اطالب بإعادة ( العقيدة الوطنية العسكرية ) للجيش العراقي والتخلص من الولاءات الحزبية والطائفية !

د . خالد القره غولي
قبل ستة وتسعين عاما في السادس من شهر كانون الأول من عام ١٩٢١ قررت سلطات الإحتلال البريطاني وبعد إجتماع لعدد من الضباط العراقيين تشكيل أول فوج عسكري وطني عراقي سمي بفوج الإمام موسى الكاظم، وهو نواة لجيشنا العراقي الوطني الباسل.. تألف الجيش من ضباط عراقيين كانوا يعملون سابقا في الجيش العثماني، إستقرت ثكنة الخيالة من الفوج في منطقة خان الكابولي في مدينة الكاظمية ببغداد وفي ١٧-٣من العام نفسه أي بعد شهرين تقريبا نقل الفوج إلى مدينة الحلة حتى تم بعد شهور تشكيل فوج آخر في بغداد .. توالت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ تنصيب فيصل الأول ملكا على العراق الإهتمام الكبير بزيادة أعداد المنتسبين وإستحداث وحدات وصنوف جديدة تتناسب مع حجم المخاطر المحدقة بالعراق على الرغم من الإعتراضات المعلنة والمخفية من قوات الإحتلال البريطاني ، تواصل بناء الجيش العراقي وتوزبع وحداته العسكرية على عدد من المناطق العراقية المهمة آنذاك كالعاصمة بغداد وكركوك والحبانية وبعقوبة حتى وصلت ذروة تشكيل فرق وألوية عسكرية شاركت في أول محاولة إنقلابية ضد السلطة الحاكمة في عام ١٩٣٦ أو مايسمى بإنقلاب بكر صدقي الفاشل.. في عام ١٩٤١ إندلعت أول ثورة وطنية ضد قوات الإحتلال البريطاني أو ماأطلق عليها لاحقا بثورة رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء العراقي الأسبق.. جوبهت ثورة الكيلاني رغم تأييد معظم القوات المسلحة العراقية لها بقوة من البريطانيين إستخدموا فيها عاملا حسم المعركة لصالحهم نتيجة للقصف المكثف والعشوائي على الوحدات المشاركة وبخاصة في مناطق بغداد والرمادي والفلوجة وسن الذبان(الحبانية ) وقد علل البريطانيون تصديهم للثورة بهذه القسوة على خلفية إتهام سابق للكيلاني بولائه لألمانيا الهتلرية في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية تخوض حربا عالمية مع الحلفاء ضد ألمانيا(١٩٣٩ – ١٩٤٥).. بعد فشل ثورة الكيلاني حاول البريطانيون السيطرة على إمكانات وصلاحيات وحركة الجيش لمنعه مستقبلا من القيام بحركات إنقلابية أو تمردات مماثلة لثورة مايس ١٩٤١؛ في عام ١٩٤٨ وعلى الرغم من محاولات سلطات الإحتلال البريطاني وضع الحواجز اللوجستية لمنع الجيش العراقي من التحرك بحرية.. تدافع أبطال الجيش العراقي الباسل بمختلف تشكيلاته للمشاركة في الحرب العربية- الصهيونية الأولى في عام ١٩٤٨ وأظهر الضباط والجنود العراقيون بسالة وشجاعة تحدثت عنها الوثائق التاريخية والمخاطبات العسكرية بين القوات المتحاربة ومازالت حتى يومنا هذا وقد كانت القوة العسكرية العراقية المشاركة في حرب ١٩٤٨ ضد الصهاينة القوة الثانية بعد القوات المصرية ووصل تعداد الضباط والجنود العراقيون ١٨٠٠٠ وكان الجيش العراقي ومعه قوات عربية فلسطينية على حافة تحرير حيفا ولكن تقدم الجيش توقف فجأة بسبب رفض القيادة السياسية في بغداد إعطاءه الأوامر للزحف وتحرير المزيد من الأرض ما سبب إرباكا شديدا بين صفوف القوات وكان أحد الأسباب المباشرة لنكبة العرب في هذه الحرب.. ومازال الأخوة الفلسطينيون يخلدون ذكرى مشاركة الجيش العراقي في المعركة وهم يزورون مقبرة شهداء الجيش العراقي في قرية جنزور في مدينة جنين أو مايسمى بمثلث الشهداء شمال قباطية.. لم تكن مشاركات الجيش العراقي قتالية فقط بل ساهم في التصدي لأهم الفيضانات التي تعرضت لها بغداد وفي مقدمتها فيضاني عام ١٩٥٠ و ١٩٥٤ ..
تكاثرت المواقع والمقرات والمعسكرات والثكنات التدريبية والإدارية للجيش وشملت معظم المدن العراقية وتحديدا بعد عام ١٩٤٨ نتيجة للإستقرار الجزئي وإعادة هيكلة الكثير من القوات المسلحة.. تطورت وسائل التسليح للصنفين الملازمين للقوات البرية وهما القوة الجوية(تأسست في عام ١٩٣١) والقوة البحرية(تأسست في عام ١٩٣٧) وإستحداث مدارس وكليات متخصصة في هذه الصنوف.. تحول الجيش العراقي من قوة عسكرية تتلقى الأوامر من السلطات الحاكمة إلى القوة الحاكمة الفعلية وقاد ضباطه المشاركون في حرب ١٩٤٨ أول إنقلاب عسكري أسقطوا به النظام الملكي في عام ١٩٥٨ توالت بعدها الإنقلابات فأسقط النظام الجمهوري الأول في العراق بإنقلاب عام ١٩٦٣ وفي العام نفسه إنقلب عبد السلام محمد عارف على إنقلابيي شباط وإستمر حكمه حتى عام ١٩٦٦ عبد مقتله إثر حادثة سقوط طائرته الخاصة.. تسلم بعدها شقيقه عبد الرحمن محمد عارف السلطة وبقي رئيسا للعراق حتى إنقلاب عام ١٩٦٨ الذي كان من أهم تبريراته.. هزيمة الجيوش العربية في حرب عام ١٩٦٧ أو مايسميها المؤرخون بنكسة حزيران وضياع القدس وسيناء والجولان لعدم وجود تكافأ بين الجيش الصهيوني والجيوش العربية ومنها الجيش العراقي ماأعدته القوى المعارضة للحكم العارفي تواطأ أدى إلى إستلام البعثيين للسلطة وإعلان أحمد حسن البكر رئيسا للعراق وهو أحد الضباط المشاركين في إنقلابي ١٩٥٨و ١٩٦٣.. أزاح البعثيون آخر منافس لهم وهو الضابط عبد الرزاق النايف بعد أسبوعين من الإنقلاب.. إستبدلت جميع القيادات العسكرية وتمت السيطرة المطلقة على تحركات الجيش وزيادة مصادر التسليح وعدد الفرق .. وقيام السلطة الحاكمة بعقد إتفاقات لتسليح الجيش والإعتماد على روسيا(الإتحاد السوفيتي سابقا ) في إستيراد أنواع متطورة جدا من الطائرات الحربية ومنظومات الدفاع الجوي والدبابات وأسلحة المشاة فضلا على مشاركة ضباط وجنود عراقيين في دورات تخصص عسكرية في روسيا وصلت ذروة هذا التعاون في المشاركة المتميزة للجيش العراقي في حرب تشرين عام ١٩٧٣ بقواته البرية والجوية وتدفق أبطال الجيش العراقي الباسل للدفاع عن دمشق ومنعها من السقوط بيد الصهاينة..هذه الحرب سجلتها الأكاديميات العسكرية الغربية وتقييمها كواحدة من أهم الحروب البرية بعد مسيرة الدبابات العراقية على السرف لمسافة تزيد على ٦٠٠ كم ودخولها أرض المعركة في لحظة الوصول.. بعد هذه الحرب المشرفة أصبح الجيش العراقي جيشا كبيرا لايعتمد على جوانب التسليح فقط بل تم إفتتاح عدد من الأكاديميات والكليات والمدارس والمراكز العسكرية وأول جامعة عسكرية في الشرق الأوسط وتزايد الصنوف بأحدث المعدات العسكرية.. في عام ١٩٨٠ شاركت صنوف المشاة والدروع والمغاوير والقوات الخاصة والهندسة العسكرية والتموين والنقل والطبابة العسكرية والقوة البحرية والقوة الجوية وطيران الجيش وصنوف أخرى في خوض أطول حرب خاضها جيش عربي وهي الحرب العراقية- الإيرانية وإستمرارها ثمان سنوات قدم فيها الجيش آلاف الشهداء والجرحى والمعاقين والأسرى .. خرج الجيش العراقي من الحرب عكس التوقعات أقوى من النواحي التنظيمية والإستعداد والخبرة والتجهيز ليصبح الجيش الأول في المنطقة والرابع في العالم بعد الجيوش الصينية والروسية والأمريكية وبتعداد أكثر من مليون جندي داخل الخدمة وثلاثة ملايين جندي مجهزون لخدمة الإحتياط وإستعداد أكثر من عشرة ملايين عراقي لدخول الجيش من الفئات العمرية المشمولة.. لم يرق هذا الأمر للقوى الكبرى وهي ترى العراق يهيمن ويسيطر على أهم مصادر النفط في العالم في الخليج العربي فقامت هذه الدول بالتواطؤ مع دول أخرى بنصب فخ الكويت ودخول الجيش العراقي إلى دولة الكويت كجيش غاز وهو مالم يكن في حساب أحد من العراقيين والعرب…الأمر الذي قلب الموازين وأدى إلى خضوع الجيش العراقي إلى مراقبة دقيقة تنفيذا لقرارات مجلس الأمن وقطع ومنع كل مصادر التسليح والتطوير عنه حتى دخول قوات الإحتلال الأمريكي إلى العراق في عام ٢٠٠٣ وقيام سلطات الإحتلال بقطع عنق أعظم وأهم حقبة تأريخية مجيدة في تأريخ الجيوش العربية بعد قراره الظالم بحل الجيش العراقي وتشكيل وحدات جديدة منه كان الولاء لسلطات الإحتلال واضحا في معطياتها.. وهيمنة الأحزاب والكتل السياسية العراقية بعد عام ٢٠٠٣ على مقدرات وصلاحيات وشؤون الجيش وتعيين قياداته على وفق إنتماءاتهم الحزبية وأحيانا العشائرية والإستغناء عن أهم العقول والمواهب لكبار القادة والضباط والفنيين العسكريين العراقيين بحجج كاذبة.. عانى الجيش العراقي الجديد وحتى كتابة هذه الصفحات من التدخل المباشر وغير المباشر في شؤونه وعلاقاته وتسليحه وتغيير إنتماءاته من وطنية إلى حزبية وكتلوية ضيقة كانت سببا رئيسا في فتح ثغرة كبيرة داخل البنيان العسكري العراقي إستغلته قوات الإحتلال الداعشي وأسقطت مدنا كبرى كالموصل وصلاح الدين والأنبار.. تحاول الحكومة العراقية الآن إعادة العقيدة الوطنية العسكرية للجيش العراقي والتخلص من الولاءات الحزبية والطائفية ومنع تسييس جيش العراق الباسل وهو يخوض في هذه الأيام حربا مقدسة قدم فيها مئات الشهداء للتصدي لقوات الإحتلال الداعشي وتحرير مدننا المغتصبة بإذن الله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here