كشف المستور في تجارب العضو المبتور!

تاريخ النشر: الأربعاء 04 أكتوبر 2017

حين تشعر اليد اليسرى بأنها تعاني التهميش والإهمال ولا دور لها فتقرر بتر نفسها من الجسد كله فإن تلك حماقة أعيت من يداويها، وهذا ما فعلته قطر حين قررت بتر نفسها من الجسد العربي والخليجي لتبحث لها عن دور في جسد إيران أو تركيا أو «الإخوان» أو «داعش» أو الإرهاب

محمد أبوكريشة*

إذا أراد الله بقوم سوءاً أعطاهم كثرة الجدل وقلة العمل، ومن كثرت ثرثرته كثر كذبه وقل صدقه ومن كثر عمله كثر صدقه وقل كذبه. وقد سئل أعرابي: أيهما خير من الآخر. الكلام أم الصمت؟ فقال: كل منهما في موضعه خير وكل منهما في موضع الآخر شر. أن تصمت في موضع الكلام شر، وأن تتكلم في موضع الصمت شر.. وقال الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك أو غيره.. فضل الكلام على الصمت أننا نصف ونمدح الصمت بالكلام.. ولا نصف ونمدح الكلام بالصمت. والصمت في موضع الكلام عجز، والكلام في موضع الصمت حماقة. وقال الخليفة العباسي عبدالله المأمون: أن أوصف بالعجز خير لي من أن أوصف بالحماقة. وقال الخليفة العباسي هارون الرشيد لابنه المأمون: يا أحمق.. فحزن المأمون فسأله الرشيد: ما أحزنك؟ قال: رميتني بداءٍ لا برء منه.. قل لي: يا أخرق ولا ترمني بالحماقة.

والأحمق من يتكلم في موضع الصمت ويصمت في موضع الكلام. ويريد أن ينفعك فيضرك، ويريد أن يمدحك فيذمك. وكل شيء عند الأحمق في غير موضعه. يهزل في موضع الجد، ويجد في موضع المزاح، ويسرع في موضع التؤدة، ويبطئ في موضع العجلة، ويريد أن يحسن فيسيء.

والحق أن الحماقة أعيت من يداويها كما قال الشاعر: لكل داء دواء يستطبُّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها. وقال الأحنف بن قيس: ما جالست أحمق ساعة إلا وانصرفت عنه وأنا أحس نقصاً في عقلي.

وأذكر أن أبي رحمه الله كان يضيق عليَّ كثيراً في اختيار الرفقة والصحبة وكان يجتهد في إبعادي عمن يرى فيه شراً. فسألته يوماً: لماذا تخاف عليَّ الأشرار؟ ألا تثق بأن خيري سيغلبهم ويؤثر فيهم؟ فقال: يا بني: اعلم أن الشر يعدي وأن الخير لا يعدي، فالحماقة معدية لكن الكياسة والفطنة لا تعديان. والحب لا يعدي لكن الكراهية معدية، والكريم لا يعدي البخيل لكن البخيل يعدي الكريم.

والحماقة داء بل وباء عربي وبيل منذ الفتنة الكبرى أواخر عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، والحمقى كما يقال خاملون في الجماعة ثابتون في الفتنة والفرقة. وهذا أمر العرب المريج.. وقد وصف سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه العرب قائلاً: إن العرب قوم فيهم غِرة.. والغرة هي الغفلة والغفلة أحد أبرز أعراض الحماقة.. فالغافل هو الذي يؤخذ دائماً على غرة ويلدغ من الجحر الواحد ألف مرة. وكل الفتن التي نسميها الآن ثورات أشعلها الحمقى. وكل أو جل نجوم المشاهد العربية الآن حمقى. وإذا كانت دولة الظلم ساعة ودولة الحق والعدل إلى قيام الساعة، فإن هذا القول لا يؤخذ على عواهنه وعلى إطلاقه فالظلم والعدل متلازمان. ولا يمكن أن تعدل مع فريق إلا ويرى الآخر أنك ظلمته. ولكن القول الأصوب إن جولة الكياسة والفطنة في أمة العرب ساعة أو هي بيضة الديك أو الاستثناء، وجولة الحماقة كل ساعة وهي القاعدة.

والأمر يسير جداً حين تتحدث عن حماقة أفراد. لكن الأمر الجلل حقاً أن تكون هناك دول حمقاء وجماعات حمقاء وشعوب بأكملها حمقاء.. وهذا لا وجود له إلا في أمتنا العربية. وحين تهتف إيران وعملاؤها «الحوثيون» وحزب «نصر الله» و«الإخوان» وفريق الحكم في قطر: الموت لأميركا والموت لإسرائيل والنصر للإسلام وهم يقتلون اليمنيين والسوريين والليبيين والمسلمين في كل مكان. فإن الأمر بلغ حد الدول الحمقاء والجماعات الحمقاء. وحين يذبح «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» المسلمين والعرب عموماً ويهتفون بالموت لأميركا وإسرائيل ويقولون: الله أكبر.. فإنك تواجه حماقة دول وشعوب وجماعات وفرق هالكة، وهي حماقة أعيت من يداويها.

وحين تشعر اليد اليسرى بأنها تعاني التهميش والإهمال ولا دور لها فتقرر بتر نفسها من الجسد كله فإن تلك حماقة أعيت من يداويها. وهذا ما فعلته قطر حين قررت بتر نفسها من الجسد العربي والخليجي لتبحث لها عن دور في جسد إيران أو تركيا أو «الإخوان» أو «داعش» أو الإرهاب، حتى إذا كان دورها الذي تبحث عنه مجرد حضور إعلامي بأن قطر بترت نفسها. قطر فعلت وفعلت حتى لو كان فعلها بتراً وشراً.

وهذا ما فعله كل من بتروا أنفسهم من أجساد دولهم بحثاً عن استقلال مزعوم أو تقرير مصير مجهول أو اعتراضاً على التهميش والإهمال والتمييز. واستفتاءات الانفصال وما يسمى تقرير المصير فشلت في صناعة دول ذات معنى وثقل. وكان الأمر مجرد بتر لعضو عن جسده ظناً منه أن البتر حياة، بينما هو موت مؤكد للعضو المبتور الموتور. وإعاقة للجسد كله، ولا أرى أن لعبة البتر والانفصال نجحت في أي مكان بالعالم. فقد أنتج البتر والانفصال دولاً فاشلة في جنوب السودان والبوسنة وبنجلاديش وسينتج دولاً ميتة في كردستان العراق وكتالونيا. والمسألة قديمة جداً منذ فعلها الاستعمار البريطاني والفرنسي عندما فصل أقاليم عن أجسادها وصنع منها دولاً بلا هوية ولا معنى على أساس طائفي أو عرقي أو ديني. وأسوأ الحماقة أن يعالج عضو في جسد ما تهميشه ببتر نفسه أو قتل نفسه. ولا يوجد منصف ينكر أن الأكراد عانوا كثيراً جداً من النبذ والإهمال والتهميش والظلم، وأن الأكراد قوم مشهود لهم بالسماحة والعقل الراجح والكياسة والفطنة، وأنهم أبعد ما يكونون عن التعصب والتطرف والحماقة، فأنا لم أسمع حتى الآن عن إرهابي كردي إلا تسميات غير دقيقة تطلقها عليهم ظلماً بعض الدول. كما أن الأكراد أنجبوا أعظم زعماء وقادة الأمة في التاريخ القديم وعلى رأسهم الناصر صلاح الدين. كل هذا لا شك فيه لكن غرة العرب وحماقتهم أصابتهم على ما يبدو حين قرروا علاج التهميش والظلم ببتر أنفسهم من الجسد العراقي. ولم يقرؤوا تجارب الآخرين الذين قرروا بتر أنفسهم من أجسادهم فقتلوا أنفسهم وأعاقوا جسدهم. ولا أحد يشك في أن الطائفية ضربت العراق في مقتل، لكن ليس علاجها أبداً أن تكون للعرب السُّنة دولة وللأكراد دولة وللتركمان دولة وللكلدان دولة. ولو حدث هذا فإن هذه الدول ستكون قنابل موقوتة تنفجر في نفسها وفي بعضها. والعقل يقول إن العضو المهمش في الجسد يظل حياً فيه ويناضل من أجل حقوقه لا أن يقتل نفسه رداً على التهميش والنبذ. وحتى إذا كان استفتاء انفصال كردستان عن العراق ورقة تفاوض وضغط على حكومة بغداد المركزية، فإنه إجراء أحمق يضر أكثر مما ينفع، بل لا ينفع على الإطلاق.. وعلى الأكراد أن يعيدوا قراءة تجارب العضو المبتور ليكتشفوا المستور!

*كاتب صحفي
الاتحاد الإماراتية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here