رمزٌ ثقافي ومعلمٌ حضاري..متحفُ التراث السرياني في عنكاوا.. شاهدٌ على تأريخ مشرق

 كتابة/ نمرود قاشا

مقابل “تل قصرا” الأثري، المقابل لكنيسة مار كوركيس في ناحية عنكاوا – أربيل يقع متحف التراث السرياني ويضم مئات القطع والمجموعات التراثية التي تعبّر عن عمق حضارة شعب يواجه شبح الفناء، وربما مستقبلاً مجهولاً بالنسبة لأناس فضّلوا الهجرة وتركوا موطن أسلافهم، في وطن كانوا فيه السادة على هذه الأرض، ويبدو أن الأنظمة التي تعاقبت قد ألغت درس التاريخ في مناهجها واستبدلته بتاريخ صنعته خصيصاً لها. وعند مدخل المتحف يوجد مجسم عنكاوا الطيني قبل اكثـر من ستين عاماً عندما كانت قرية صغيرة واكثـر بيوتها من الطين ليؤرخ مرحلة مهمة من حياة أهل عنكاوا .

من دار مؤجرة إلى مديرية
يعد هذا المتحف رمزاً مهماً لتاريخ شعب عاش منذ آلاف السنين وهم الأصلاء في هذه الأرض التي تضم مدينة عنكاوا ومدن سهل نينوى وغيرها من المدن، ويحتوي هذا المتحف كل ما يتعلق بتاريخ وحضارة الشعب السرياني وكل هذه المقتنيات تعود لشعب عاش في هذه الأرض والتي كانت تضم السريان والكلدان والآشوريين الى حين سقوط الدولة الآشورية عام 612 ق .م ، وبزوالها انتشروا في أرجاء وضواحي نينوى وكردستان العراق وتمكنوا من الحفاظ على هويتهم وتاريخهم بالرغم من حملات القتل والإبادة والتهجير بالهجوم على مدنهم وقراهم من غزاة على مر التاريخ وآخرها كانوا إرهابيي داعش.
متحف التراث السرياني، شاهد لهذا الشعب، بل يختزل التاريخ كله، بناية بطابقين تم افتتاحها رسمياً تزامناً مع عيد السنة البابلية في 1 نيسان 2011، وقبل هذا التاريخ، كان يشغل داراً مؤجرة تتناثر في غرفها مجموعة كبيرة من مختلف النماذج التراثية، ولكون الدار صغيرة لا تستوعب ما تم جمعه، فقد استغلت الممرات وساحة الدار لعرضها، في 4 آب 2009، تحولت هذه الدار إلى مديرية مستقلة سميت (مديرية التراث والفنون الشعبية السريانية) وهي إحدى مديريات (المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية) التابعة إلى وزارة الثقافة لإقليم كردستان العراق وقد أدارها بكفاءة واقتدار الفقيد القاص والروائي د. سعدي المالح.

المتحف الوحيد بالعراق
زرت المتحف أكثر من مرّة منذ أن كان مجرّد بناية تتوزع على غرفها نماذج تراثية، وفي كل مرة التقي بمديره، هذا العاشق لكل ما يمت بالتراث من صلة، فاروق حنا عتو، الذي تسلم إدارة هذه المؤسسة منذ تشكيلها، وقد بذل جهوداً استثنائية سبقت هذا التاريخ بعامين، حيث تمت تهيئة الهيكل الإداري الذي قام بجولة كبيرة في قرى تلسقف وبغديدا والقوش وشقلاوة وكويسنجق وعدد آخر من المناطق للحصول على المقتنيات الأثرية التي تمثل المادة الرئيسة للمعروضات والقسم الأكبر منها كانت هبات مجانية من أهالي تلك القرى، ليكون مرآة تعكس غنى تراثنا ويبرز قيمنا الإبداعية ويعرّف العالم بنا، وحرص أبناء شعبنا السرياني على الحفاظ على تراثهم من الضياع والفقدان وصونهم خصوصيتهم الثقافية. كما ولا يفوتنا ذكر الدور الكبير للراحل د. سعدي المالح في تقديم كل الدعم والعون للمتحف قبل افتتاحه وحتى يوم وفاته، حيث ذكر المالح في حفل افتتاح المتحف: جمَعنا خلال سنتين من عمر مديرية التراث والفنون الشعبية السريانية أكثر من ثلاثة آلاف مادة تراثية من ملابسَ وأدواتٍ وصورٍ وكتبٍ ووثائقَ ومخطوطاتٍ وأغانٍ وتراتيلَ وحكاياتٍ وأجهزةٍ ومصنوعات ومنسوجاتٍ وغيرها أغلبُها قُدِّمت هدايا من قبل أبناء شعبنا مشكورين، وعرَضنا من هذا الكم في متحفنا هذا نحو ألفين مادةٍ تراثية متنوعة قديمة يعود تاريخُها لأكثرَ من خمسينَ سنة وأقلَّ من مائتين وخمسينَ سنة. وجميع هذه المواد معرّفةٌ بتعريفاتٍ مختصرِةٍ بأربعِ لغاتٍ هي السريانيةُ والكرديةُ والعربيةُ والانكليزيةُ، وعرَضنا مع بعضِ هذه المواد ما توفَّر لدينا من صورٍ قديمةٍ تبيّن طريقةَ استعمالها. ووفّرنا لزوارِنا الكرام أفراداً ومجموعاتٍ أجهزةَ تسجيلٍ للصّوتِ والصورة لسَماعِ ومشاهدةِ أغانٍ ومعزوفاتٍ وتراتيلَ قدماءِ الموسيقيينَ والمغنين والمرتلينَ الكلدان السريان الآشوريين فضلاً عن بعضِ الأفلامِ الوثائقية.

ورش خياطة وأزياء تراثية
يعد هذا المتحف الوحيد في كردستان والعراق والمتخصص بعرض كل ما يتعلق بتاريخ وطريقة معيشة ونمط حياة السريان ومنذ القدم. ويضمُّ الطابق الأول كل ما يتعلق بالحياة المعيشية والأدوات المستعملة في المطبخ وداخل البيت، حيث تصطف الغرابيل بأنواعها وأحجامها والجاروشة الحجرية والأطباق الطينية والسلال والصناديق الخشبية وحافظات طينية لتجفيف وحفظ الفواكه والخضروات والأطعمة إضافة إلى المجرشة والقدور النحاسية والصحون بمختلف أنواعها وأواني إعداد القهوة والسماور والسلال والصناديق الخشبية والتنور حيث لا يزال موجوداً إلى يومنا هذا يستعمله أهلنا في تحضير الخبز بمختلف أنواعه.
وبعدها يأتي قسم الأزياء الشعبية للرجال والنساء، ويضم أكثر من 30 زيّاً تتوزع بين أزياء الرجال والنسا ء والأطفال وكبار السن وأزياء للزواج والعمل، ذات الألوان الجذابة، حيث نرى التنوع في صناعة الملابس واختلافها من قرية إلى أخرى وحسب الموقع الجغرافي، يتبعه قسم أدوات الزراعة مثل المناجل والمحاريث والجرجر، وكذلك الصناعات الشعبية والمنسوجات وآلات الحياكة والغزل وأدوات الفخار والنحاس وغيرها من مقتنيات المتحف.. وفي المتحف أيضاً خمس ورش: الخياطة وفيها يتم خياطة جميع الأزياء الموجودة في المتحف والحياكة والتطريز وورشة الاكسسوارات وورشة للمواد الطينية وفيها تصنع العديد من نسخ الأدوات الطينية التي لم يتم الحصول على قطع أصلية منها وورشة الصيانة التي تتولى تنظيف وصيانة وإدامة المعروضات وحفظها وأرشفتها بطرق وأساليب علمية متطورة.

المواطنون يسهمون بمقتنيات المتحف
يضمُّ الطابق الثاني صوراً ونبذةً عن حياة روّاد النهضة الفكرية والثقافية السريانية ومجموعة كتبٍ قديمةٍ طُبعت في العراق ونماذجَ من الصحافة السريانية وشروحات مختصرة عن كل صحيفة ونماذجَ من مخطوطات ووثائق سريانية قديمة، فضلاً عن صور وشروحات لروّاد المسرح العراقي والآثاريين السريان والصناعات الشعبية المختلفة والمزارات والقرى والمدارس والعادات والتقاليد القديمة وشروحات لموسيقيين وفنانين سريان، وعن الروّاد الاوائل في مختلف المجالات، مثل الكاتب والقاص ادمون صبري والإخوان جميل ومنير بشير اللذين برعا في الموسيقى العراقية واللاعب المشهور عمو بابا وغيرهم من مبدعي السريان. واخرى لمراسيم زفاف من مختلف القرى، فضلاً عن آلاف الصور القديمة من مختلف القرى السريانية اضافة الى صور مدارس السريان التي رفدت العراق بأجيال من الأطباء والمهندسين والمثقفين، مع العديد من المقتنيات الأثرية التي كانت متداولة من قبل أجدادنا، مثل الأسلحة القديمة وقطع النقود القديمة والمسجلات الصوتية والراديو وغيرها.. كما توجد قاعة ثالثة خاصة بالأنشطة الثقافية والمؤتمرات، علماً أن اغلب مقتنيات المتحف هي هبات وتبرعات المواطنين السريان. كما تم شرح جميع المقتنيات بأربع لغات (السريانية والكردية والعربية والانكليزية) ليتمكن السائح من الاطلاع على المتحف بدون اللجوء إلى المترجم لمرافقته.
يُعد المتحف رمزاً مهماً للشعب السرياني من الناحية التاريخية والتراثية والحضارية ويستقطب العديدَ من السيّاح والزائرين للإطلاع والمعرفة على تأريخهم وتراثهم، كما يُعد المتحف معلماً سياحياً لإقليم كردستان لانفراده بين المتاحف العالمية بهذا الخصوص ويستقبل المتحف جميع الانشطة المتعلقة بالتراث والفنون ويقدم المساعدة للباحثين والكتّاب المختصين بالتراث والفنون السريانية، من خلال هذا المتحف نعرف من هم السريان وما قدموا في جميع المجالات، مثلاً اول رئيس جامعة من السريان وأولى المطابع دخلت للعراق عن طريق الاباء الدومنيك، والصحافة السريانية سبقت العربية والكردية والكتابة في أدب الرحالة، كما ذكرنا أول طبيب من السريان وصاحب أول طاحونة حبوب وأول مصوّر شمسي .
يفتح المتحف أبوابه من التاسعة صباحاً الى السادسة مساءً، وعلى مدار ايام الاسبوع، باستثناء الجمعة، إذ يرتاده زوّار عراقيون وأجانب ووفود رسمية، بالإضافة الى طلبة المدارس الذين يقومون برحلات منتظمة الى المتحف، حيث يعرب حنا عن أمله بإيجاد تنسيق يشمل أغلب مدارس وجامعات أربيل من اجل عمل زيارات للمتحف الذي يعد مرجعاً رئيساً للباحث أو الدارس المختص بتاريخ وحضارة الشعب السرياني.
ولم تقتصر نشاطات القائمين على ادارة المتحف على استقبال الزائرين وتعريفهم بأقسامه ومحتوياته، وإنما خرجت نشاطاتهم خارج أسواره، حيث قدموا العديد من عروض الازياء السريانية وشاركوا في العديد من الفعاليات التراثية على مستوى أربيل والعراق، ولا يزال في جعبتهم الكثير، فهناك خطط التوسع المستقبلية وطموح مديره يصل الى عمل بيوت أو مجمعات حيّة تُجسِّد ومن خلال أناس حقيقيين أنماط الحياة والطقوس والمهن والعادات السريانية. وكل هذا يكون في قرية تضم عدداً من البيوت المبنية على الطراز السرياني القديم.
المدى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here