حواس الحيوان ومحدودية عقله! ح 11 (*)

56
حواس الحيوان ومحدودية عقله! ح 11 (*)
بقلم د. رضا العطار

الدماغ والحواس كلاهما نشأ لتدبير مصلحة الكائن الحي. والحواس تتفاوت في الدقة، كما ان بعض البهائم يعتمد على احدى حواسه دون الأخرى، التي يعتمد عليها غيره. والدماغ والحواس كلاهما اداة للعقل والغريزة. والعالم الحيواني ينقسم الى شطرين، بعضه جل اعتماده على غريزته كما في الحشرات. وبعضه على العقل كما عند الانسان. لكن اعمال الغريزة والعقل تتداخل في معظم الحالات، فطفلنا يرضع امه بغريزته.

وعلى وجه العموم، يمكن القول ان الدماغ الصغير هو دماغ الغريزة والدماغ الكبيرهو دماغ العقل ، وهذا هو ما يمكن استنتاجه بالاستقراء. فكلما زاد جرم الدماغ اتجهت اعماله نحو الرؤية والتدبير. فأدمغة الحشرات والقشريات والعناكب تبدو غاية في الصغر ولذلك يبدو من اعمالها انها غريزية. اما حجم دماغ الاسماك فيندرج بالكبر عبر البرمائيات ثم في الزواحف ثم في الطيور ثم في اللبونات الى ان يبلغ اكبره في القردة العليا ويبلغ ذروته في الانسان.

فالبحث في تطور الحواس الخمس ودقتها وتركزها في الحيوان هو السبيل الى معرفة تطور الدماغ، فالحواس هي بمثابة النوافذ التي يطل منها العقل على العالم الخارجي فهي وسيلة التعارف بين الحي ووسطه. ويمكننا ان نتصور ان الحواس الخمسة كانت موجودة في الخلية الاولى بشكل مبهم مثلما يمكننا ان نتصور ان الاثر الذهني الذي يحصل لنا عندما ننظر في نقطة مضيئة ثم نغمض العين فتبقى صورته في اذهاننا مدة ثانيتين واكثر، وهذا هو اول الذاكرة التي هي اصل العقل والغريزة.

لقد ابتدأ ظهور الحواس على سطح الجسم ولا يزال منها ثلاث على اجسامنا وهي اللمس والنظر والسمع ولكن يجب الاّ ننسى ان حاسة الذوق نشأت بداية على سطح الجسم. ولا يزال بعض الاسماك يذوق الاشياء بسطحه والفم هو جزء من البشرة ينمو معها.
ونجد الدليل في سمك القرش، فان تركيب اسنانه هو نفسه تركيب حراشفه التي تنشأ على بشرته الخارجية، اي ان فمه ليس سوى امتداد بشرته الى داخله.

ان الصور الذهنية التي تنشأ عن بعض الحواس تكون دون تلك التي تنشأ عن بعض الحواس الاخرى في مقدار تصوير العالم الخارجي على ما يشبه حقيقته. فالعين مثلا ترى العالم الخارجي بأدق واوسع مما يصوره الأنف، وكذلك الأنف تصوره اكثر مما يصوره اللمس ولذلك نجد الحيوانات التي دق سمعها، ارتفعت عيونها مثل الانسان.
واول ما نرى دلائل العقل واضحة في السمكة، عندما نراها تحاور الشص وبعضها يتوقاه. وكذلك، عندما يدافع بعض ذكر السمك عن بيوض الانثى لئلا تُفترس من قبل الكائنات المائية الاخرى، عيون السمك لا تغمض، واذنان يسمع بهما، بدليل انه يمكن تعويده الحضور للطعام بدق جرس. لكن وظيفة الاذن في السمك ايضا تتصل بمهمة التوازن في السباحة.

ويلي السمك – في كبر الدماغ – البرمائيات كالضفدع وهي تجيد النظر بدليل ان لسانها يخطف الذبابة فلا تخطئ. يمكنها ان تميز بين اللون الاحمر والابيض مستشعرة بالضوء عن طريق جلدها.
والزواحف كالثعابين والسلاحف اكبر دماغا وادق حواسا. اذ هي يمكن تدجينها حتى تميز صاحبها من غيره من الناس وتلبّي نداءه. وهي تخرج الى مسافات بعيدة وتعود الى عشها فتهتدي بذاكرتها مع التواء الطريق وتشعباتها، وكلنا يعلم ان الثعبان يلتذ الموسيقى والغناء وهذا برهان على دقة حاسة السمع عند الزواحف.

وتليها الطيور وهي تتفاوت في حجم الدماغ ودقة النظر واهم حواس الطيور هي عيونها التي تشرف بها على الارض حتى النسر لا يهتدي الى الجيفة بأنفه بل بعينيه التلسكوبيتين. وهي تجيد السمع بدليل استحسانها الغناء من ذكورها. والغناء عند بعضها سبيل الذكر الى الانثى ولكنها مع ذلك سيئة الذوق. فالدجاجة تبلع حبة الذرة من غير ان تذوقها. اما في الغراب والببغاء والصقر والعقاب ادمغة كبيرة. ولذلك تسير كلها سيرة العقل المشوب بأدنى غريزة في حين ان حجم الدماغ في الحمام في منتهى الصغر فهو يتحرك بغريزة ظاهرة. وتلي الطيور في الرقي الذهني اللبونات، ويمكن ان يقال على وجه الاجمال انها ارقى من الطيور فدماغها اكبر وقبولها للتعليم والتجائها الى الحيل دليل الرقي في عقلها.

وفي الفقرة التالية يعالج داروين شيخ نظرية التطور موضوع القوى العقلية في الانسان بمثلها في الحيوان اذ يقول ( لا شك في ان الفرق بيننا وبين الحيوان الراقي فرق عظيم، حتى لواستئنسنا القرد ودجناه واصبح اذكى وارقى من بني نوعه، ثم قارناه مع الرجل البدائي المتوحش، يبقى هذا الفرق بينهما عظيما جدا. بينما لو سمحنا للفوجيين وهم احط الهمج من المتوحشين ان يعيشوا بين المتحضرين زمنا معينا، لتعلموا منهم النظر الى الاشياء نظرة مقبولة ولكن مع ذلك يمكننا ان نبين ان الاختلاف بين العقل الانساني والحيواني غير اساسي كما نتوهم )

ثم يجب ان نذكر ان الفرق بين احط السمك واعلى القردة في القوى العقلية اكبر واعظم من الفرق بين القرد والانسان. وهذا الفرق بين السمك والقرد يتدرج في درجات لا يكاد يميزها الانسان لدقتها، كما يتدرج الفرق بين الهمجي المتوحش الذي يقتل ابنه لأنه اسقط سلة الطعام من يديه، وبين رجل مثل نيوتن وشكسبير.

واول ما يلفت نظر الباحث هو مشابهة غرائزنا لغرائز الحيوانات. فالذكر منا يحب الأنثى والأم تحب اطفالها وصغار الحيوان تلعب مثل صغارنا، والخوف يفعل بالحيوان مثل ما يفعل بنا فيقف شعره وترتخي عضلاته ويرتجف جسمه. والحيوان يحقد ويلذ له الانتقام مثلنا وقد شوهد ان اناث القردة تموت جوعا عند فقدان اطفالها وان الكلب يلحس صاحبه وهو يضربه مما يدل مافيه من قوة عاطفة الولاء. واناث القردة تتبنى اليتامى من نوعها وترضعها وترعاها كما انها تشعر بالحياء والتواضع. الى جانب ذلك انها تكره من يهزأ بها ويضحك عليها، انها تمرح وتتلذذ بالمزاح. والكلب الكبير يهزأ بنباح الكلاب الصغيرة وكأنه يترفع عن قتالها.

والحيوانات تتعجب من الاشياء الغريبة وتتطلع اليها. فبعض الصيادين يلعبون امام الغزلان العابا غريبة تستوقف انظارها، فيصيدونها وهي لاهية بالتطلع اليهم، والقردة تخاف الأفاعي ولكن غريزة الاستطلاع يدفعها الى الدنو من صندوق الافاعي فتفتح غطائه وهي ترتجف خوفا، تطل عليها وتهرب. والكلب يتذكر صاحبه بعد غياب السنين والتصور وهو تخيل الاشياء الغائبة موجودة عند الحيوان بدليل انها تحلم، والكلب عند الصياح بين النباح والأنين في ظلمة الليل يتخيل اشياء تثير اشجانه.

والعلماء يعتقدون ان الحيوانات العليا تعقل وقد ظهر ان الافعال التي يأتي بها الحيوان انما هي نتيجة التقليد العقلي. فالفيل اذا اراد شيئا لا يصله خرطومه، نفخ في الهواء بمكان ابعد من الشئ فيدفع تيار الهواء الشئ اليه فيتناوله. والدب وهو في حوض ماء اذا رأى لقمة الطعام بعيدة عنه احدث تيارا بيده في الماء فتصل اليه اللقمة.

واما عن الترقي فمعناه الانتفاع من الاختبارات الشخصية. والحيوانات تنتفع من التجارب التي مرت عليها. فالقردة المسنة لا تقع في الفخاخ بالسهولة التي بها صغارها. لذا يغير الصياد مواقع الصيد بأستمرار. والقرد يحتمي بغطاء عندما يعرف بأنه سيضرب واما الفيل فيقطع غصن من الشجر، ليكش عن نفسه الذباب.

اما عن اللغة فالقردة تتفاهم باصوات محدودة. والببغاء تسمي الاشياء بالمسميات. ويجب ان نعلم ان اللغة صناعة نتعلمها تعلما فهي ليست ميزة طبيعية للأنسان، حتى الطيور تتعلم اغاني بني جنسها وتعلمها لأولادها. والحيوان يقدر الجمال مثل الانسان فالذكور من الطيور تتبختر وتتطوس للأناث وقت التلاقح حتى تنتخب الانثى الذي هو الأكثر جاذبية، وبعض الذكر من الطيور يزين عشه بالأصداف الملونة البراقة وهو يتلصص وراء الطيور ليخطف منها جملة ريشات زاهية، يغري الأناث بها، والحاصل انه ليست ثمة فرق نوعي بين الانسان والحيوان في القوى العقلية، انما الفرق في الدرجة.
الحلقة التالية في الاسبوع القادم!
* مقتبس من كتاب نظرية التطور واصل الانسان لسلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here