هل شاخ الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني أم تخلى عن مبادئ الاشتراكية؟

د. كاظم حبيب
هل شاخ الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني أم تخلى عن مبادئ الاشتراكية؟
لم يعد طرح هذا السؤال غريباً عن الأوساط السياسية والشعبية بألمانيا: هل شاخ الحزب الاشتراكي الألماني، أم أنه قد تخلى عن مبادئه الأساسية التي تشكل المضمون الأساسي للاشتراكية، أم شاخت قيادته وكوادره وخطابها السياسي؟ ولم تترك الصحف الألمانية الكبيرة والمعروفة عن نشر المقالات والنقد لهذا الحزب وطرح الكثير من الأسئلة التي تصب بنفس الوجهة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر جريدة الوقت الأسبوعية Die Zeit، أو جريدة برلينر تسايتونگ Berliner Zeitung ، أو جريدة نويس دويتشلاندNeues Deutschland اليسارية، أو جريدة فرايتاگ. Freitag كما إن هناك أسئلة أخرى تثار منها مثلاً: لماذا يطرح مثل هذا السؤال منذ سنوات؟ ولماذا لا يلقى صدى ورد فعل إيجابي من جانب قيادة هذا الحزب، وهم يرون كيف تتراجع شعبية حزبهم؟ نحاول في هذه المقالة تقديم رؤية اجتهادية للعوامل الكامنة وراء هذه الظاهرة وبشكل مكثف.
تشير المعطيات المتوفرة عن النتائج التي حققها الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في عدد من الدورات الانتخابية للبرلمان الاتحادي منذ العام 1949 حتى العام 2017 إلى اللوحة الأتية لعدد منها:
2017 2013 2009 2005 1998 1990 1983 1976 1969 1957 1949 السنة
20،5 25،7 34،2 38،5 40،9 33،5 38،2 42،6 42،7 31،8 29،2 %
Vgl.: Bundestag.de, Ergebnisse der Bundestagswahlen.
وإذا كانت النتائج في الدورات الانتخابية خلال هذه الفترة الطويلة متقلبة من دورة إلى أخرى، إلا إنها لم تنخفض عن الثلاثين بالمئة إلا في العام 1949، ثم بدأت بالصعود والتقلب والتراجع المستمر منذ العام 2005 حتى الوقت الحاضر. وأسوأ النتاج ظهرت في الدورة الانتخابية لعام 2017. فما هي العوامل الكامنة وراء هذا الواقع بألمانيا؟ في ضوء الدراسات والمناقشات المنشورة يمكن تشخيص عوامل عدة عامة تشمل الأوضاع بألمانيا كلها، بل وأوروبا عموماً من جهة، وعوامل أخرى تخص أزمة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني من جهة أخرى؟
فمنذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولاسيما منذ انهيار النظام السياسي بالاتحاد السوفييتي ومعه النظم السياسية بأوروبا الشرقية، وكذلك ألمانيا الديمقراطية، وإقامة الوحدة الألمانية، تفاقم ممارسة الحكومات الألمانية المتعاقبة لاتجاه سياسي واقتصادي واجتماعي يميني، ووجد تعبيره في توجهات مماثلة داخل المجتمع الألماني. وإذا كان هذا التوجه قد بدأ منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بممارسة سياسات اللبرالية الجديدة التي انطلقت من الولايات المتحدة وبريطانيا وشملت العالم الرأسمالي كله ، تنامى أكثر فأكثر في العقد الأخير من القرن العشرين وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وتجلى في الانقضاض على المكاسب الاجتماعية التي تحققت خلال فترة الحرب الباردة بين المعسكرين وتقليصها، وفي التشدد مع طالبي اللجوء وإجراء تغييرات متشددة في القوانين والقواعد المنظمة للجوء، وكذلك في الموقف من وجود الأجانب بألمانيا. يضاف إلى ذلك بروز نهج متصاعد في الأوساط الشعبية مناهض للسامية أو لليهود، إذ بدا واضحاً في ارتفاع عدد الجنح والإساءات التي ترتكب في مقابر اليهود أو التحرش بهم.. الخ. “فبحسب التقرير الذي أعدته لجنة مكونة من خبراء عن معاداة السامية في ألمانيا، يساور اليهود في ألمانيا قلق على أمنهم بشكل متزايد بسبب التجارب اليومية المعادية للسامية. لذا طالبت مجموعة الخبراء الذين تم تعيينهم من جانب البرلمان الألماني “بوندستاج” بتحسين سبل تسجيل الجرائم المعادية للسامية والمعاقبة عليها وكذلك تعزيز خدمات تقديم المشورة لضحايا معاداة السامية، ولكن الخبراء حذروا في الوقت ذاته من التسرع في الاستنتاجات. وجاء في التقرير أنه على الرغم من أن معدل الآراء المعادية للسامية بين الشباب ذوي الخلفية المجتمعية المسلمة يزيد على ما هو عليه بين غير المسلمين، وعلى الرغم من أن المهاجرين الوافدين بصفة خاصة من دول عربية وشمال أفريقية يميلون لمعاداة السامية، فإن المسلمين الأكبر عمرا وغير المسلمين يختلفون عن ذلك قليلا. وأفترض الخبراء وجود نحو 20 بالمئة من معاداة السامية الكامنة داخل المواطنين الألمان بشكل إجمالي.” (راجع: يهود ألمانيا يشعرون بالتهديد من تزايد العداء للسامية بين المسلمين، تقرير، نشر في موقع المصراوي في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2017). وجاء في تقرير عن معاداة اليهود في الحياة اليومية بألمانيا نشر على موقع دويتشة فيلة DW ما يلي: “وصف الحاخام دانييل ألتر تعرض اليهود لشتائم وإهانات وحتى لاستخدام العنف ضدهم، بأنه “أمر عادي كليا في ألمانيا”، مشيرا إلى أن حوالي ثلث الألمان معادون لليهود. ويضيف: “معاداة اليهود ظاهرة منتشرة في جميع فئات المجتمع”. وأصبحت هذه الظاهرة “مقبولة اجتماعيا”، كما يقول ألتر الذي تولى في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي منصب مفوض الجماعة اليهودية في برلين لشؤون مكافحة معاداة السامية.” (نشر بتاريخ 04/02/2017، وأخذ المقتطف بتاريخ 10/10/2017).
أما بالنسبة لمعاداة الأجانب فقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أعده محاضرون في جامعة “لايبزيج” الألمانية، زيادة عداء الألمان تجاه المسلمين واللاجئين والغجر خلال العام الحالي (2016)، بنسبة تفوق نظيرتها خلال عامي 2011 و2014. فتتراوح نسبة الرافضين للأجانب بألمانيا بين 40-45% في العام 2016.” كما “أعرب 50% من المشاركين في الاستطلاع عن شعورهم بأنهم غرباء في بلدهم بسبب المسلمين في البلاد، في حين كانت النسبة 36،6% عام 2014، و26،1% في 2011″. (راجع: استطلاع: ارتفاع نسبة العداء ضد المسلمين واللاجئين بألمانيا خلال 2016، تقرير نشر في موقع فيتو Veto، في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2017).
تقترن هذه الظواهر السلبية، سواء أكانت بألمانيا أم بالاتحاد الأوروبي عموماً وخلال السنوات العشرين المنصرمة، بأزمة الديمقراطية التي تعاني منها ألمانيا وكذا الاتحاد الأوروبي، ولاسيما في العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، والحكومة والأحزاب السياسية والبرلمان والحكومات المحلية ومجالسها من جهة أخرى، وتراجع شديد في مصداقيتها بين أوساط المجتمع. وفي ذات الوقت تنامي دور القوى والأحزاب اليمينية ونشاطاتها في المجتمع ودخولها في المجالس المحلية وفي مجلس النواب الألماني. وفي الانتخابات الأخيرة مثلاً فاز الحزب اليميني الراديكالي المسمى „البديل لألمانياAlternative für Deutschland ” (AfD) بنسبة تصويتية عالية بلغت 12,6% في انتخابات عام 2017 في حين لم يحز في انتخابات عام 2013 أكثر من 4,7% والتي لم تؤهله الدخول في البرلمان الاتحادي الألماني، إذ لم يحصل على النسبة المحددة دستورياً، وهي 5%. وولكن ما هي أسباب هذه الظواهر السلبية؟ فيما يلي محاولة تشخيص بعض المشاكل التي تدفع بهذا الاتجاه اليميني في المجتمع الألماني:
** ضعف العلاقة بين الفرد والمجتمع من جهة، والسلطة السياسة والبرلمان الاتحادي والمجالس المحلية من جهة أخرى وتراجع في استشارة الشعب في معالجة مشكلاته واعتماد التمثيل النيابي مع تقلص شديد في العلاقة بين النائب وناخبيه خلال الدورة الانتخابية وعدم الانتباه لحاجاته والتغيرات الطارئة على المجتمع الألماني.
** اتساع الفجوة (المقص) بين الأغنياء والفقراء بألمانيا، بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء، بحيث أصبحت الصحف الألمانية، حتى اليمينية والمحافظة منها، تشكو من هذه الظاهرة وتخشى من عواقبها. فقد أشار النائب اليساري گريگوري گيزي إلى أن 10% من السكان يملكون 61% من صافي الثروة لعام 2011 بألمانيا«، وأن عدد أصحاب اليورو المليارديرية بألمانيا بلغ 830 ألف في العام 2012 بعد أن كان 720 ألف في العام السابق له، أي بزيادة قدرها 110 ألف ملياردير في سنة واحدة رغم الأزمة التي تلف العالم الرأسمالي”. والاتجاه في ارتفاع مستمر. ويؤكد ذلك ما يشار في الصحافة إلى ارتفاع في عدد المليارديرية والمليونيرية من جهة، وارتفاع مستمر في عدد الذين يقعون تحت خط الفقر المحدد لدول متقدمة مثل ألمانيا، وازدياد عدد الأطفال الذين يعانون من فقر عائلاتهم. فقد بلغت نسبة الفقراء في العام 2005 (14,7%) من مجموع السكان، وارتفعت هذه النسبة في الأعوام اللاحقة لتصل في العام 2017 إلى (15,7%)، أو ما يعادل 12,9 مليون نسمة في هذا العام. (راجع 2016 و2017(Zeit online. تعتبر العائلة الألمانية فقيرة حين يكون دخل المرأة أو الرجل مع طفل لا يزيد عن 970 يورو في الشهر، وعن 1097 يورو مع طفلين شهرياً، والفقير هو من يقل دخله الشهري 60% عن متوسط دخل الفرد. (ceco.de,Armutgrenze: (
** اتساع الفجوة في مستوى معيشة الفئات الاجتماعية, وارتفاع نسبة التضخم السنوية، ولكن بشكل خاص ارتفاع إيجارات السكن، بسبب المضاربات بالعقار ودور السكن، ونقص كبير ف عرض الشقق المخصصة للعائلات التي تستحق المساعدة الاجتماعية، وضعف الاستثمارات الحكومية والخاصة الموجهة لهذا الغرض. وهذه الزيادة تجهز على نسبة ارتفاع المدخولات لذوي الدخل المحدود مما يقلص من صافي الدخل المتحقق لهم ويسمح بتراجع مستوى معيشة هذه الفئات الفقيرة ومحدود الدخل من المجتمع. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع في عدد المشردين وبدون مأوى والمحتاجين إلى المساعدة الاجتماعية.
** ومع تقلص عدد العاطلين عن العمل خلال السنوات الأخيرة، إذ بلغت في نيسان/أبريل من العام 2017 نسبة قدرها 5,8%، إلا إنها ما تزال عالية بين الأجانب، وبشكل خاص بين القادمين الجدد الذين لا يجدون عملاً لهم، مما يدفع بالبعض الكثير منهم إلى بيع جسده في سوق العهر الألماني غير الرسمي. فأخر تقرير نشر في جريدة برلينر تسايتونگ يوم 09/10/2017 أشار إلى ما يلي:” من يتمشى في البارك الكبير لمنطقة تيرگارتن ببرلين سيصطدم بظاهرة غريبة صبية قاصرين وشباب من اللاجئين يبيعون جسدهم بين أشجار البارك لقاء نقود قليلة. وأغلب هؤلاء اللاجئين جاءوا من أفغانستان وباكستان وإيران”. (Berliner Zeitung, Nr. 235, Montag, 09.10.2017; S. 17)، علماً بأن هذه الظاهرة لا تقتصر في وجودها على برلين بل هناك تقارير تشير إلى انتشارها في محافظات ألمانية أخرى.
** ضعف سياسة الاندماج الاجتماعي للأجانب عموما ومنذ السبعينيات من القرن الماضي، ولم تتحسن كثيراً رغم النقد الموجه للحكومة بهذا الخصوص، ولكن وبشكل خاص أولئك الذين بدأوا يفدون إلى المانيا كلاجئين خلال الفترة 2015-2016 بسبب الحروب في الشرق الأوسط وغرب أسيا والأوضاع السيئة للكثير من المجتمعات في أفريقيا. وقد استقبلت ألمانيا مئات الآلاف من اللاجئين إليها خلال عامي 2015 و2016 بحيث عجزت أجهزة الإدارة تنظيم القادمين، وتوفير الظروف المناسبة لهم، مما أدى إلى ارتفاع مستوى التذمر في صفوف المجتمع واستخدم بنذالة من قبل القوى اليمينية واليمينية المتطرفة ضد السياسات الحكومية وضد الأجانب أيضاً.
** التراجع الشديد في معالجة المشكلات الاجتماعية المتزايدة بألمانيا بسبب غياب برنامج على صعيدي أوروبا وألمانيا لهذا الغرض، مما ساهم في بروز فجوة متسعة في مستوى المعيشة والامتيازات وفي المعالجة الطبية وفي التعليم ورياض الأطفال …الخ. وقد بدأت الصحافة تنشر معلومات غير قليلة عن غياب المساواة في مجالي التعليم والصحة ووجود مستويين متمايزين للأغنياء وللفقراء.
** ومن الجدير بالإشارة إلى إن الأحزاب المحافظة واليمينية، في محاولة منها لوقف تقدم القوى اليمينية المتطرفة، تحاول أن تنافسها، بل وتتجاوزها في بعض الأحيان، في طرح الشعارات اليمينية التي لا تضعف التوجه اليميني في المجتمع بل تعززه، ويستفيد منه اليمين المتطرف.
أما على صعيد الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني فأن الكثير من الدراسات والمقالات ومتابعتنا الشخصية لأوضاع هذا الحزب تؤكد تأثير عوامل مهمة تتسبب في ضعفه والتي يمكن بلورتها فيما يلي:
1. من حيث المبدأ لا يعتبر أي حزب سياسي هدفاً بذاته، بل هو وسيلة أو أداة لتحقيق أهداف الجماعة التي تشكل هذا الحزب أو ذاك، والتي بدورها تعبر أو تسعى للتعبير بهذا القدر أو ذاك عن مصالح فئة أو فئات اجتماعية بعينها. وبالتالي فالأحزاب كوسيلة لا تشيخ، بل بمرور السنين تتراكم لديها الخبرة والتجربة والدروس التي يمكن أن تنفع قيادات الأحزاب وأعضائها في وضع استراتيجياتها وتكتيكاتها. إلا إن من يشيخ في الأحزاب هي القيادات التي لا تتغير لسنوات طويلة ولا تتطعم باستمرار بدماء شابة جديدة ممتلئة حيوية ودفقاً جديداً وقادرة على تقديم مبادرات تسهم في تجديد وتوسيع وتطوير علاقة الأحزاب بالواقع وبالحداثة والمجتمع، ولاسيما الشباب من الذكور والإناث، وتحمل معها تطلعات الشباب وحاجاتهم، وتتخلص من خطابها القديم الذي ربما بلى وتخشب. وإذا حاولنا رؤية ما جرى ويجري في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني خلال العقود الثلاثة الأخيرة فيمكن القول بأن هذه القيادة لم تعرف التجديد الضروري في قوام القيادة وفي توزيع المسؤوليات في الحزب والبرلمان وفي المسؤوليات الحكومية على مستوى المركز والمحافظات، وبالتالي حافظ كبار السن على مواقعهم الأساسية ورفضوا بعناد التنازل عنها لمن هم من أصغر سناً منهم، دع عنك الشبيبة. وهذه المعاناة جعلت الحزب يبدو وكأنه قد شاخ فعلاً، في حين أن الشيخوخة قد شملت القيادة والكوادر وأساليب وأدوات العمل والخطاب السياسي.
2. والمسألة الأكثر تأثيراً على علاقة الحزب الديمقراطي الاجتماعي بأوساط الشعب وأصحاب الدخل المتوسط والمحدود وجمهرة المثقفين تبرز في تخلي الحزب عن عدد من المبادئ الأساسية التي التزمت بها أحزاب الأممية الثانية وميزتها عن الأحزاب البرجوازية بألمانيا وعموم أوروبا، رغم وجود تباين جوهري بين أحزاب الأممية الثانية في فترة تشكيلها ولسنوات طويلة لاحقة، وبين أحزاب الديمقراطية الاجتماعية للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ولاسيما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومساوماتها مع البرجوازية الكبيرة في بلدانها. وأبرز ما لوحظ على هذا الحزب بألمانيا هو تراجعه عن الدعوة الجادة والعمل الفعلي لصالح مبدأ العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة، والعمل على تحقيق المساواة بين المواطنين، وضعف دور المرأة في الحزب وقياداتها والمساواة بينها وبين الرجل في الكثير من جوانب الحياة ومنها الأجر مقابل العمل نفسه. يضاف إلى ذلك استمرار التمايز بين شرق ألمانيا وغربها رغم مرور 30 عاماً على قيام الوحدة الألمانية والذي يبرز في الرواتب التقاعدية ورواتب الموظفين وفي الأجور وبين المرأة والرجل في غير صالح شرق ألمانيا، وكذلك في بطء تطور الشرق مما يؤدي إلى انتقال الكثير من الشبيبة إلى غرب ألمانيا لنقص في فرص العمل وارتفاع حجم البطالة.
3. كما برز بوضوح ضعف اهتمام الحزب الديمقراطي الاجتماعي بالمشكلات الاجتماعية التي تواجه المواطن والمواطنة بألمانيا وعلى المستوى الأوروبي، وضعف برنامجه في هذا المجال، وبشكل خاص بالنسبة للطبقة العاملة صغار المنتجين وأصحاب المحلات الفردية والفئات الأكثر فقراً في المجتمع. وبهذا ترك الحزب هذه الفئات تواجه استغلال متفاقم من جانب كبار الرأسماليين والاحتكارات الرأسمالية المحلية والدولية، ومضاعفة أرباحها، في حين تعاني الفئات الفقيرة من شظف العيش وتراجع مكاسبها الاجتماعية.
4. وفي فترة التحالف بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر برئاسة المستشار گيرهارد شرودر مستشاراً لألمانيا نفذ ما أطلق عليه بـ “اجندا 2010” التي اعتبرت عملية إصلاح النظام الاجتماعي وسوق العمل بألمانيا والذي ألحق اضراراً فادحة بالفئات الفقيرة والعاملة وذوي الدخل المحدود …الخ والتي رفضت من أغلب سكان المانيا ورحبت به الفئات المالكة لوسائل الإنتاج والاحتكارات الكبيرة، وكانت له عواقب سلبية على سمعة وشعبية الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر في آن.
5. إن التحالف بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني والحزبين الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي منذ العام 2005، والذي استمر حتى انتخابات عام 2017، قد أضعف تأثير الحزب في سياسة الدولة الألمانية وأضعف مصداقيته لدى أوساط الشعب الألماني، وبالتالي كانت النتيجة رفض المجتمع لمثل هذا التحالف بين الحزبين الكبيرين الديمقراطي الاجتماعي والديمقراطي المسيحي المتحالف مع الحزب الاجتماعي المسيحي، من خلال تراجع القوة التصويتية لهذه الأحزاب في الدورة الانتخابية لعام 2017.
6. إن هذه الحقائق تؤكد بأن الحزب الديمقراطي الاجتماعي قد خضع لقوى الجناح اليميني في الحزب والمجتمع في صياغة أهدافه وشعاراته وفي ممارساته اليومية، مما أضعف القوى اليسارية فيه وفي المجتمع، وتجلى ذلك في استعداده للمساومة والموافقة على الكثير من سياسات الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي التي لم تحظ بتأييد المجتمع وكانت سلبية، سواء أكان ذلك في موضوع الحد الأدنى للأجر، أم بصدد نسبة الضرائب التي يفترض أن تفرض على كبار الشركات الرأسمالية الاحتكارية وكبار الرأسماليين، أم بصدد زيادة الراتب التقاعدي للمتقاعدين وتحول الكثير منهم إلى حالة الفقر رغم عملهم الشاق لعقود عديدة، أو الموقف من تصدير المزيد من الأسلحة إلى الدول النامية ومناطق النزاع الساخنة وإلى النظم الرجعية والمعادية للديمقراطية … الخ.
7. ورغم بروز فرصة تشكيل تحالف سياسي بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب اليسار وحزب الخضر لتشكيل الحكومة الاتحادية في ضوء نتائج انتخابات سنة 2013، رفض الحزب الديمقراطي الاجتماعي تشكيل الحكومة، ودخل في تحالف مع الحزبين المسيحيين، مما أفقد المجتمع الألماني فرصة تحقيق التغيير النسبي المنشود في السياسات الألمانية على الصعد المحلية الأوروبية والدولية. وقد عوقب هذا الحزب في العام 2017 بتراجع نسبة المصوتين له وبخسارة أكثر من خمس نقاط، في حين ارتفع رصيد حزب اليسار وحزب الخضر وعدد المصوتين لهما نسبياً.
من هنا يمكن القول بأن الحزب الديمقراطي الاجتماعي لم يشخ، بل الشيخوخة شملت قيادته التي عشقت الكراسي على حساب مصالح المجتمع، ولاسيما الفقراء منهم، وتخليه عن الجوهري من المبادئ الاشتراكية ولاسيما العدالة الاجتماعية وفي تخشب خطابه السياسي والاجتماعي. ومن هنا حاول رئيس الحزب الجديد مارتين شولتزMartin Schulz ، الذي ورث القيادة من قائد الحزب اليميني سيغموند غابريل، أن يعيد الاعتبار لشعار الحزب المركزي “العدالة الاجتماعية” نظرياً، ولكنه أصبح رئيساً للحزب في وقت قصير قبل الانتخابات ولم يتسن له بلورة وطرح برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي متكامل يُظهر فيه الفوارق بين أهداف وسياسات حزبه الديمقراطي الاجتماعي وبين أهداف وسياسات اتحاد الحزبين المسيحيين المحافظ. كما بدأ بمحاولة تغيير في قيادة الحزب بعد ظهور نتائج الانتخابات مباشرة حين وضع وزيرة العمل السابقة ونائبة رئيس الحزب اندريا ناليس Anderea Nahles رئيسة للكتلة البرلمانية الاتحادية للحزب في البرلمان الاتحادي الألماني، وهي السيدة التي تقود الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وبالتالي فهو بذلك أعطى دفعة أولي جديدة نحو اليسار، إذ ربما يتبلور بشكل أفضل في مؤتمر الحزب القادم. ولا بد من الإشارة بأنها ولأول مرة في تاريخ هذا الحزب تنتخب امرأة لقيادة الكتلة البرلمانية الديمقراطية الاجتماعية في البرلمان الاتحادي منذ تأسيس الدولة الألمانية الاتحادية عام 1949.
وفي ضوء نتائج الانتخابات ومن أجل بذل محاولة استعادة الحزب الديمقراطي الاجتماعي لتوازنه وعلاقته بالمجتمع والطبقة العاملة والفئات المتوسطة والفقيرة من خلال تأكيد جوهر مبادئه الاشتراكية والسعي لاستعادة تأييد مزيد من بنات وأبناء الشعب الألماني له باعتباره حزب شعبي، ومن أجل تمييز نفسه عن الاتحاد المسيحي الديمقراطي، رفض الحزب المشاركة في الحكم التي جلبت للحزب والمجتمع الكثير من المشكلات، في تحالف مع الاتحاد المسيحي، وقرر البقاء في المعارضة إلى جانب حزب اليسار. وتحاول السيدة ميركل تأليف حكومة جديدة تتشكل من أربعة أحزاب هي الديمقراطي المسيحي والاجتماعي المسيحي والديمقراطي الألماني الحر (اللبرالي) وحزب الخضر. ويطلق على هكذا تشكيلة بتحالف جامايكا لأنه ألوان هذه الأحزاب هي الألوان التي يتشكل منها علم جامايكا: أسود وأصفر وأخضر. وسوف لمن يكون سهلاً تشكيل مثل هذه الحكومة، وستبذل الكثير من الجهود والمساومات المتابدلة لتشكيلها إذ بدون ذلك لا بد من إجراء انتخابات جديدة، إذ أعلن الحزب الديمقراطي الاجتماعية المشاركة مع الاتحاد المسيحي في تشكيل الحكومة بأي حال من الأحوال.
ومن الممكن ان يبدأ تعاون جديد بين القوى اليسارية بألمانيا بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي والحزب اليساري لا في مواجهة الحكومة الجديدة من تحالف القوى المحافظة بشكل عام، بل وبمواجهة حزب البديل لألمانيا، وهو حزب يميني متطرف معادٍ للأجانب وضد قبول اللاجئين بألمانيا وشعاره “ألمانيا للألمان: وضد “أسلمة المانيا!”، وهو حزب شديد المحافظة ويجد التأييد من النازيين الجدد والقوى اليمينية المتطرفة المماثلة له، ومن تلك الحركة بگيدا ( PEGIDA) (Patriotische Europäer gegen die Islamisierung des Abendlandes) (مواطنو أوروبا ضد اسلمة الغرب) التي رفضت قبول اللاجئين بألمانيا وتظاهرت على مدى ثلاث سنوات ضد الأجانب. وقد حصل حزب البديل لألمانيا على عدد كبير من الأصوات أخذها من المصوتين السابقين لبقية الأحزاب باعتباره حزبا احتجاجيا ويمينياً متطرفاً، وحصل على أصوات بشكل خاص من اتحاد الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاجتماعي المسيحي، ولكنه انتزع أيضاً جمهرة كبيرة من مؤيدي الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر وحزب اليسار.
إن الفترة التي سيكون الحزب الديمقراطية الاجتماعي فيها في المعارضة سيبرز ما إذا كان قادراً على تجديد قيادته وتحديث أهدافه وسياساته والدفع باتجاه اليسار لمقاومة الدفع بالاتجاه الميني الذي سيحكم الحكومة الاتحادية القادمة ونشاط القوى اليمينية المتطرفة.
10/10/2017

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here