جلال الطالباني.. وغرائب العراق!

رشيد الخيّون

لا أظن أن بلداً حصل به مثلما حصل بالعراق، في رحيل الرئيس جلال الطالباني، بعد إعلان نبأ الوفاة (3/10/2017) بدأ الاختلاف على هوية الراحل، هل هو عراقي أم كردستاني؟! وهل يُشيع ببغداد عاصمة البلاد، أم بكردستان؟! وبأي عَلَم تغطى الجنازة، عَلم العراق، وهو رئيسه، أم علم الإقليم الطامح للطلاق؟! وبالتالي ليس في الذهن أن يكون رئيس الجمهورية الكردي عراقياً؟ كان المشهد غرائبياً لم يحصل لا في زمن الإمبراطوريات ولا في عصر الطوائف، وقد عكس أرذل حالة تصلها البلاد، أن لا تتفق على تشييع رئيس منتخب من قِبل المختلفين عليه بعد موته، وعلى هذا تُقاس فداحة الخطب، فحتى الأموات لا يعتقهم نظام المحاصصة!

رحلَ معظم ملوك ورؤساء العراق قتلاً، وجلال أحد المحظوظين القلائل كونه «مات حتف أنفه»، وهم جلال وثلاثة: فيصل الأول (1933)، وأحمد حسن البكر (ت 1982)، وعبد الرحمن عارف (ت 2007)، ويشك في نهاية الأول والثاني على أنها بتدبير، أما الثالث فالوحيد مِن بين فاقدي المنصب بانقلاب، ونجا من سيوف الانقلابيين (1968).

أما الآخرون فذهبوا بين قتيل ومغتال: غازي بن فيصل (1939) فتك به عمود كهرباء، وفيصل بن غازي (1958) مضى قتيلاً، وسمعنا أنه كان مباركاً لعدم التمثيل بجثمانه، وقُتل عبد الكريم قاسم (1963) بمحكمة صورية، ظل المنفذون يتباهون بعد التهم، ثم لقي عبد السلام عارف (1966) مصرعه بسقوط مروحية، وبقتله فُسح المجال للانقلاب ضد أخيه، فبوجوده المجال كان مقفلاً أمام «ثوار» 17/7/1968. أما صدام حسين فقد أوضحت طريقة إعدامه (2006)، وهتافات الانتقام، إلى أين العراق يسير!

أنقل قصتنا ونحن طلبة في الأول المتوسط، مع مقتل أحد رؤسائنا، فبعد أن فُقدت طائرته، اعتُقد أنها سقطت بين أغوار البردي والقصب جنوب العراق، وكان الفيضان السّنوي في بدايته، فطُلب مِنا أن نأتي بزوارقنا، كي نشارك في البحث عن الرِّئيس عبد السلام، فلما أمرنا مديرنا بالتحرك، جثا أحد زملائنا على ركبتيه يضحك غير مصدق، بأنه مثلما يُكلف بالبحث عن الرئيس الذي نسمع بأخباره عبر الراديو. والرئيس آنذاك ليس كرئاسة جلال، الذي تركه الدستور رسماً، فكانت تُهمة «سب الرئيس»، وقبله «سب الزَّعيم»، تؤدي إلى السجن!

وضع جلال أمامه المفارقة، أن يكون رئيس البلاد ولا يحكمها، فما بيده سوى إلقاء الخُطبة والاستقبال والتوديع، لذا باغت العراقيين بسلاح الطرائف ضد نفسه، كي لا يبدؤونه بها، مواطنوه الذين خرجوا تواً من عقوبة تتراوح بين السجن والإعدام لمن يرمي الرئيس بطُرفة، والعقوبة تشمل الضَّاحكين!

يقول «الأفوه الأودي» (نحو 570م) في إدارة السياسة، إذا غلب الفساد على البلاد والعِباد، مثل حال العراق اليوم: «فينا مَعاشِرُ لم يبنُوا لقومهمِ/ وإن بنى قُومهم ما أفسدوا عادوا/ لا يُصلح النَّاسُ فوضى لا سَراةَ لهم/ ولا سَراةَ إذا جُهَّالهم سادوا» (القالي، كتاب الأمالي).

وكان الطالباني الأفضل بغياب السراةِ، محيط العراق يقبله، وداخله يرضى بتوسطه لحل الأزمات، تجده فقيهاً بين الفقهاء وأديباً بين الأُدباء، وهو الحقوقي، والعراقيات يرجونه لحماية حقوقهن من الأحزاب المتربصة بهن، وكرديته لم تمنع حرصه على العربية، حتى قيل في إحدى مؤتمرات القِمة للفكاهة: إنه «الرئيس العربي الوحيد»، عندما نبَّه، ملاطفاً، لخطأ نحوي.

ومن غرائب المترصدين أنهم جعلوا وفاة الطالباني مناسبة لإثارة ما كان من خصومات حزبية في زمن المعارضة، فأصبحت جنازته مثار اختلاف، حتى نُسي للمتوفى أنه كان رئيساً للجمهورية، بعد أن قاتل وتآمر ولعب بالسياسة طويلاً، ضمن ما تفرضه طباع المعارضة، فعقب الرئاسة مد يد العون لخصومه السابقين، وحمى مطاردين بالاغتيال مِن قِبل تنظيمات الموت، وأتى بالمقصيين، في العهد السابق واللاحق، مِن مثقفين ليكونوا بالقرب منه.

لي مثل غيري تحفظات، على السياسي المعارض جلال، لكن هل الآخرين، من المعارضين والحاكمين، كانوا رهباناً؟! كان وجهاً مدنياً لدولة تتقافز على مقدراتها اللّحى والعمائم، محاولاً ترويض الطائفيين، فعندما قال إسلامي شيعي بشأن الموصل: «نعمل معاً لامتداد إقليم كردستان ليضم نينوى فهم أعداء لنا»، رد عليه: «إننا سنة أيضاً». وقبلها سمعته، من فضائية، راداً على إسلامي سُني يرى «القاعدة» مقاومة: «ونحن سُنَّة غير ملزمين بهذا الشُّعور»!

نكتبُ في رحيله المتزامن مع الاستفتاء بالشمال ومآتم الحُسين بالوسط والجنوب، وهؤلاء يقولون: «نحن البيشمركه»، وأولئك: «نحن أولاد حسين»!

يبهرنا، ونحن نعيش التعصب القومي المحاط برائحة الموت، أن يكون كردياً راويةً لآخر أفخم شعراء العربية وأجزلهم: «وحسبُ شعري فخراً أن يحوز على/ راوٍ كمثلك ندب ملهمٌ فطنُ» (الجواهري، الديوان)، ومطلعها: «شوقاً جلال كشوق العين للوسنِ/ كشوقِ ناءٍ غريب الدَّار للوطنِ». إنها غرائب العراق وحده، أن يضيع نعش الرئيس في أزمة قُماشة العَلم.
الاتحاد الإماراتية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here