أطماع برزاني و أزمة الصراع القادم

يوسف رشيد حسين الزهيري
مع اتساع دائرة الحرب الاخيرة ضد داعش الارهابي واحكام قبضة الخناق عليه في مدينة الموصل ومع توسع اقطاب هذه الدائرة من العنف والصراع وامتدادها وتنامي نشاط المجاميع الارهابية المسلحة في العديد من دول العالم، تعرضت الكثير من المدن للدمار والتخريب حيث خلفت هذه الحروب الكثير من الكوارث والأضرار المادية والبشرية وقضت على البنى التحتية، كما انها تسببت بحدوث كارثة مجتمعية ادت الى نشوب خلافات ونزاعات داخلية، خصوصا في المدن التي تضم نسيج مختلط من القوميات والأديان والمذاهب. في العراق وسوريا واليمن وليبيا،وفي هذه البلدان، تضررت كل نواحي الحياة البشرية من جراء القتال في هذه الحروب المنفصلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. فعلى المستوى العربي نجد ان العراق منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وإلى الان لا زال العراق يعاني من انقسامات داخلية حادة بين مكوناته الرئيسية و تدخلات دول الجوار المستمرة في شؤونه الداخلية، وأدت الانقسامات إلى حرب طائفية وقومية بين هذه المكونات، وأشدها الحرب الطائفية عام 2006 التي كادت تصل إلى حرب أهلية شاملة، وكذلك إلى حافة الحرب بين قوات البيشمركة الكردية والقوات الاتحادية في المناطق المحاذية لإقليم كردستان العراق، وأخرها دخول عصابات داعش الإرهابية وسيطرتها على أربع محافظات عراقية في حزيران عام 2014، وهي مدعومة من قوى إقليمية وعالمية.
إضافة إلى الحواضن المحلية في هذه المدن، فقد سهل الاحتلال الأمريكي للعراق وما قام به من اجراءات منها حل القوات العسكرية وظهور العديد من المجموعات المسلحة في العراق بعضها نشأ من داخل العراق والبعض الأخر جاء وافدا للعراق من دول الجوار، والتي زاد من تدخلها التنافس فيما بينها على مراكز النفوذ في العراق، كذلك العملية السياسية في العراق منذ نشأتها الأولى تأسست على أساس طائفي وقومي وديني، فتأسست الأحزاب على هذا الأساس، وأصبح كل حزب أو تكتل سياسي يمثل طيفا واحدا من أطياف الشعب العراقي، وبعضها شكل له قوة عسكرية حتى إن بعض الأحزاب كان لها تعاون مع المجموعات المسلحة التي تعمل في العراق، بالإضافة إلى أن هذه الأحزاب السياسية كانت لها أجندات خارجية، ودعم من دول الجوار مما زاد من حدة الانقسام الداخلي والتدخل الاقليمي المباشر وغير المباشر.
وعلى الرغم من إن إقليم كردستان العراق يتمتع الآن بأفضل وضع اقتصادي وسياسي في تاريخ الأكراد، في داخل العراق وخارجه، فمنذ أن انسحبت قوات الجيش العراقي من المنطقة الكردية سنة 1991 ومعها الجهاز الإداري للحكومة العراقية أصبحت المنطقة الكردية مستقلة عن المركز في كل شؤونها، وبعد الإطاحة بالنظام في العراق عام 2003 استثمر الاكراد هذا الموقف لصالحهم وتمت دخول قوات البيشمركة المدعومة اميركيا الى الموصل وكركوك واستيلائها على المقرات الحكومية والحزبية واستيلائها على معدات الجيش والأسلحة والدوائر الاخرى وبسط سيطرتهم ونفوذهم على اغلب المناطق هناك ، حتى استتباب واستقرار العملية السياسية الجديدة في العراق بادارة بريمر وقبول الأحزاب الكردية بمبدأ الفدرالية وموافقتهم على الدستور الجديد الذي ينص على أن العراق دولة اتحادية فدرالية حصل كيانهم على الشرعية الدستورية، وصارت له قيادة إقليمية، وأسسوا برلمانا ومجلس وزراء وأصبحت قوات البيشمركة قوة نظامية ولها قياداتها الكردية الخاصة.
إلا أن الإدارة الكردية لم تلتزم بقوانين الحكومة الاتحادية في الكثير من الأمور، وهو وضع لا تشهده أية أنظمة فدرالية في العالم، فبموجب الدستور الذي وافقوا عليه فإن الأمور الخارجية والأمنية داخليا وخارجيا ومصادر الطاقة الوطنية كلها بيد السلطة المركزية الاتحادية، وأن رئيس الوزراء الاتحادي هو القائد العام للقوات المسلحة العراقية، بضمنها أية قوة مسلحة إقليمية ومنها قوات البيشمركة؛ وأن للسلطة الاتحادية الحق في تطبيق القانون في جميع أقاليم العراق الاتحادي، وبشأن العلاقات الخارجية ورغم أن وزير الخارجية الاتحادي السابق من الأكراد في الحكومة السابقة فإن سلطة الإقليم أخذت تؤسس لعلاقات خارجية مستقلة عن المركز، وتصدر النفط وكأنها بذلك تؤسس لعلاقات خارجية لكيان مستقل، إضافة الى ذلك يتصرف رئيس الإقليم وكأنه رئيس دولة مستقلة وليس رئيس إقليم هو جزء من دولة اتحادية لها رئيس وزراء منتخب ديمقراطيا، ووزارة خارجية اتحادية هي الوحيدة المسؤولة عن العلاقات الخارجية العراقية مع دول العالم، أما عن الأمور الداخلية فسلطات الإقليم تتصرف بمعزل عن السلطة الاتحادية وبشكل أصبح محزنا ومحرجا للسلطة الاتحادية، وأصبح الإقليم ملاذا للكثير من المطلوبين للعدالة وبخاصة تهم بالإرهاب موجهة لبعضهم، وهذا ما يخالف القانون.
ومع احداث غزو العدو الداعشي واجتياحه الاراضي العراقية وجدت بعض القوى الإقليمية والداخلية فرصة سانحة لفرض نفوذهم وسيطرتهم من جهة اخرى وخصوصا الجانب الكردي الذي تدخل تدخلا مباشرا وعسكريا في مدينة كركوك وبسط نفوذه وسيطرته الكاملة على المدينة مبررا ذلك بحماية المدينة من خطر اجتياحها من قبل داعش والتي ادت هذه الخطوة الى نشوب الصراعات والخلافات والاضطرابات الداخلية في المدينة بين القوميات المتعددة الاخرى وخصوصا ان هذه المدينة هي منطقة متنازع عليها من قبل عدة اطراف واهمها الطرف المتمسك بعروبية هذه المدينة من قبل المركز بالرغم من كل الاحداث السابقة والحالية والتي مورست ضدها من قبل الجانب الكردي من اعمال تكريد وتهجير لبعض المكونات او الممارسات التي مارستها الحكومات السابقة وخصوصا النظام السابق من اعمال تعربب وتغييرات ديموغرافية وجغرافية في ايجاد صبغة عربية خالصة لها ومنع الجانب الكردي من ايجاد مسوغ قانوني او تاريخي لانتزاع هذه المدينة وضمها الى اقليم كردستان ومصادرة حقوق القوميات الاخرى والتي تطالب ايضا في حقوقها القانونية والتاريخية والشرعية على احقيتها في المدينة حيث لا تزال قضية كركوك القضية الشائكة في تاريخ العراق الحديث ولم يتقرر مصيرها لحد الان بسبب النزاع القديم الحديث على ماهية المدينة اداريا وجغرافيا ولا زال الصراع العربي الكردي التركماني يحتل صدارة الموقف السياسي المشوب تجاه مستقبل هذه المدينة الاسيرة الان تحت قبضة البيشمركة للمساومة عليها مع المركز كوسيلة ضغط سياسي ،ولقد كان لسلطات الاحتلال دور مهم في تدهور الأوضاع في مدينة كركوك، أما بسبب جهلهم لواقع المدينة وتركيبتها الحساسة، وأما عن سابق قصد وترصد، في سياق خطتهم، لتأجيج الصراع الطائفي والعرقي في العراق، لإشعال الحرب الأهلية لتدمر البقية الباقية من هذا البلد المنكوب. وفي كلا الحالتين يتحملون نتائجها السياسية والقانونية والإنسانية،
ففي بعض المواقع يأخذ الخط الذي يقسم هذه المدينة في شمال العراق إلى شطرين شكل الجدران الواقية من الشظايا والمتاريس التي تصنع نهايات مفاجئة للشوارع المتربة. وفي مواقع أخرى لا يرى هذا الخط سوى أهل طوز خورماتو الذين يدركون بالفطرة أين ينتهي عالمهم في هذه المدينة وأين تبدأ الأرض المعادية.
ويسيطر الأكراد على أحد الشطرين أما الشطر الآخر فيخضع لسيطرة التركمان الشيعة. ويخوض الطرفان حربا من أجل فرض النفوذ في المدينة التي يتجاوز عدد سكانها 100 ألف نسمة من المحتمل أن تنزلق للمشاركة فيها جماعات مسلحة قوية لتتحول إلى مواجهة أوسع نطاقا في الفراغ الذي خلفته الدولة العراقية. وتتيح طوز خورماتو فرصة لتذوق ما يعنيه التقسيم على أرض الواقع بعد عامين من اجتياح تنظيم داعش شمال العراق وغربه لتنتج توترات طائفية وعرقية وتفتح بابا لصراعات جديدة معقدة على السلطة من شأنها أن تزيد من تفتت البلاد ،وفي الوقت نفسه تعاني الحكومات المحلية صعوبات شديدة في فرض سلطتها على الجانب التركماني من الخط الفاصل كما أن الشرطة أضعف من الجماعات المسلحة التي تجوب الشوارع وتفرض سيطرتها ونفوذها وفي السنوات التي انقضت منذ الاجتياح الأمريكي للعراق سعى الطرفان لتدعيم مطالبتهما بأحقية كل منهما في المدينة ومناطق أوسع موضع نزاع فضما إليها جماعات محلية أو أرغماها على الإذعان لهما وفي كثير من الأحيان خلق ذلك عداوات بين هذه الجماعات. وتغيرت اللعبة عندما اجتاح مقاتلو تنظيم داعش نحو ثلث العراق عام 2014 واستولوا على مدن من بينها الفلوجة غربي بغداد وتفكك الجيش جزئيا مما خلق فراغا في السلطة.وسيطر الأكراد على مناطق واسعة في الشمال وأرسلوا قوات البيشمركة إلى عمق المناطق المتنازع عليها ومن بينها طوز خورماتو التي دافعوا عنها في مواجهة داعش. ولم يتقبل التركمان الشيعة احتمال ضمهم إلى الإقليم شبه المستقل الذي يأمل الأكراد تحويله إلى دولة وانضموا إلى مجموعة من الفصائل المسلحة التي انضوت تحت لواء الحشد الشعبي الذي يخضع لتوجيهات بغداد حيث يرتاب الأكراد في مساعي التركمان للسيطرة على المدينة خشية أن تكون جزءا من برنامج إقليمي أوسع نطاقا للشيعة لتحدي نفوذهم في مدينة كركوك النفطية المتنازع عليها ،وقد نحى الطرفان خلافاتهما جانبا لطرد تنظيم داعش من طوز خورماتو في أواخر عام 2014 ثم ظهرت احتكاكات بين الفصائل المسلحة المتعددة. وتزايدت الفوضى في المدينة كالذي حدث في مناطق اخرى استولت عليها البيشمركة في محافظة ديالى ووقعت عمليات خطف وقتل وتهجير ،واشتعل الفتيل في ابريل نيسان بين الفصائل المسلحة والبيشمركة الأكراد بقذائف صاروخية ما أدى إلى تدخل فصائل أخرى ومسلحين من أهل المدينة وتحولت الاشتباكات إلى معارك ضارية في الشوارع كالتي حدثت في قضاء تلعفر في فترة احداث الطائفية 2006 او بعد احداث سقوط مدينة الموصل . مما تعطي مؤشرات بأن ما حدث ما هو إلا بداية لصراع أكبر سيحدث بين فصائل الحشد الشعبي والبشمركة بمجرد أن يقل الخطر الذي يمثله العدو المشترك تنظيم داعش.ومع كل جولة من جولات العنف تتزايد صعوبة إعادة توحيد طوز خورماتو وتتسع الهوة بين المقاتلين ومن يتولون مسؤولية المدينة. وأحبط أحدث جولة من الاشتباكات اتفاق بين كبار القادة الشيعة والأكراد حثتهم عليه إيران التي تحتفظ بعلاقات طيبة مع الجانبين. ورغم اختلاف أهداف كل من الفريقين فلكل من الطرفين الرئيسيين – منظمة بدر الشيعية والاتحاد الوطني الكردستاني مصلحة في الحفاظ على الاستقرار. لكن ثمة فصائل أخرى في كل جانب من الجانبين تستفيد من المواجهة باكتساب مكانة بين أهل المدينة الذين لم يعد أي منهم يؤمن بالحلول الوسطية
وفي الوقت الحالي ما زال وقف إطلاق النار صامدا لكن اتضح أن من الصعب تنفيذ عدة شروط من الاتفاق وأصبحت الشكوك تساور كل طرف أن الطرف الآخر يستعد لجولة جديدة من القتال. لفرض سلطته ونفوذه على تلك المناطق بينما بقيت حكومة المركز في بغداد تمارس دور المتفرج احيانا في ظروف ضعفها وعدم سيطرتها على ادارة هذه المدينة في ظل غياب قواتها الامنية والعسكرية وانشغالها في معارك تحرير المدن الاخرى من دنس داعش التكفيري ومع تزايد التوترات والاضطرابات السياسية بين حكومة المركز والقوى السياسية المنقسمة وبين الجانب الكردي المدعوم اميركيا على خلفية استحواذ البيشمركة على مدينة كركوك ومساومة الاكراد على قضايا ذات ابعاد اخرى لخدمة المصالح الكردية .وبعد ان توصلت القوى السياسية مؤخرا مع الجانب الكردي على حل القضايا العالقة بعد تحرير مدن العراق والتي بقى جزءها او محطتها الاخيرة مدينة الموصل والتي ساهمت قوات البيشمركة مع القوات الحكومية في معاركها الاخيرة والتي تشهد الان نوايا خفية بعد ممارسات الاكراد الأخيرة في بناء ساتر ترابي الى عمق كردستان من جهة بعشيقة والقرى المحررة من قبل البشمركة المدعومة اميركيا وتصريحات البرزاني الاخيرة المثيرة للجدل السياسي حول احتفاظ الكرد بالمناطق التي تم تحريرها تحت مباركة الجانب الاميركي وتحت رهن طاولة التفاوض القادمة للمساومة على ورقة المناطق المتنازع عليها وانفصال الاقليم ويترك الباب مفتوحا على خلفية ازمة صراع قادمة عربية -كردية تلوح بالافق القريب ستحيطها التدخلات الاقليمية والتي ستعقد من طبيعة الازمة وشحنها باتجاه خيارات المواجهة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here