ضرورة 1526 …. اصل الانواع طبقا لنظرية التطور ! ح 9

بقلم د. رضا العطار

ليس بين النظريات العلمية ما هو اكثر شيوعا من نظرية داوين، ولكن ليس ايضا ما هو ادعى الى الخلاف وسوء الفهم، ولذلك يحسن بنا ان نلخص للقراء كتاب اصل الانواع الذي وضعه داروين عام 1859 ونبين الاركان التي بنيت عليها تدليلاته حتى يكون القارئ على علم بطريقة تفكير هذا العالم البيولوجي. وقد تسوقنا حاجة الايضاح الى أمثلة لم يذكرها الباحث، بغية تيسير الفهم.

فالكتاب وضع لأثبات ان جميع الانواع الراهنة من حيوان ونبات قد نشأت من اصل واحد. فهو لا يبحث عن اصل الحياة وكيفية نشوئها من الجماد بل يقتصر بحثه على العوامل التي تهيئ الظروف لظهور نوع جديد من نوع قديم.

بدأ المؤلف بالدواجن والكلاب والقطط : وكثرة الصنوف التي استولدها الانسان بالانتخاب الصناعي من انواعها الاصلية. فقد كان الكلب مثلا اول ما تألفه الانسان نوعا واحدا وصنفا واحدا. فما اخذ الانسان في تربيته تفرع الى اصناف عديدة: منها كلاب الصيد وكلاب الحراسة وكلاب الموأنسة وكلاب الجر وكلاب الرعاية وحتى كلاب المسابقة وما الى ذلك.

وما فعله الانسان في الكلاب وسائر الحيوانات الاهلية تفعله الطبيعة في الحيوان الآبد، فالنوع يتفرع الى صنوف ولا تزال الفواصل والمميزات بينها تشتد وتتعاظم بتقادم الزمن حتى يصير الصنف نوعا قائما بذاته. – – – ثم ان ليس في العالم فردان من نوع واحد يتشابهان في شكلهما تمام التشابه. حتى التوائم يختلف بعضها عن بعض، ولسنا نعرف اسباب هذا الاختلاف.

على اننا نلاحظ ان الاختلاف بين افراد الحيوان وافراد النبات الداجنة اكثر مما هو بين اخواتها الآبدة، وعلة ذلك ان الاختلاف في الغالب اما انه ينطوي على ميزة تساعد الحيوان على البقاء، فيعيش ويتناسل وينتشر، واما انه يكون نقصا يعوقه عن المزاحمة فيموت وينقرض. ولما كان الانسان يعتني بالدواجن ويحميها من اعدائها لم تعد للاختلاف قيمة بينها من حيث بقاؤها او انقراضها. وهذا على خلاف ما هو جار بين الآوابد. فان اقل اختلاف ينقص قوتها ويعين عليها خصمها فيؤدي هذا في النهاية الى ابادتها.

من المشاهد ان الاحياء تلد عددا يربى على ما يفي ببقاء النوع. فالفرد الواحد من المحار قد يلد مليون بيضة. ومن الاسماك ما تلد الواحدة منها مئات الالوف من البيض. فإذا نجا جميع هذا البيض من الآفات فرضا وخرجت صغاره وعاشت ونمت حتى صارت محارا وسمكا، لتجمدت محيطات وبحار وانهار العالم كلها في شهر واحد وصارت كتلة يابسة من هذين الحيوانين. – – – كذلك تبيض الذبابة عدة مئات من البيوض. ومع ذلك نرى عدد الذباب في هذا العام مثلا لا يزيد عن عدده – – – والشجرة الواحدة تبذر الالاف من بذورها في كل عام بحيث لو نمت هذه البذور لتغطي وجه الارض بها.

فما السبب اذن في ان الاحياء على كثرة نسلها لا يزيد عددها عما كان قبلا ؟

سبب ذلك ان افراد كل نوع تختلف ويمتاز بعضها على البعض الآخر. فكل ذي ميزة تعينه على البقاء يبقى ويتناسل بينما غيره مما لم يحصل على هذه الميزة ينقرض – – – فالحيوان معرض لعدة آفات. فصغار السمك عرضة لان تلتهمها الاسماك الكبيرة وقد تثور الامواج فتقتلها، فما كان من السمك شفافا في لونه بحيث لا يتميز عن لون الماء الذي يسبح فيه ينجو من الاسماك الكبيرة التي لا تهتدي اليه، بينما غيره يقع فريسة لها، ثم القادر منها على مقاومة الموج او الغوص في الاعماق يعيش بينما غيره ينقرض- – – وكذلك اذا كثرت السباع في بقعة ما اشتد التزاحم بينها على الغذاء، فمن كان اسرع جريا وراء الفريسة عاش بينما غيره ينقرض.

ولهذا السبب نرى الحيوان على الدوام يماثل الوسط الذي يعيش فيه من حيث اللون ويلائمه من حيث المعيشة ومبلغ قوته. فالغزال سريع العدو لانه يعيش في الصحراء المكشوفة وليس له سلاح آخر حيال اعدائه سوى سرعة عدوه. لانه باختلاط لونه بلون الرمال يختفي عن اعين الاعداء.

والتنازع على البقاء واضح عند النبات. ان بعض زهور الحقل يتوقف على عدد النحل الذي يعتاده ويلقحه، فاذا قل عدد النحل قلت الزهور واذا زال زالت هي ايضا.

البرسيم القرمزي لا ينمو الا حيث يوجد النحل لتلقيحه ولذلك لم يستطع اهالي استراليا زرعه لعدم وجود النحل عندهم، على ان النحل لا يتوالد الا اذا منعت عنه الجرذان التي تأكل صغاره وعسله. فالقطط لانها تفترس الجرذان، تساعد النحل على التوالد فيكون من ذلك ان البرسيم ينمو لوجود النحل الذي هو واسطة التلقيح بين زهوره.

واذا نحن رجعنا الى طبقات الارض رايناها تشهد بنشوء الاحياء وتطورها. فهي سلسلة التواصل بين الاحياء المنقرضة منذ ملايين السنين وبين الاحياء في الوقت الحاضر.

فعن طريقها عرفنا كيف ان السمك تحول الى زواحف وكيف ان الاخيرة قد تطورت الى لبائن و طيور – – – فإذا رجعنا الى اجنة الحيوانات وجدنا انها تعيد لنا تاريخ الانواع التي نشأت منها. فاللانسان وهو بعد جنين يكون حاصلا على خياشيم كالسمك ثم على ذنب وشعر كالبهائم، والطيور تتطور في ادوارها الجنينية نفس الاطوار التي يسير عليها جنين الزواحف، ولا ينشأ ريشها الا مؤخرا عندما يقترب خروجها من البيض. فكل هذا يشير الى ان الاحياء الراهنة قد ارتقت متدرجة من احياء منشأها في الماء حتى وصلت الى طورها الحالي.

يؤكد داروين بان عوامل التطور هي النمو والتناسل ثم الوراثة ثم الاختلاف الناشئ بين الافراد بسبب تاثير احوال البيئة والاغتذاء وبتأثير استعمال الاعضاء او اهمالها، ثم تلك النسبة العالية في ازدياد عدد الافراد، مما يؤدي الى التنازع على الحياة. ثم ما ينتج من الانتخاب الطبيعي من اختلاف الصفات وانقراض الاحياء التي لم تتطور. وهكذا نشأ من حرب الطبيعة ومن الموت والجوع، ارفع ما نتصوره من الكائنات، ألا وهو الانسان.

الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس من كتاب مختارات لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here