حب الوطن والتفاني في خدمته.
إن للوطن فى أعناق أبنائه أمانة يجب عليهم أن يحافظوا عليها، وان يكونوا السد المنيع، والحصن الحصين لكل ما يواجهه، لذا ورسالتي واضحة للبعض والقليل ممن غرر بهم، واستبدلوا الذهب بالتراب، والسمين بالغث، بسلوككم الداعم للمتطاولين على العراق، والمنتهكين لسيادته، والتواطؤ مع اعدائه، قد انتهكتوا واحدة من اهم القواعد الدينية واحدى دعائمها ومرتكزاتها، قد تكون غفلة او غفوة، لكن لابد من الصحوة منها.
إن ما يؤسف له أن بعض من قصر فهمه عن حب الوطن ظن أن ذلك شيء مذموم وقبيح وأن المسلم يجب أن يحب مذهبه ومعتقده فقط وانه فوق كل مفهوم او مسمى، وهذا خلط وقصور عن الفهم، فإن حب الوطن هو من الإسلام ومن ما تعلمناه من الرسول صلى الله عليه واله وسلم، ومن الأمور الفطرية التى جُبل الإنسان عليها، فليس غريبا أبدا أن يحب الإنسان وطنه الذى نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته
التبرير لأخطاء وانتهاكات الاخرين اتجاه البلد، جرم مشهود لا يمكن ان يغتفر، وان كثرت الاعذار والتبريرات، ويعد نكرانا ً لأمهاتنا بعد مفاهيم الدين، وقد ارضعننا ونحن في المهد عشق الوطن، ورددن في النواعي ان عطشت تربة الوطن لا ترويها الا دماءنا.
تربينا ونحن نتغنى بالعراق، حتى صار ذاك العشق السرمدي، وكيف للعاشق بأن يقبل ان يمس معشوقه الضر، فتحتم على كل المنابر الوطنية التصدي للأصوات النشاز، بتقديم النصح لها، املً ان ترجع للصواب، وصفع بعض الابواق المرتزقة التي تتفاخر بالتبعية والانقياد من وراء الحدود.
نمتعض بعض الاحيان وتنتابنا نوبات من الغضب الا ان الشواخص ذات الطابع والمتبنيات الوطنية، هي من تلعب عامل الاطمئنان والراحة، وتغبط النفس بالفرح والسكينة، تحمل راية العراق عاليا ً معانقة بذلك عنان السماء، اخذت على عاتقها الصولات في جميع الميادين، وقد علقت حب العراق وسام شرفا ً على الصدور
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط