لغتنا والمجتمع العربي المعاصر !

(*)، د. رضا العطار

ان اختلاف البيئة والمجتمع والتاريخ والجغرافيا، يغير معاني الكلمات التي نستعملها. واعتقد اننا سواء في فهم معانيها. فعبارة – سلطة الدولة – تعني معاني مختلفة في الهند والولايات المتحدة والمانيا وروسيا واليمن و في العراق. وهذا الاختلاف الذي ينشأ من الجغرافيا يقابله اختلاف آخر ينشأ من التاريخ، ومن هنا تأتي الصعوبة في فهم الكتب الدينية القديمة.

كانت للكلمات المستعملة قبل الف سنة مثلا ملابسات لا نجد مثلها في عصرنا. بل كذلك كتب التاريخ , فان المؤلفين يلتفتون الى معان لم نعد نحن نلتفت اليها, لان اللغة الحية تتفاعل مع المجتمع وتتغير بتغيره. اما اذا كانت لغة خاصة بالكهنة تتلى فقط في المعابد, فالتفاعل ينعدم والكلمات عندئذ تتحجر. اي تحتفظ بمعانيها على مر المئات او الالوف من السنين. ومثل هذه اللغة تعد في القيمة الاجتماعية صفرا.

فاللغة الحية تتفاعل مع المجتمع، ترتقي بأرتقائه وتنحط بأنحطاطه، اي انها تتطور. وهي حين تتطور ينشأ بينها وبين المجتمع اتصال فسيولوجي ووظائف عضوية, كما بين الذهن واليد. فكلاهما يخدم الاخر وينتفع به. ولهذا السبب يجب الاّ يكون للمجتمع لغتان, احداهما كلامية اي عامية والاخرى مكتوبة اي فصحى، كما هي حالنا الان في العراق وسائر الاقطار العربية.

واللغة الحية هي الجهاز العصبي للمجتمع. او الشبكة التلفونية التي يتخاطب ويتفاهم بها افراده. فإذا عجزت عن تأدية هذا التخاطب والتفاهم فهي خرساء. اي بمثابة الشبكة التلفونية المقطوعة او التالفة، يجب الاسراع في ترميمها. وقد عرفنا هذا الخرس في كثير من شؤوننا الثقافية. فان المسرح مثلا لم يرتق لاننا لم نستطع تأليف الحوار باللغة الفصحى بين اشخاص الدرامة، لأن الكلمة الفصحى ليست – جوّية – اي انها لا تنقل الينا جو الحديث. لاننا الفنا ان يكون الحديث باللغة العامية. فترجمته الى اللغة الفصحى يصدمنا. ويشعرنا بان هذه الكلمة ليست في مكانها اي ليست في جوها الاجتماعي.

ولغتنا خرساء لاننا جعلناها مثل لغة الكهان جامدة لا تتغير, وكانت نتيجة هذا ان في العالم مئات العلوم والفنون لا تنطق لغتنا العربية الا في جزء منها . وخرساء في سائرها . فاللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية وغيرها لغات ناطقة في المعارف العصرية في حين ان لغتنا ناطقة في جزء منها. وما دمنا قد اقتصرنا على لغتنا, فاننا نجتاج الى درس احدى هذه اللغات كي يكون في مقدورنا الالتحاق بالركب الحضاري في مضمار الثقافة العالمية.

فالتفاعل القائم الان بين لغتنا ومجتمعنا, ليس تفاعلا صحيحا, فان هناك انفصال يحول دون ايجاد الدورة اللغوية كاملة به . ولذلك حدث المرض من هذا الانفصال, وهو الجهل لعدد كبير من العلوم والفنون لا يمكن ان نعرفها ونلم بها الا اذا عرفنا لغة عالمية معرفة جيدة . ثم ان هناك اعتبار اخر يجب ان نلتفت اليه وهو اننا ورثنا كلمات كانت قبل الف سنة تعبّر عن حاجات المجتمع العربي في بغداد او في القاهرة او في دمشق. وهذا المجتمع كان مجتمعا اتوقراطيا استقراطيا . فورثنا كلمات اتوقراطية استقراطية. مع اننا نحاول ان نكون مجتمعا ديمقراطيا.

اننا نتاثر بهذه الكلمات ونستضر بها لانها توجهنا الى وجهة هي ليست في صالحنا . فانظر مثلا الى ايحاء كلمة وزير عندنا في البلاد العربية , بجانب ايحاء كلمة سكرتير في بريطانيا او في الولايات المتحدة . انظر الى ايحاء عبارة – صاحب الدولة – و
– صاحب السعادة – و – صاحب العزة – فانها جميعا عبارات تفتت العقائد الديمقراطية الني تقول بالمساوات الاجتماعية . او انظر الى كلمة – حضرة – التي لا يمكن ترجمتها الى اية لغة اوربية ( ولكن يمكن ترجمتها الى اللغة الصينية القديمة ) .

ثم انظر الى ما ورثنا من المجتمع العربي القديم بشأن المرأة . فقد الغى هذا المجتمع المرأة من الحياة الاجتماعية الغاء يكاد يكون تاما. اما نحن فقد – رددنا الاعتبار – للمرأة العراقية لكننا ما زلنا نقول ( ام فلان ) او ( مرة فلان ) ولا نذكر الاسم في الوقت الذي يكون الاسم جزء من شخصية المرأة واهماله هو سبّة للمرأة. الا ترى كيف ان احدنا يغتاظ اذا اخطأ احد في ذكر اسم وقال علي حسين بدلا من حسين علي ؟ وهذا لان كل منا يحس ان اسمه من كرامته وهو بعض شخصيته. واهمالنا لاسم المرأة هو تراث لغوي قديم يحمل الينا عقيدة اجتماعية يجب ان نكافحها. فنجمع بين المجتمع ولغته
ونجعل اللغة ديمقراطية و اذا شئنا ان نكون مجتمعا ديمقراطيين.

وفي اللغات القديمة متحجرات من الكلمات التي لا تجري على لسان او قلم . ولكن المعاجم تحتفظ بها للدراسة. فاذا عمد كاتب الى استخراجها وبعث الحياة فيها , فانه لن يصل من هذا المجهود الا الى تكليف المجتمع بما لا ينتفع به . فالانسان القديم كان يعتقد ان عالمه حافل بالالهة والارواح الطاهرة والنجسة, فهي بالنسبة اليه منبع الخير والشر, وكأنه ينشد حظه في النجوم والكواكب ويتوجس بحركة الطير . ان طار جهة اليمين، كان اشارة خير وان طار جهة اليسار كان دليل شر. وكان راضيا بعالمه هذا . يجد فيه منطقا للسلوك الحسن . فكان يستعمل الكلمات التي تؤدي له هذه المعاني .

وقد نبذنا نحن هذه العقائد . لكن بقيت هذه الكلمات الغيبية القديمة في قواميس لغتنا نستعملها وهي تفسد اذهاننا حتى اننا من وقت لاخر تقرأ عمن يخاطبون الارواح , او يقرأون طالعنا في النجوم . وما زلنا نتفائل او نتشائم من حادث او كلمة, وما زلنا نخاف من الجن والعفاريت. سلطان على بعض النفوس التي لا تستطيع ان تتخلص من هذه المتحجرات اللغوية. ذلك ان الطفل ينشأ وهو يستمع الى الكلمات, فتنغرس فيه عقائد. يعجز عن التخلص منها حتى وهو في الخمسين من عمره.

واحيانا نجد رجلا ممتازا في علمه ومنطقه لكنه ينزع الى الغيبيات. وكل ما عنده كلمة – روح – يحملها ويجري بها وراء الدجالين والمشعوذين الذين يستغلونه . انه يميل الى تصديقهم بفضل كلمات تعلمها في الصغر, فغرست فيه عادات لم يعد قادرا على التخلص منها. لكن الكلمات المتحجرة لا تقتصر على الجن والارواح انما الى اخرى نألفها مثل(علا نجمه) او (افل نجمه) . التي كانت حية ايام الفراعنة او البابليين.

ومن الاحافير اللغوية كلمات – الدم – و – الثأر – و – العرض – خاصة في الريف. فان هذه الكلمات كانت في الماضي تسبب الى قتل نحو ثلاثمئة امرأة ورجل كل عام في مصر مثلا . ولا بد ان القارئ سيثب الى القول بان هؤلاء القتلة يذودون عن شرفهم . وكل ما استطيع ان ارد به هو ان هؤلاء نادرا ما يستعملون هاتين الكلمتين، الدم والثأر في احاديثهم انما يتأثرون بالايحاء الذي تحدثه في نفوسهم.

وهناك احافير لغوية كثيرة في الشعر العربي القديم . فان الشاعر كان يعيش في جو تلائمه كلمات معينة. فلما انقطعت الصلة بيننا وبين هذا الجو صرنا نجد هذه الكلمات غريبة عن اذهاننا وقلوبنا فهي لا تضئ بصيرتنا ولا تنبه ذكائنا ولا تحرك خيالنا. انظر مثلا الى – الحداء – وكيف اتصلت معاني الفعل من هذه الكلمة بكثير من الشعر والنثر، وادت الخدمة الادبية في التعبير الحسن قبل الف سنة . ولكن من يحاول استعمالها في عصرنا ؟

اللغة التي تلابس مجتمعنا هي لغة السوق والبورصة والمكتب والمصنع والنادي والكتاب والجريدة والمجلة والمدرسة. اما اذا انفصلت واقتصرت على الكتاب وهجرت المجتمع صار لنا لغتان . فان لغة المجتمع ستبقى حيّة ولكن لا تجد العناية التي يستحقّها الحي . فهي تعيش في وهن وضعف وتبقى اللغة الاخرى وكأنها قديمة تحفظ وتصان. كما تصان لغة المعابد عند البدائيين.
* مقتبس بتصرف من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here