ساعة مع مومس للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1997)

كان علاء يراقب التلاميذ المنتشرين أثناء الفرصة الكبيرة، فهمس أحد المعلمين من زملائه بأذن أحد الجالسين بجانبه على كرسي. قال: لاحظ أن “عبد العالي” اليوم على خلاف ما نعهده فيه من هدوء وسكون واتزان. الانفعال باد في حركاته ونبرات صوته. انه يعيش منفرد منذ أشهر، لابد أنه قد سأم الوحدة. والأهم –العزوبة- المثل يقول “أنطي المتعلم وخل المحتام[1]؟!”

ودق الجرس. فاشتدت حركته والعصا بيده، يتعقب التلاميذ، أشبه ما يكون برعاة البقر. لقد دق الجرس. فهم يتهيأون للدخول إلى صفوفهم. معظمهم يقضي الفرصة باللعب حتى إذا دق الجرس انصرف لقضاء الحاجة، أو شرب الماء.

بعد هذا عاد إلى غرفة المعلمين لينبههم. قال أحدهم: يبدو أن الرجل لا يحتمل المبيت وحده أكثر من هذا؟! كل حركاته تترجم أثر الوحدة –ليلاً- عليه!

أما هو فبعد أن تصفح دفتر التحضير، تناول قلم –طباشير- دون أن يرد على ما سمع. أسرع إلى الصف، وما أن دخل، أقبل عليه صاحبٌ له وهمس بإذنه بضع كلمات، ماجت على قسمات وجهه منها ابتسامة عريضة.

أناب المراقب، وستأذن المدير بالخروج. كان ذلك الدرس –الدرس الأخير- فأسرع متوجهاً إلى البيت. وقد سبقه إليه صديقه محسن، الذي همس في إذنه. دخل البيت. وبعد دقائق تلاه محسن وامرأة محجبة! وحالما استقرت كشفت عن وجهها. وحيّت عبد العالي، كمن له سابق معرفة، فحياها بصمت.

وأخذ محسن يوجه التعليمات:

– هيئ الشاي رجاء. وليكن مجلسنا الغرفة التي في الطابق الأعلى. سأعود بعد شراء ما يلزم للغداء، سيكون كباب وطماطة مشوية وطرشي. هيا تحرك… لا تكن خجولاً! لماذا تصبب وجهك عرقاً؟

غادر محسن البيت، أما هو فتشاغل “بالبريمز”، وبعد ذلك وضع عليها الكتلي. أما الفتاة فانتحت ناحيةً، فقد بدا كأنه يتجاهل وجودها. وعاد محسن يحمل الغداء، رأى صاحبه يلهو بمراقبة البريمز، صاح –عظيم، عظيم! لم تعمل شيئاً؟ وقلت لك، مجلسنا في الغرفة العليا. هيا الآن، أحمل أنتَ الغداء … وأنتِ …الكتلي!

وحمل محسن البريمز وعدة الشاي. وأستدرك، لا لا، قف أنتَ، ضع الطعام في الصينية، وصراحية الماء والكأس بعد ذلك!

تم كل شيئ حسب التوجيهات، وحين انتهوا من الطعام، ألقت الفتاة نفسها على سرير النوم! وسألت:

– هل مرّ على غياب زوجتك أيام؟

– رجاءً. الفراش يخص زوجتي، فأنزلي عنه!

بُهتت … ثم جاملته بابتسامة هادئة، واستجابت لرغبته.

– أعذرني، لقد أخطأت!

– عفواً، لا أبداً.

– لا، لا. أتكلم مع نفسي!. ثم وجهت كلامها إلى محسن:

– محسن! رجاء تعال. أنا ما أفهم شيگول صاحبك؟!

– ما عليج بيه … إگول، ما يگول . أجاب محسن.

محسن أدرك سذاجة صاحبه. ولكي يغير الجو -على طريقته ..- جذب الفتاة، وعلى عادته، أستمر في الضحك والتهريج. جرّدها من ملابسها الخارجية. وضمها إلى صدره، وراح يمطرها بالقبل. رفعها بيده كمن يرفع طفلاً صغيراً، ثم مددها على الفراش ممسكاً بيديها … ثم بسرعة خاطفة حطها على السرير وانكفأ عليها يمرغ خديه على خديها، ويدفن وجهه بين نهديها. عَصَرها وشمها، كمن يمتص رحيقاً. كانت هي تتجاوب مع حركاته تجاوباً تاماً … وحين بدأ التعب على محسن، أستوى جالساً، وقال لصاحبه: الآن أبدأ أنت مادامت المسألة كلها من أجلك!

لكن عبد العال لزم مكانه كتمثال. ويغطي خجله بمسح العرق عن وجهه. فصاح محسن:

– جبان! ما معنى الخجل؟ هكذا، أجلس … تفَرّجْ!

وأشتبك مع الفتاة بعناق. غطى وجهه بشعرها وغاب جسدها تحته … وهزات رتيبة باتت من جسديهما. ولُهاثٌ كأنه أنفاس محموم. بعد لحظات، امحى كل الحياء من عبد العال، واستعرت فيه حرارة وعراه اضطراب، ثم أنقض عليهما يبحث عن وجهها المتشنج، وشفتيها المحمرتين المنتفختين، وأختطف من بين وجهيهما قبلةً. ويحاول خطف قبلة ثانية من الوجه الذي حُجب تحت رأس وذراعي محسن. وحين بدا على محسن ارتخاء، مال بجسده جانباً، فأرتد عبد العالي كمذعور هارباً من أمر مخيف!

كان ينظر إليهما نظر متقزز، مقشعر البدن. لقد رأى وجه محسن الجميل، وقد انكمشت أساريره، وتبدلت نظرته الحلوة، إلى نظرة وحش أنهك قواه في خوض بقعةٍ شاقةٍ!

وأطلق محسن ضحكة مدوية، بينما خرجت خارج الغرفة.

– تقدم الآن، إنه دورك، لم أسبقك إلا لأدفع فيك بعض الشجاعة، وأثير فيك الغريزة. أنهض، تهيأ …

وتكلف عبد العالي الابتسامة، وقال:

– محسن؟ أي فرق بيننا وبين أي حيوان في مثل ما نحن فيه؟!

– فلسفة تافهة. أنت المتزوج، مسكينة زوجتك، إن كنت حقاً تمارس اللذة كمن يؤدي صلاة وأدعية؟! المرء لا يدرك عيوب الأمور إلا حين يرى أموراً من لون آخر.

– أنت واهم، الأمر في هذا يستوي فيه الحيوان والإنسان ولو كان من صنف الأنبياء، إنها حاجة من حاجات الجسد تماماً كالغذاء. ونحن إياها كمن يجوع إلى الطعام، فيفعل فعله في عواطفنا بل وعقولنا. أنت لا تشعر بالخيانة للتقاليد والشريعة، لأنك متحلل من قيودها وأثرها في بيتك، شيء من الفوضى!

وعادت الفتاة فكفا عن الجدل.

ومدت يديها إلى عبد العالي فضمته إلى صدرها. وراحت توسعه عناقاً وقبلاً. فأحس بالحرارة تجتاح جسده. وفي لحظة أمّحت كل تصوراته السابقة، فأندمج اندماجاً كلياً بين العناق والقبل … بينما كان محسن قد غادر الغرفة يصلح شأنه، ويمشط شعره، ويعد أكواب الشاي.

وبعد فترة كان الثلاثة يرتشفون جرعات الشاي، والابتسامات على قسمات وجوههم. إلا أن ابتسامة عبد العالي –مع كل هذا- مشوبة بتقزز واشمئزاز! وكأن الفتاة كانت تلاحظ ذلك، فانبرت تغني، وتهز كتفيها وعنقها البلوري. وغنتْ … كان صوتها شجياً، واللحن جميلاً. وماشاها عبد العالي ذو الصوت الرخيم بهدوء. لكن محسن، مزق هذا الانسجام الرائع للأغنية بصوته الأجش. ولثغته في الراء خارجة عن أبسط درجات جمال اللثغ.

كانت تدرك انفعالات عبد العالي والندم الذي تنم به ملامحه، ونظرته. فكانت تضرب على هذا الوتر، بما تردده من معان في أغنيتها، عن الإنسانة المحرومة التي تبيع الهوى، ولا تستطيع أن تشتري به شيئاً أجدى منه لحياتها:

آنه الهــويت الضيم ما جــاني گـوه

مثل اليجَرّي الماي گوه اعلَ عَلوه

ظليت انا يا ناس ريشه بملَـط روج

اَبعَـد عليَّ الگيش وأتعبني الفـوج[2]

شوف شْتِگول الناس: مطرب يغني

بگلبي تَسع جروح حيل أوجعني!

عبد العالي أنسجم معها بالأغنية، فكان كمن يضيف مزيداً من الأيضاح والتلميح. فأذكى لوعتها بما ردّد من معانٍ تشير إلى زهو الشباب، كيف يذوي في هجير التيه والضياع، والمخاوف من الغد المجهول.

مرت فترة ليست بالقصيرة، كانت هي وعبد العالي خلالها كأنهما يبحثان سر الخطيئة، فيما ردّدوا من معان شعرية عميقة الغور. إنها في الواقع لوم وتقريع واعتذار. وحين ردّد هذا البيت:

طﮓَّ الك مابيّاش عِفْ عني يالبين

شاة بجبل ظليت واذيابي اثنين

صاح محسن: طبعاً آنه واحد منهن!. وارتمى بحضنها يقبلها بنهم. بينما بدت هي وقد أرتسم الأسى على وجهها. وأطلقت آهةً حارةً، وعلقت: ذياب اثنين!؟ لا، لا.. ميات الذياب الجوعانة، الشرهة!

كانت قد تملصت من محسن برفق. وأجالت ببصرها في جهات الغرفة كمن يحاول طرد أشباح مخيفة، وقالت:

– الظاهر أنك متزوج من قريب؟

– زوجته على أبواب الولادة.

أجاب محسن ثم عقب:

– تعرفينه.

– تمام المعرفة!

وحدجته بنظرة ذات مغزىً.

– يا عيني عليك، يا يوسف العفة!؟ (تمام المعرف؟) عظيم!

قال هذا محسن كمهرّج كشف سراً خطيراً. بينما ظل عبد العالي ملازماً الصمت، كتائه في صحراء مترامية الأطراف. سكوته كان من أجل أن يتعرف بداية الاتجاه. وهَزّه محسن من كتفه:

– مالك، تحرك، قلْ، أنها تعرفك صديق قديم!

أبتسم عبد العالي، وقال:

– من ناحيتها؟ ربما … أما من ناحيتي فقد استعرضت الماضي، فلم أجد ظلاً لإمرأة في حياتي الماضية! غير واحدة كانت رفيقة طفولتي، وتمكنت فاحتلت قلبي بحب عميق، وعشنا سنين كأننا عاشقان صغيران. أجل كان غرام طفولة –اليفان فقط- رغم ما رافق ذلك من قبل وعناق، وهيام أيضاً. ثم امحى كل شيء. وانعدم كل لقاء، حين اُلزم كلٌ منا طريقه. هي تحت رعاية أمها التي لم تعد تفسح لها المجال أبداً. لقد شدتها إلى عملها شداً لم تجد معه أدنى فراغ، أو فرصة، زاده شدة ما حصل من خراب بين اُمها وامي … آه. الآن كأني أحس حلاوة تلك القبل، ودفء ذاك العناق! كنت إذا مر بعض اليوم ولا نلتقي، أحس كأني أعاني حرارة ضمأ شديد؟ فأصعد إلى سطح بيتنا ونحن متجاوران، وأنشد بحرقة:

شممتُ بنجد ريحةً حاجريةً

فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدي

ولم أكن إذ ذاك اعرف ما –نجد- وما –حاجر- ومن هو الشريف الرضي[3]؟ ولكني أمطرت دمعي، وأفرشت خدي، أرضية سطح بيتنا الذي كنا نلتقي عليه … ثم أنتهى كل شيء في غمرة بناء المستقبل. حيث انخرطت في سلك طلبة العلوم العربية والدينية، وتَبَدل كل شيء في حياتي، عدا ما يتمتع به سائر أفراد العائلة –من غذاء وكساء- لم أنفرد بأية ميزة عنهم. وكنت في مجال التصرف الحر، الوحيد من رفاقي الذي لا يملك حرية التصرف؟ وماذا بعد؟ لا أتذكر … لا بأس، هاتي ما عندك … ذكريني.

– وصديقك عزيز الحلو، حقيقة ﭽـان حيل حلو؟

– عزيز؟ شجابه على بالك؟

– نسيت. ها؟ يوم جابني وياه إلك في بيتكم؟ آنه الآن ما اتذكر شگد سنين مرّت، ومحت كل اللي مرّ بذهني!

– لا أفهم، وضحي أكثر …

وأستدرك، وهو يعصر رأسه من صدغيه، بأبهام يده وسبابته. كأنما يضغط على خزين للذكريات، داخل رأسه. وغاص في لحظة تأمل. وقال:

– صورة باهتة لفتاة عرضت ذات مرة في حياتي، شبيهة بغيمة عابرة، ارتسم منها صورة لوجه جميل. وسرعان ما تلاشى والتحمت الغيمة بغيوم أخر، داكن لون بعضها، واُخر بيض.

– أي صحيح!

وأجتاحتها زفرة عاتية وأكملت:

– صحيح! صورة باهتة، مو في ذاكرتك. بكل ذاكرة مرت عليهَه يتذكرهَه الواحد مثل –تفله- يقذفهَه بدون وعي؟!

وبدت على وجهها مسحة من كآبة، وترقرقت في عينيها دمعة! واستمرت:

– كنت طايشه. رِفَضت ما عرضته عليّ، كِنت بللي عرضته عليّ شريف! إلآ آنه إندفعت بهالدرب الأظْلَم. وما عاد إلا أمشي لاخر حدّه! ما يعرف أحَد من أهلي وين آنه؟ هذي الأيام أخوي رزاق يدَور -يبحث- عليَّ. سمعت آنه يحلف يمين لو حصلني يشرب من دمي! أعتقد أنت هسه اتذكرتني؟ أنه اتذكر أنتَ عرضت عليّ رأي إنسان طيب. تتخذني حبيبة. لكن آنه افهمت المسألة بالغلط. ظنيت انك تريد تتخلص مني. أنت تأكدتْ لَني غرﮔانه لِذاني. ولمن أعرفت آني أعرف أختك اللي هي تتعلم الخياطة عند “تنزيه” الخياطه، جفلتْ مني، ومنعت أختك، حتى تتبعد عني. وأبتعدتْ. صارت تهرب مثل واحد يبتعد عن أجرب!

والتفتت إلى محسن، وقالت: يا الله بينه نمشي!

ونهضا بصمت كئيب وغادرا البيت …

* * *

وعاد عبد العالي من المدرسة في اليوم التالي، ظهر يوم الخميس، إنه يفكر بتردد بين الذهاب إلى بيت صهره أو ينتظر، أن يأتيه البشير بالمولود المنتظر، فيكون الفرح أكثر بهجة. وفيما هو يخير نفسه فوجئ بها تدخل عليه، لقد نسي باب الدار مفتوحاً.

وأشار إلى كرسي استقرت عليه. لكن سحابة قاتمة كانت تغطي وجهها. جفونها بدت ذابلة. يبدو أنها كانت تبكي، وكفت عن البكاء منذ قريب.

– هَه! عَرفتِ الطريق إليَّ فعاودت المجيء، بس لَيكون شافج أحد؟ بلا مبالغة أگول جيراني كلهم ناس محترمين، وعلى كل حال انشاء الله مَحَّد شافج. هُمَّه يدرون بِيَّه وحدي بالبيت، وزوجتي عِند اَهَلهَه ولادَتهَه قريبة؟ … بالمناسبة وين ﮔضِيتِ الليلة البارحة؟

– خليني من البارحة! البارحة أنتهت. ولكن!

– ولكن؟ … ولكن شنو؟

وأنحدرت من عينيها دموع. وبدا وجهها محتقناً كمن يختنق.

– تاليه يعبد العالي، أخوي عِرف مكاني. وهوَّ هسَه صار يراقبَه، أصبحت حياتي بخطر!

– هوني عليج، أستريحي الآن، وهذا طعام، أكلي وبعدين فكري بأمرج …

وسألها: أنت تسكنين وين؟ أهنا؟ بالكوفة؟

– لا. بالنجف، ويَّ ناس عَرَب –فُقره- رَجالهم يشتغل حمال، وبنته خادمه ببيت. هي بت حلوه. تحلم يجي ابن عمه يوم من الأيام، وتبگه أمهَ وَحَده. حبوني. حسبوني بِتْهم. آنه أدفع نص إيجار البيت، واساعدهم بالمعيشه. يسئلون عني يريدون يعرفون منين آنه؟ وحـﭼيت عن حياتي قصة ما إلهَه أصل. يا ربي أرحمني برحمتك.

– أذكر مرة عرضت عليج تختصين بيه. إلي وحدي!

جاوبتِ: آنه مثل المطر، وين ما يريد يحط. ما فكرتِ شراح تلاگين؟ وبالمناسبة، أگول … أختج وين صارت؟

– أختي؟ أنتهت حياته. تورطت ويَّ ابن الجيران، النذل خانهَه! وحملَتْ منَه، وانكشف أمرهَه، أخوي عرف مكانهَه وانتهت!

ثرثرت كثيراً، وبكت كثيراً ثم نهضت على عجل. بعد نصف ساعة جاء محسن، فدهش حين علم أنها جاءت، فمضى يستجوب صاحبه.

قال عبد العالي: محسن! رغم إشفاقي على مثل هذه فأني لم أثق بأي عذر عن أسباب إنزلاقها. إن كل ما تعلن هو إدعاء ملفق. من أجل أن يوقعنك وأمثالك في شراكهن. فَيَهْدمنَ بيتك الذي شِدته على دعائم الحب … إن كيدهن عظيم … أنا نادم وآسف. أقسمت أن لا تتكرر هذه الهفوة مني. لا تنكر علي حذري. أنا أعرف شاباً هو ورفاق له، وكان هو الوحيد بين رفاقه المتزوج وله طفل وطفلة، زوجته أبنة عمه. كانوا يحيون ليالي مع مومس، فوجئوا بصاحبهم[4] يطردهم، ويعلن حمايته لها. وانه أتخذها زوجة! وعمل على انتقاله إلى مكان بعيد. تاركاً زوجته وأطفاله!

أتدري كم ذرفت من دموع، أسفاً على انحدارها إلى هذا المستوى الخطر. وتحدثت كثيراً عن أسباب انحرافها. قالت مع حسرة وعبرة: أبي وأمي، هُمَّه سبب خراب البيت. أبوي إيسَلّمْ لأمي الأمر، وأمي ما تهتم بغير نفسهَه. أعتمدت على أختي. وتغيب أمي نهار كامل. وأختي تنتهز الفرصة وتمشي باليعجبهَه. زغار ما نعرف غير نبجي ونسكت لو نتشاجر مع بعضنا. نجوع ما نحصل غير الخبزة والتمر. أبوي ما يسأل –أمكم وين-؟ أختي تقدم لَه الطعام ياكل ويرجع لشغله، ونتعارك إحنه على ما يبقه مِنَّه؟! أخونه رزاق يحصل ما يريد بالتهديد لأمي وأختي الجبيرة.

علق محسن: حديثهَه مؤلم. لكن يمكن أن يكون ملفق؟

وطُرق باب البيت فأسرع عبد العالي، وعاد ووجهه يتهلل بشراً وسروراً. جاء البشير … أنه مولود، إلى اللقاء يوم السبت.

قال محسن: هذَ موكافي. نريد سهرة ممتعة وعشاء مناسب.

– لا بأس… هذَ حق، وسلفاً لعب أيدك يا محسن، جيبي فارغ، ولكن عندي خبر إلك، أرجو أن لا يكدرك.

بُهت محسن. وقال مرتبكاً … ياستار!

– المسكينة … صاحبتنا …

– ما حل بها؟

– أنتهت حياتهَه أمس الضَحَهْ بطعنات من سكين أخوهَه وَسَلَمَ نفسه للشرطة.

عَقَبَ محسن: هكذا حال الدنيه.

يأتي الحياة إنسان جديد، ويغادرها إنسان. الله يرحمهَه استراحت من الخوف؟!

النجف – 09/11/1939

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهامش

*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة، آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية. وهذه القصة من ضمن مجموعته القصصية التي خصها بعنوان (السر الرهيب) لأن معظمها يشترك بسر ما./ الناشر محمد علي الشبيبي

1- مثل يضربه العوام عمّن يتعود على شيء، إنه أهم وأولى ممن يشتهي الشيء إشتهاءً.

2- ملط: ضربات الأمواج. روج: موج. الگيش: القسم الغير عميق من النهر، يستطيع من لا يسبح أن يقف على رجليه فيه.

3- صديق والدي المرحوم الشيخ عبد المحمد زاير دهام –عرفوا بعد هذا بالمخزومي- كان يختار لي أبياتاً من شعر الشريف الرضي فأحفضها، وكان هذا البيت من قصيدة معجب بها.

4- حدث هذا لفتى نجفي من عائلة عرفت بكثرة رجالها المبرزين بالعلم والأدب. وهو نفسه أبن رجل دين برز مقلداً شهيراً لكنه توفي بعد أن تسلق برج الشهرة والزعامة.

الناشر محمد علي الشبيبي

السويد 19/10/2017

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here