قراءة نقدية للمجموعة القصصية ( عطر الحب ) للدكتورة غادة . م . سليم

الدكتورة / ناهدة محمد علي

أود أن أوضح للقاريء المسار الأدبي للقراءة النقدية والذي سيتنقل ما بين الإسلوب الأدبي ، الهدف من القصة ، المغزى الضمني ، الطرح الجريء لقاصة عربية .
إستعملت الدكتورة غادة سليم لغة السهل الممتنع وربما كانت قد تأثرت بإسلوب الأدب الإنكليزي أو الخلفية العلمية الجيولوجية لها . لكن هذا لم يمنع أن يكون إستخدامها للغة إنسيابياً شعرياً يكاد أن تنطبق عليه مقاييس قصيدة النثر .
لا تعطي عادة الدكتورة غادة المغزى الحقيقي لقصصها جاهزاً ، لكنها تترك القاريء يسرح بخياله باذلاً جهده للوصول إلى المغزى الضمني للقصة ، وهي تعطي للقاريء حرية الوصول إلى هذا المغزى والنتيجة قد تكون مختلفة ما بين قاريء وآخر وهذا يكاد يشبه لوحة سريالية تتوزع أجزاءها بأشكال مختلفة ثم تجتمع لتبين فحوى واحد وهدف واحد للقصة . وقد لاحظت أن قصص المجموعة قد إستوحت من الشعر إسلوبه ومن الفن التشكيلي طريقته في بسط الحقائق .
إنتهجت الدكتورة غادة نهجاً متحيزاً لإنصاف المرأة ، وأنصفتها في تبيان إنوثتها ومشاعرها ومخاوفها ورغباتها ولم تخف شيئاً منها ، وأعتقد أن القاريء العربي لا يُخجله ما يقرأ فقد طرحت القاصة العلاقة ما بين الرجل والمرأة بدون إسفاف ولم تتاجر بالغرائز بل طرحت الحقائق ممزوجة ما بين الحس الإجتماعي العاطفي والحس السياسي ببوتقة واحدة لا تزعج القاريء ولا تثير حفيظته وهو في النهاية مبهور بإنتصار الحقيقة ، لأن هذا وببساطة هو جزء لا يتجزأ من حقائق المجتمع العربي وأدق تفاصيل مشاعر الفرد العادي فيه .
تذكرني مجموعة القاصة غادة بألإسلوب الشعري لقصص الكاتبة الجزائرية الفرنسية أحلام مستغانمي وقصص زكريا تامر لكنها أعطت لمجموعتها نكهتها الخاصة .
تميز إسلوب القاصة بالنفس القصير اللاهث وصولاً إلى الهدف وهي تصدم القاريء أحياناً بما لا يتوقعه .
إن شخصية القاصة تقف دائماً وراء أبطالها فهي قد تلعب دور المرأة أحياناً أو تتقمص دور الرجل أحياناً أخرى ، ويبقى فكرها هو ما يُسيِّر الأبطال وهي تفرض ما تتوقعه من الرجل الشرقي أو المرأة الشرقية ، وقد طرحت موضوع الحب والخيانة والإخلاص بإطاره الخاص والعام فما ينطبق على العلاقة بين الرجل والمرأة ينطبق أيضاً على العلاقة بالوطن ، فالإخلاص قيمة لا تتجزأ والخيانة تتشابه .
بما أسلفت من خصوصيات هذه المجموعة أرى أن القاريء العربي يستمتع بالتفصيلات وبالسرد الدرامي وبألنفس الطويل للكاتب ، وقد إختارت القاصة النوع القصصي الذي يُمتع القراء ( النخبة ) الذين لا يحتاجون إلى الكثير من التفصيلات لمعرفة الواقع والهدف . إن القاريء العربي العادي يرغب بالعيش مع الأحداث ومع الشخصيات وأن يتقمصها ليهرب من واقعه ، وكما يحب المتحدث العربي أن يطيل بالوصف لكي يستمتع بما يصفه ، كذلك القاريء يحب أن يعلم كل شيء عن الشخصية المقروءة ويحب أن يرسم ملامحها لكي يستمتع ومشكلة الإستمتاع هي الهدف الأسمى للكثير من القراء العرب وهم ليسوا قطعاً من القراء ( النخبة ) والذين يكتفون بالقليل من التفصيلات والكثير من الإيحاءات ليصلوا بخيالهم إلى الحقيقة .
لقد عودنا كتاب الخمسينات والستينات والسبعينات مثل فؤاد التكرلي ومهدي عيسى الصكر ولطفية الدليمي على إمتصاص أحداث الشارع العربي والعراقي بشكل خاص وهي كثيرة ومتناقضة ولهذا أسبابه والتي تتركز بالوتيرة الهادئة لنمط الحياة والتي تغيرت وبشكل سريع في المجتمع العربي ، فقد أصبحت وتيرة الحياة مسرعة وغير منظمة لكنها مُتلاحقة ولا يجد القاريء العربي وقتاً طويلاً لمتابعة التفصيلات ، فأخذت القصة القصيرة تقصر وتقصر إلى أن وصلت إلى حدود ( نصف السطر ) .
إن القاصة قد عبرت سد ( يأجوج ومأجوج ) إلى العالم الغريب القاسي لتقتنص منه الحكايات الدرامية .
التميّز :
أولاً – قصة الإفتراس .
تتميز هذه القصة بمغزى عاطفي سياسي وبنقد درامي سريع مع لهاث الشخصيات الحميمي الغير مبتذل وهو جزء من الإلتزام الأدبي والقيمي للقاصة ومثلاً – أتذكرين يوم قضينا ليلة كاملة يفترس أحدنا تضاريس الآخر – .
ثانياً – قصة التلويحة .
تميزت هذه القصة بواقعية شديدة المرارة عن عنفوان الرجل الشرقي وضعفه في آن واحد وعن خذلانه لمن يؤمن به ، وتكشف القاصة أيضاً عن ضعف المرأة الشرقية وعن رضاها به فتقول – ألا تعلم بأن جناحيْ قد قُصا منذ زمن بعيد – . وتعكس هذه القصة إحباط المرأة وشعورها نحو منقذها فتقول – تلفتُ من حولي بحثاً عن ذاك الذي جئت أنشده ، فلاحَ لي وجهه عبر النافذة من خارج المبنى وهو يلوح لي مودعاً –
ثالثاً – قصة كرة الأماني .
تعكس القاصة هنا أيضاً إحساس الإحباط ما بين المرأة والرجل وكيف تبني المرأة العربية آمالها على الرجل ثم تتحطم هذه الآمال فوق الكبرياء وهشاشة الشخصية . تقول القاصة عن بطلتها – كانت حياتها مؤجلة ، ترتجي أن يأتي يوم وتتحقق تلك الأماني – – كان في كل مكان حيث آمالها ترتطم وتتمزق أشلاء وهو يعلو مسرعاً لاهثاً يحاول أن يلتقط الكرة وينظر إليها من بعيد . عندها أحست أنه لن يكون حبيباً وإنما كان الجلاد – .
رابعاً – قصة روبوت .
تحكي قصة روبوت مشكلة الكثير من الشباب العربي المتعرض للضغط الإجتماعي والسياسي حتى يتحول إلى فصيلة المتحجرات ، تقول القاصة على لسان بطلتها – لكنها كانت تعرف أنه يداري ويغالط ، إذ لمحت مرة ترقرق الدموع في عينيه عندما حدق بالخارطة وإرتسم إسم مدينته البعيدة في جبهته وتذكر حياته السابقة والموتى لا يبكون – . وهنا تتحول الدراما العاطفية إلى دراما سياسية . وكان الوصف القصصي هنا وصفاً جمالياً أخاذاً لحالة حب سرابي . وإسترعى إنتباهي أيضاً الوصف الملون في قصة الشفق القطبي .
خامساً – قصة عطر الحب .
أعطت القاصة لحالة الحب الغير نمطي بين البطل والبطلة سرداً جميلاً ، إلا أن البطل يظل مركز الضعف في الحبكة الدرامية رغم قوته كما حددته القاصة . تقول القاصة على لسان بطلتها – عندما تحدثنا أحسست كألذي يعتمد على قاموس الجيب الصغير … وفجأة ينفتح أمامه قاموس أُوكسفورد الشهير – . وهنا توضح القاصة عشق المرأة لمن يختزلها فهو الرجل القوي والحكيم وهي المرأة الضعيفة ، وهنا المرأة تريده الأقوى ولا تغضب إلا للخيانة وكل ما عداه يسعدها . إن مشاعر المرأة الشرقية متناقضة مع قوتها ومهزوزة رغم تجذرها ، وحاولت القاصة هنا أن تلقي الضوء على هذه المشاعر . وقد نجحت برأيي في جميع قصص المجموعة أن تكشف كشفاً أزلياً خضم المشاعر الجياشة العاطفية بجزأي المجتمع العربي واللذين يُفترض أن يتكاملا لكنهما في تناقض مستمر . وقد أبرزت الدكتورة غادة سليم في مجموعتها عنف الأحاسيس الإنسانية مستوحاة من عنف البيئة العربية وأوضاع المجتمع العربي ، وقد أمسكت القاصة بأدق المشاعر لتضعها في بوتقة تغلي وهي جزء من غليان المجتمع العربي . والذي يلفت الإنتباه أن الإستخدامات الشعرية الإنسيابية قد جاءت لتصب الماء البارد فوق الصهر الإنساني لمشاعر وهموم المرأة والرجل في المجتمع العربي . وكان إستخدامها للشعراء ولنُبذ من قصائدهم في مقدمة كل قصة .
ولكي تؤكد الدكتورة غادة إسلوبها الشعري كتبت في بداية مجموعتها القصصية كلاماً جميلاً راق لي وبهرني :
إليكم حكاياتي
أمنياتي
أشجاري
أزهاري
فراشاتي
تعوم ببحر من الألم
فمن يلتقط الوجع
كان هذا بالنسبة لي مُلتقطاً للوجع ، ثم أدرجت الدكتورة غادة في بداية كل قصة مقطعاً شعرياً لشاعر ما وبدأت ( بمي مظفر ثم جولي بوك ، يوسف الصائغ ، بدر شاكر السياب ، دنيس ستون ، كريم جخبور ، ريم قيس كبة ، لميعة عباس عمارة ، محمود درويش ) .
وقد أبدعت في نهاية قصة خيانة حينما تحدثت بإسلوبها الشعري عن حب يذوي رماداً بعد أن كان ناراً بقولها :
لو كان هناك حارس يحرس أصابعك
لو كان هناك جلاد يحصي أنفاسك
لو كان هناك مارد يقتفي آثارك

لما غفرت لك كل هذا الغياب
لقد عممت القاصة مشكلة الخيانة والإخلاص في جميع قصصها لكنها تفننت في إيجاد الهدف وفي تحريك الإسلوب على مستويات مختلفة مفعمة بعطرها الشعري الفواح .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here