لغتنا والمجتمع العربي القديم !

بقلم د. رضا العطار

خدمت اللغة العربية مجتمعين عربيين : اولهما المجتمع البدائي حين كان العرب قبائل يرحلون وينتجعون، وقد ورثنا نحن من هذا الطور آلاف الكلمات عن الصحاري والأبل والخيل والغزو والخيام. لكننا لم نرث شيئا من هذا الطور يتعلق بالزراعة او الصناعة او ادارة الدولة ثم خدمت اللغة مجتمعا عربيا آخر، هو المجتمع الحضري. واذا قلنا (المجتمع الحضري) فاننا نعني مجتمع بغداد.

انها كانت حقا بؤرة الثقافة العربية نحو اربعة قرون. وكانت مصر وسوريا والمغرب والأندلس والحجاز تستوحيها وتستمد منها. بينما لم ننتفع بالمجتمع العربي البدائي من تراثه اللغوي. اما المجتمع الثاني فهو رأس المال الذي نستغله ونرجع اليه ونستمد منه.
ولغتنا ما زالت هي لغته بكلماتها ومعانيها مع تغيير بسيط في بعضها وزيادات في بعضها الاخر. وقد خدمت اللغة هذا المجتمع الخدمة الصادقة ولهذا السبب نفسه اي لصدق الخدمة التي قامت بها اللغة للمجتمع العربي ايام الامويين والعباسيين، قد حملت كلماتها الينا جوا غريبا عنا. ونحن نشعر بهذه الغرابة حين نحاول وصف مجتمعنا ونبحث عن الكلمة (الجوية) التي تؤدي معنى نحتاج اليه في السوق والبورصة والمصنع والمكتب وفي المداولات السياسية والحقوق المدنية والعلوم المادية … الخ، حملت الينا عادات ذهنية ما زلنا نستضر بها، لانها لم تعد تتفق وحياتنا العصرية واليك شرحا موجزا:

كان المجتمع العربي ارستقراطيا يعيش بكد العامل، او بكد العبيد. كما كان الشأن في اوربا فترة القرون الوسطى. وكان لذلك يحتقر العمل اليدوي. وكانت الطبقة المتوسطة معدومة. ولذلك لا نستغرب اقتراح احد الأدباء زمن العباسيين بألاّ تباع الزهور للسوقة من الناس، لان هذه الزهور اجل من ان تتناوله يد العامل الخسيس، ولا نستغرب ايضا ان يكون اوفى الكتب الادبية التي نعتمد عليها في تفهم المجتمع العربي القديم هو كتاب
( الاغاني ) وفصوله هي مجالس الاثرياء والخلفاء مع المغنين والمغنيات وسط الجواري والغلمان. واسم الكتاب وموضوعه يدلان على ارستقراطية الادب الذي نشأ لخدمة المجتمع العربي الارستقراطي، ثم ارستقراطية اللغة العربية التي تعبر عنه.

ومجتمعنا الان ديمقراطي او نحن نحاول ان نجعله كذلك، وننشد الديمقراطية في الحكومة والعائلة والمدرسة، ولكن التراث اللغوي الارستقراطي الذي ورثناه من العباسيين لا يساعدنا على ذلك. ضف الى ذلك ان هذا المجتمع كان انذاك مجتمعا حربيا. فان الصراع بين الدولة الرومانية والدولة العربية احال اللغة الى خدمة الحرب فزكت الخطابة والشعر، خطابة الحرب وشعر المعارك، وكثرت كلمات العاطفة والانفعال
( الكلمات الذاتية ) لان المجتمع العربي كان معسكرا يحتاج رجاله الى ما يملأ قلوبهم حماسة. وقد ورثنا هذا التراث، مع ان مجتمعنا مجتمع مسالم يحتاج الى كلمات السلم وليس الى كلمات الحرب.

كان المجتمع العربي القديم يعيش في ظل حكومات فردية، لم تعرف قط معنى البرلمان او المجلس البلدي. ولذلك نحن نحمل عبء الكلمات العربية التي خدمت هذا المجتمع الاستبدادي. ونحاول تحميلها المعاني الديمقراطية الجديدة او نصنع الكلمات الجديدة مثل (برلمان) لكي تؤدي معنى لم تعرفه الثقافة العربية القديمة.
ولم يكن المجتمع العربي القديم يعيش على المعارف والمنطق الا في اقّله. وكان يعيش على العقائد والغيبيات في اكثره. ولذلك يشق علينا في مجتمعنا ان نؤدي المعاني للمعارف المادية. لان لغتنا حافلة بكلمات الغيبيات والخرافات والعقائد البالية دون كلمات العلوم الحديثة.

والنتيجة لهذه الحالة اننا نجد صعوبات لغوية خطيرة كلما حاولنا معالجة المعارف العصرية، لان لغتنا قضت شبابها وهي تلابس مجتمعا ارستقراطيا حربيا عقيديا بجميع مصادرها اللونية التي تعبر عن حاجات هذا المجتمع، فكانت لغة الخطابة والشعر هي لغة اللهو والمجون، لغة الاغاني بمختلف اشكالها، لغة المعارك والقتال.
لكننا نحن نختلف عن العباسيين والامويين من حيث ان حضارتنا قد صارت تنشد الديمقراطية وتنهض على الصناعة وتعتمد على المعارف والماديات دون العقائد والغيبيات، ومن هنا صارت البلاغة القديمة بلاغة الارادة، تعبر عن شهوات ورغبات وليست بلاغة المنطق التي تعبر عن العقل والذكاء. كما حفلت اللغة برواسب من الكلمات التي لا ننتفع بل نستضر بها كلما حاولنا تحريك المجتمع، من حيث ان تحريكه يعود علينا بالتعكير.
*مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here