اللغة العربية والطبيعة الموسيقية الحسية الكامنة فيها ! (*)

اللغة العربية والطبيعة الموسيقية الحسًية الكامنة فيها !

لو كانت موسيقية اللغة العربية عند البعض موضع مفاخرة، فانها عند ناقد العقل العربي موضع معايرة.
آية ذلك أن ألأذن هنا تنوب عن العقل في الرفض والقبول. ومعروف في اللغة العربية ان الاذن هي التي تستسيغ وليس العقل . . . فمن وجهة نظر تشريحية، ليس للأذن عضو السمع، اي استقلال عن الدماغ، عضو العقل، وهي محض حاسة ناقلة، وليس لها ان تسمع وان (تستسيغ) إلا بقدر ما يأمرها الدماغ، ان تسمع وان تستسيغ، ولئن جاز في اللغة ان يقال ان الاذن تسمع وتستسيغ، فإنما ذلك على سبيل المجاز الذي فقد مبرره وسنده الظاهر من الواقع بعد تطور البحث العلمي.

فما دامت اللغة (اصواتا) فهي لا تقبل فصلا عن اداة ارسالها التي هي اللسان واوتار الحنجرة، ولا عن أداة تلقيها التي هي الاذن وطبلتها. وليس من قبيل الصدفة اصلا ان يستعير علم التشريح هنا بعض مصطلحاته من علم الموسيقى.
فالموسيقى، مثلها مثل اللغة، قابلة للحد بانها (اصوات) او بتعبير ادق (اصوات مؤتلفة). وبدون ان ننكر ان للموسيقى غرضا تعبيريا، فإن غرضها الاول ليس (التعبير عن اغراض) بل إمتاع الدماغ، بواسطة الاذن. بما بين اصواتها من إئتلاف وتساوق.

اللغة والموسيقى يجمعهما إذن قاسم مشترك : العلاقات الصوتية، بل إنهما قد تتبادلان الادوار الى حد إباحة الكلام عن لغة الموسيقى وموسيقى اللغة. واللغة، بنصابها من العلاقات الصوتية. لا تملك خيارا إلا في ان تكون موسيقية.
بل ليس ثمة من لغة بشرية إلا وهي موسيقية. وقد تختلف موسيقى لغات البشر بقدر اختلاف اللغات نفسها. ولكن ما من (إذن) شعب إلاً و (تستسيغ) موسيقى لغتها. وبما ان العربية لا تتمتع من وجهة النظر هذه بقدر خاص بين اللغات، فإن موسيقاها لا يمكن ان تتخذ موضوعا للمعايرة.
لكن ان تكون العربية، ككل لغة من لغات البشر، موسيقية، فهذا لا ينفي ان تكون لها، ككل لغة من لغات البشر ايضا خصوصيتها الموسيقية.

فمفرداتها تحمل اوزانها في مبناها بالذات. وموسيقى العربية هي موسيقى مبنية من الداخل، وليست مضافة من الخارج، وبما ان الموسيقى هي بالاساس علاقات عددية، وبما ان التجريد العددي هو النموذج الامثل للتجريد العقلي، فهل من دليل اقطع من هذا على ان العربية قابلة بحكم طبيعتها الوزنية بالذات لدرجة عالية من التجريد المنطقي ؟ واذا صح على هذا النحو ان اوزان المفردات العربية هي لها بمثابة قوالب منطقية قبلية، فهل من دليل اسطع من هذا على ان العربية إذ تخاطب الاذن فإنما تخاطب من خلالها، اول ما تخاطب، العقل ؟

موسيقى العربية بنية داخلية إذن قبل ان تكون واجهة خارجية، او قل انها موسيقى عقلية اكثر منها موسيقى حسية، وبمعنى من المعاني يمكن القول عن موسيقى العربية انها من طبيعة شطرنجية . . فهي محصورة الخانات طليقة الحركة. ولكن هذه الحتمية الظاهرة تباطنها حرية حركة واسعة. الصيغ الوزنية للغة العربية لا تتعدى المئة، لكن جذور العربية تجاوز العشرين الفا، فلا العربية تأبى النشاز وهي تتشدد في الرهافة الصوتية الى حد تأبى معه تحويل جميع الممكنات الوزنية الى وقائع لفظية . . . ونحن لا نماري طبعا في ان العربية تنوء تحت وطأة موروث ثقيل من الممارسات الموسيقية الخارجية الجوفاء. فالتسجيع والتصنيع اللفظي هيمنا على ادب العربية طوال حقبة مديدة وجدت تتويجها في العصر الذي سُمًي بعصر الانحطاط.

ولكن ناقد العقل العربي لا يستهدف النتاج الذي انتج بالعربية في حقبة بعينها من حقب تطورها او نكوصها بل يستهدف ذاتها من حيث هي لغة ومن حيث هي لغة العقل. لتعقل ذاته. صحيح ان لغة الاعرابي البدوي الفقير لغة قوالب جامدة ذات نغمة موسيقية تعوض فقر المعنى. وتجعل الكلام الذي يجر معه فائضا من الالفاظ ذا معنى حتى ولو لم يكن له معنى.

* نص مقتبس من كتاب اشكالية العقل العربي لجورج طرابلسي بناية النور شارع العويني بيروت 2011
.
.
. د. رضا العطار

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here