اللغة العربية وبنيتها الموسيقية الداخلية ! (*)

د. رضا العطار

لا شك ان البنية الموسيقية الداخلية للغة العربية قد تغري مداور الخطاب بتظهيرها خارجيا من خلال المحسنات البديعية الصوتية. ولكن العربية لا تنفرد بمثل هذا الاغراء. فلجميع اللغات موسيقيتها. ولولا الموسيقية الباطنية للغة لتعذر ان نفهم لماذا كان الشعر ابدا ظهورا من النثر في جميع لغات البشر. وبديهي ان انتصار ثقافة العقل النثري في الحضارات الكاتبة قد اغنى الى حد كبير عن الحاجة الى تظهير الموسيقية الكامنة في كل لغة، كما عن الحاجة الى اصطناع موسيقى اضافية للخطاب. فهذه الموسيقى المضافة كانت ضرورية للذاكرة الجماعية ما دامت تقنية الكتابة لم تخترع بعد. فالشعر المحفوظ قام في الازمنة المبكرة بعين المهمة التي سيضطلع بها النثر المكتوب في الازمنة المتأخرة. ولم تكن وظيفة الموسيقى المضافة التغطية على فقر المعنى بقدر ما كانت مهمتها صيانته وحفظه من الاندثار. ولئن شهدت بعض الحضارات ومنها الحضارة العربية الاسلامية حقبة (تحذلق) في تاريخ تطورها الفكري.
فغالبا ما تتطابق هذه الحقبة مع توقف العقل المكوًن عن الاشتغال وتصنيم العقل المكون وتأسيسه لنفسه في عبادة نرجسية عاجزة على انتاج المعنى.

ولا شك ان جذرية العربية ووزنية اشتقاقاتها، تفردها عن كثرة من لغات الارض عالية من الموسيقية. لكن هذه الموسيقية العضوية لم تمنعها من ان تكون لغة حضارة كبرى.
ولنستذكر ههنا الحكم الذي اصدره انطوان مييه (1866 ـ 1936 ) رائد الدراسات المقارنة في الالسنة الحديثة، عندما ادرج العربية في عداد (اللغات الحضارية الكبرى) اي (لغات النخب المثقفة التي تصون في كل مجموعة من مجموعات البشرية المذاهب المكتسبة وتخترع افكارا جديدة وتنقل العلم وتأخذ بيده الى التقدم)
نظير ما تفعله الانكليزية والفرنسية اليوم ونظير ما فعلته قديما العربية عندما امدت (مصطلحات الحضارة) اللغات الاجنبية مثل الفارسية والتركية والبربرية و سود افريقيا المتأسلمين و الهندية والاردية والاندونيسية والماليزية والبنجابية والباشتوية والاوزبكية والطاجيقية والتركمانية والقرغيزية وعشرات من لغات آسيا الوسطى.
ربما من حقنا ان نتساءل ما الذي اغرى تلك اللغات باقتباس مصطلحاتنا الحضارية عن سعة من معجم العربية (البدوي الفقير). فمثلا ما الذي اغرى الفارسية التي هي بدورها لغة حضارة كبرى بان تقتبس نحوا من 40% من مفرداتها من معجم العربية ؟

ان موسيقية العربية هي ليست في خاتمة المطاف الا مظهرا من مظاهر نظاميتها، والنظامية هي المظهر الاول للعقلانية من حيث ان العقل محب للنظام لدرجة التماهي واباء. ولولا النية الهجائية المسبقة لكان عاشق هذا العقل ـ النظام قرأ نظامية اللغة العربية، اي موزونيتها الصرفية والنحوية معا، قراءة ديكارتية على نحو ما فعل الباحث جيرار لوكونت، الاستاذ في ( المدرسة القومية للغات الشرقية الحية) عندما قال : ان للغة العربية بنية تمتاز بنظامية موفولوجية ونحوية مدهشة، شبه هندسية، وبالتالي عظيمة الإغراء للعقول الديكارتية.

* مقتبس من كتاب اشكالية العقل العربي لجورج طرابلسي، بناية النور شارع العويني بيروت 2011

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here