– قـراءة في شــعـر بعض فـحـول الـشعـر

عزيزي القارئ ……..
اليوم لم اقرأ لك في كتاب وانّـما هي قراءة لأبيات من الشعر لشعراء يُـشار اليهم
بالبنان وهم بلا ريب فرسان البيان ولكن لكل جواد كبوه ولكل سيف نبوة ، وان حصل هذا فلا
يقدح بشاعريتهم او يقلل من منزلتهم ، ومهما حاول الانسان بـلوغ الكمال فلا يـسـتطيعه ويـبقى
الكمال لله وحـده ، وما من انسان مهـما بلغ من العـلم إلّا وتُـدركه حـالة من الضعف أو الـوهـن
والتهافت وأحياناً الخَطَل وما نُعِتَ شاعرنا بالاخطل الا لخَطَلٍ حصل له في أحد ابياتِ قصيدةٍ قالها .
ومدار حديثي اليوم يدور عن شاعرنا المتنبي وآخـرين من فـحول الـشعراء :
حيث وقفتُ على بعض اشعاره التي كثيراً ما نرددُها او نتمثلُ بها على سبيل الحكمة فتكون
فيصل المتمثلِ بها أمام خصمهِ ومن هذه الامثال قول شاعرنا المتنبي :
<< واذا أتتك مذمتي من ناقص ٍ فهي الشهادةُ لي بأني كاملُ >>
فالمتنبي أسند حُجّته بالكمال الى شخص ناقص والناقص إمّـا ان يكون بالعقل او بالدين او
بالعِرْض وعلى هذا يدورُ كلامي أقول كيف مـرّ هذا الـبـيت على الـمتـنـبي أولاً وعلى سامعـيه
ومتعاوريهِ ثانياً ونحن نردده من دون ان نَـعِيَ معـناه والمعروف شرعاً وعقلاً ان الانسان الناقص
في احدى هذه النقائص لا يؤخذ بـشهادته لكونه لا يتمتع بالاهلية الشرعيه أو القانونيه ومن
خلال هذا التوضيح يتبين لنا ان بيت الشعرمختل المعنى ولا يقوم على الحكمة كما تصورناه
وعلى القارئ ان لا يسـتـشهد به مـسـتقبلاً لخلـوّه من الغرض المطلوب .
كذلك قوله في قصيدةٍ هي من عيون اشعاره :
<< أعارني سُـقْمَ عينيه وحملني من الهوى ضعف ماتحوي مآزرُهُ >>
فالقارئ لصدر البيت يرى صورة ًرائعةً في من حيث التشبيه والاستعاره أمّا المُشبّهُ به في عجز
البيت فهو عاجز وواهن وأستطيعُ أن أقولَ أنّه سخيف حيث صوّر هواه وما يحمله جراء حبه
لمحبوبته بضعف ما تحوي مآزرها وما تحوي المآزر تلك الا عجيزتها اي جعل الشاعر المتنبي
للحب جرماً فوزنه فكان بوزن عجيزة مَنْ أحبّها وهذا تشبيه رديئ وذوق فاسد وبارد ، ولا
احسب المتنبي الا أنه اراد بهذا الوصف ان يُضحكَ سامعيه لأنّه رجلٌ عِزهاةٌ لا يقرب النساء
وهو القائل عن نفسه في قصيدته المشهورة << عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ ياعيدُ حيثُ يقول : << لم يتركِ الدهرُ من قلبي ومن كَبِدِي شيئاً تُتيمُهُ عينٌ ولا جيدُ >>
والله أعلم بما حصل ساعتها عند سماع سامعيه هذا البيت .
ومع المتنبي أيضاً في قصيدته الرائعه :
مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
يتسلسل بوصفه الرائع الى أن يقول:
ولو كانت دمشق ثنى عناني لبيقُ الثردِ صينيّ الجفانِ
يلنجوجيّ ما رُفعتْ لظيفٍ به النيرانُ نـدّي الدُخانِ
أقول ما كان أغنى الشاعر عن هذين البيتين وليته طرحهما عن هـذه الـقـصيدة التي تـفيض
عذوبة ًوتنطف سحراً ، ولا احسبه الا انه كان جائعاً ساعتها فتذكرالثريدَ الدمشقي المطبوخ
بعود اليلنجوج العطر والذي لا يُعمل ذلكَ الثريد الا للخاصة من امثاله فأراد تسجيل مشاعر
الجوع مع مشاعره المأخوذه بالطبيعة الساحرة فالتقتا في شعب بوان في هذين البيتين .
ومن شاعرنا المتنبي أنتقلُ الى شاعرنا أبي تمّـام وقوله في قصيدة يرثي بها أحد الامراء
والتي مطلعها ……..
<< كذا فليجلّ الخطبُ وليفدحَ الامرُ فليس لعينٍ لم يفضْ ماءُها عـذرُ >>
الى ان يقول ……
<< ونفسٍ تَعافُ العارَ حتـّى كأنما هو الكفرُ يومَ الروع ِاو دونهُ الكفرُ >>
<< وما مات حتّى ماتَ مِضربُ سيفهِ من الضربِ واعتلتْ عليه القنا السمرُ >>
الى ان يقول في بيته الاتي ….
<< وقد كان فوتُ الموتِ سهلاً فردّهُ اليه الحفاظ ُ المرُّ والخُلقُ الوعرُ >> وهذا هو ما
اُريد الوقوفَ عليه فالشاعر وصف المُرثى أنّهُ كان قادراً على الفرار والتخلص من القتل وبذلك
الفـوتِ يـفـوتُ على الموتِ إلا أنّ [ المُرثى ] كان صاحب حـفاظ وهـذا الحفاظ مرٌّ لايمكن أن
يتجرعَهُ إلا ذو النفس الكبيرة وهـو المُرثى ، وأنّ صاحبَ الحفاظِ الـمُـرِّ هـذا مقـرون بـوعرةِ
الاخلاق ِ، وهـذا من غريب الوصف لأن الاخلاق الرفـيعة لاتوصف بالـوعـورة ولا بالخـشونة
وانما توصف بالدماثة و بالسهولة واللين ولا ادري كيف مـرّت هذه العبارةُعلى السامعين حينها
وكيف تقبلوها منه والمُرثى رجل ذو مكانه ؟؟
ويشاكل هذه الكلمة في الاستعمال غير المناسب قول شاعرنا الجواهري في مطلع قصيدته التي
يقول فيها ……..
<< أطبق دجى أطبق ضبابُ أطبق جهاماً يا سـحابُ >> فالشاعر استعمل كلمة جهامٍ وهو
يُريد بها السحاب الثقيل القادم بالويل على من يعنيهم إلّا أن الجهامَ جاءت على غير المعنى
المقصود لأن الجهام هو الغيم الخفيف الابيض وليس فيه شيئ من الماء ، فالكلمة هـنا في غير
موضعها وكان بامكان الشاعر ابدالها ، ومع الجواهري نبقى ففي قصيدته طنج المنشورة في
ديوانه المطبوع عام 1980 على نفقة وزارة الثقافة والاعلام يقـــــول ………..
[ لله درّك < طنج > من وطن وقف الدلال عليه والغنجُ ]
[ الليل عن جفنيك منطلق والصبح عن نهديك منفرجُ ]
[ تتخالف الالوان في شفق ويلمّـها غـسق فـتـنـمزجُ ] وعلى كلمة [ فتنمزج ] أقف لأقول ان
الشاعر استعمل الكلمة العاميّه وهي كلمة غير فصيحه وليس فيها ما يثير في حين كان بامكانه ان يقول < فتمتزج > وهي الافصح والانسب والاجمل ، وفي نفس الجزء يقول شاعرنا الجواهري
……..
[ آليت أبرد حرّ جمري وأديل من أمر بخمري ]
[ وأقايض البلوى بأيـّة بسـمة عن أيّ ثـغــر ]
الى أن يقول …….
[ يتكالب الشـرّ المـحيــــقُ بها فيلجا للأ شـرّ ] وكلمة [ الاشر ] هي استعمال عامّي وصفة
المبالغة < أفعل > لاتأتي في شر على الاشر .
ونظلُّ في طنج فيقول شاعرنا الجواهري [ تُغفينَ والاطيافُ حالمةٌ في كلِّ مغنى فيكِ
تختلجُ ] أقولُ كان على الشاعر أن يتنبهَ الى أنّ الاطياف لا تحلم وإنّما تهيمُ وكان عليه
أن يقول [ تُغفينَ والاطيافُ هائمةٌ ] كما أنّ الاطياف بمعناها هي الاحلام ذاتُها .
ويقولُ الجواهري في الجزء السابع من ديوانه في قصيدته سجا البحرُ ………
[ ولستُ بدارٍ هل أسمّيْ أشرّها بأمِّ المآسي أمْ بأمِّ المهازلِ ]
وكان بامكان الجواهري وهو القادر على أن يتفادى هذه المفردة العاميةِ [ أشرّها ] بمجرد
تحريك الياء الساكنةِ في [ أسمّيْ ] فيكون صدر البيت كالاتي [ ولستُ بدارٍ هل أسمّيَ شرّها
….. الى آخر البيت ] ويتخلص من هذه المفردة العاميه .
وفي الجزء السادس من ديوانه وفي مساء يوم الخميس الثاني من تشرين الاول عام
1975 يُـلقي الجواهري بـيـتـين من الـشـعـر ارتجالاً في حـفـل افـتـتاح الرابطة الادبية في
النجف في موسمها الثقافي حيثُ قال [ مُقامي بينكم شُكرُ ويومي عندكم دهرُ ] ثم يُعرّجُ
جامع الديوان فيقول قرأ الشاعر البيت في قراءةٍ ثانيةٍ …………………
[ مُقامي بينكم شُكرُ ويومي عندكم عُمْرُ ]
فـفي البيت الاول أراد الـشاعـر أن يصف يـومه بالـسـعادة والـبـهـجة حتى صار وكأنّهُ دهــرٌ
وهذا ما لا يتفقُ مع ما أراد لأن الزمن في حال الـسـعادة لا يـوصف بالـطـول وإنّـما يـوصف
بالقصر ولأنّ السعادةَ قصيرٌ أمدُها فلا توصف بالطولِ وربّما نـبّههُ أحدهم أو هو تنبه
الى غلطهِ فأراد أن يتفادى ذلك بتعديل عجز البيتِ ولكنّه لم يُـوفّـق أيضاً لأنّ العمر مدى
طويل يدل على ثقل الزمن وعلى الاغلب عدم ارتياح الشاعر في هذا الحفـل .
وفي الـجـزء نـفـسـه يـقـول الـشـاعـر في قـصيـدتـه ذكـرى وفـاة جـمـال عـبـد الناصر الـتـي
الـقـاها في احـتـفـالـية تـأبـيـنه عام 1971 يـقـول شــاعـرنا :
[ يا أيُّها النسرُ المحلِّقُ يتّقي فيما يميلُ عواصفاً هوجاءا ]
[ ينقضُّ عجلاناً فيفلتُ صيدُهُ ويصيدُهُ إذْ يُحسنُ الابطاءا ]
وهنا لا أدري هل أراد الشاعرُ أنْ يُؤبِّـنَ أم اراد أن ينتقصَ ، وهو يعلمُ عِـلمَ اليقينِ أن
النسور لا تصيدُ فرائسها وإنّما هي تأكلُ الجيف كما أنّ الشاعر جعل من المُـؤبَّـنِ إنـسانًا لا
يتمتع بالبديهيةِ فهو يُخطئُ ولا يستطيعُ تحديد الهدف أو الوصول الى مبتغاه بفكرةٍ ألمعيةٍ
ولا بسرعة العارضة ولا أظنه إلا اراد هذا المعنى بالذات فمرّر البيتَ ولم يلتفت الى قصده
أحـدٌ من سـامعيه وهذه حـذلـقـة ُ شـاعـر إذا كان يـقـصـدُها .
وقد أحسن الشاعر أبو القاسم الشابي حين قال :
[ سأعيشُ رغم الداءِ والاعداءِ كالنسرِ فوقَ القمّةِ الشمّاءِ ]
حيث أصاب في تـشـبـيههِ لأنّ الـنـسـور لا تسكن إلا في قُـلـل الجـبال والمرتفعات العاليه .
وفي قراءتي لديوان امير الشعراء شوقي وقـفـتُ في قصيـدته العـصماء نهج الـبـردة على
استعماله اداة الشرط < مـهـمـا > في غير مكانها فيقول ……..
< مهما دُعيتَ الى الهيجاء قمتَ لها ترمي بأسـدٍ ، ويرمي الله بالرُجُـمِ >
فخطاب الشاعر الى الرسول صلّى عليه وآله وسلم خطاب الحاضر ولـو جـازَ إسـتعمالها
فالافضل أن يـسـتـعملَ [ إذا ] فـيقول :
< إذا دُعيتَ الى الهيجاء قمت لها ...... ترمي بأسدٍ ويرمي الله بالرُجُـمِ >
وفي قصيدته < ولد الهدى > يقول ……
والوحي يقطر سلسلاً من سلسلٍ واللوحُ والقلمُ البديعُ رَواءُ
فقد استعمل الشاعر كلمة < يقطر > والوحي لايقطر وإنّما يحمل فلو قال
< والوحي يحملُ سلسلاً من سلسل الى آخر البيت > لكان بيت الـشعرأجمل لصورةِ الوحي
وأمـتنَ في تـركـيـبتهِ ، وفي القصيدة نفسها يقول الشاعر …….
[ اسم الجلالة في بـديع حروفهِ ألـفٌ هـنـالكَ واسـم طه الـباءُ ]
فقد استعمل اسم الاشارة هنالك وهي اشارة الى البعيد والله جل وتبارك وتعالى موجود وحاضر
في كل مكان والانـسـب كما أراه أن يـقـول ألِـفٌ يُـوحّـدُ واسـم طه الباءُ وقـوله في القـصيدة
نـفـسها واذا خـطـبت فـللمنابر هـِزّة ٌ تعـرو الـنـديَّ وللقـلوب بكاءُ كان بامـكان الـشـاعرأن
يقـول [ وللدنى إصغاءُ ] بدلاً عن [ وللقلوب بكاء ] لأن الرسالة المحمديّـة رسـالة عـامّـة تحملُ
الـخـيرَ لـكلّ البـشـريّـة وهي الـنـبـأ العظيم .
وبهـذا القـدر أخـتـتم قـراءتي وأقـول وللـشـعـراء في ما يـشـتهـون مـذاهب .

الدنمارك / فايلا في 11/ آب / 2008

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here