ولاية الفرات… ملاذ البغدادي الأخير

مصطفى حبيب

ينما الجميع منشغل في الأزمة السياسية بين بغداد وأربيل حول كركوك شمال البلاد، تسير أرتال عسكرية غربا استعدادا للمعركة الفاصلة ضد تنظيم “داعش”، ولكنها ستكون صعبة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر.

في آخر إصدار مرئي أصدره “داعش” مطلع الشهر الحالي يكشف بشكل واضح عن محنة المتطرفين، استعرض خلاله عددا من قتلاه معظمهم من أوزباكستان وهم أكثر مقاتلي التنظيم قوة وخبرة في القتال، وحاول التنظيم خلال مقطع الفيديو كسب عواطف مناصريه مستعرضا أطفال قتلاه وهم يؤكدون على مواصلة مسيرة آبائهم.

وبالنظر الى خريطة نفوذ “داعش” في العراق الآن فهي تشير أيضا إلى الخسارة الفادحة التي تكبدها على مدى السنوات الثلاث، فبعد ان كان يحتل نحو ثلث مساحة العراق في الأنبار وصلاح الدين والموصل، لم يتبق لديه سوى بلدتي راوه والقائم في أقصى الحدود الدولية بين العراق وسورية.

ومنذ أيام تسير عجلات عسكرية تابعة الى الجيش العراقي على طريق طويل نحو قاعدة “عين الأسد” اكبر معسكرات الجيش في الأنبار استعدادا لاستعادة السيطرة على البلدتين برغم انشغال الحكومة في الأزمة المتفاقمة مع إقليم كردستان والتوتر الحاصل في مدينة كركوك.

بالتزامن مع التعزيزات العسكرية البرية، كثف سلاح الجو العراقي وطائرات “التحالف الدولي” غاراته الجوية على بلدة القائم وألقت طائرات أخرى منشورات تدعو السكان هناك إلى الابتعاد عن مقرات المتطرفين في مؤشر الى قرب العملية العسكرية البرية.

وأعلنت وزارة الدفاع العراقية أن احدى غاراتها الاحد الماضي تمكنت من قتل قادة بارزين في التنظيم بينهم ابو عمر العراقي إحدى قيادات الخط الأول في سوريا، وابو مهند الحلبي مسؤول الشرطة الإسلامية في منطقة البو كمال والقائم، وأبو سعيد المصري مسؤول ديوان المالية في بيت تابع إلى ديوان المالية في منطقة البو كمال.

ولكن المعركة المرتقبة لن تكون سهلة، وتختلف عن معارك الرمادي والفلوجة وتكريت والموصل والحويجة، هذه المرة ستكون ارض المعركة صحراء شاسعة لا مدنا مأهولة، وستخوض قوات الامن العراقية أول اختبار حقيقي في بيئة قاسية ومكشوفة.

النائب عن محافظة الأنبار شلال عبيد يقول لـ “نقاش” إن “معركة القائم ستكون حاسمة في القضاء على المتطرفين في الأنبار، ربما لن تكون المعركة سهلة بسبب وقوعها على الحدود، ولكن امن الأنبار والعراق مرتبط باستعادة السيطرة عليها باي ثمن، فليس من المقبول ان تبقى الحدود الدولية بين العراق وسورية تحت سيطرة المتطرفين الى وقت أطول”.

في آب (اغسطس) عام 2014 فاجأ “داعش” العالم بإلغائه حدود معاهدة سايكس بيكو، ودمر السواتر الترابية الحدودية بين العراق وسورية ليعلن عن اقامة مدينة جديدة باسم “ولاية الفرات” تمتد من مدينة “البو كمال” السورية الى مدينة “القائم” العراقية، لتصبح المدينة الأشد تحصينا وأمنا لـ “داعش” لاعتبارات جغرافية.

جيش المتطرفين

عند بلدة “البغدادي” في الأنبار يقود عبد الكريم الفهداوي فصيلا مسلحا من ابناء العشائر شاركوا في منع المتطرفين احتلال بلدتهم في قبل عامين بعد حصار فرضه “داعش” لأكثر من ثلاثة اشهر، واليوم يبدو متحمسا للمعركة المقبلة على رغم اعترافه بصعوبتها.

يقول الفهداوي لـ “نقاش” “هناك جيش من المتطرفين عند الحدود، فمقاتلو التنظيم الذين خسروا المعارك في الرمادي والفلوجة والموصل تجمعوا هناك، وانضم إليهم الهاربون من مدينة الرقة في سورية قبل أيام، وكذلك المقاتلون الذين نقلوا من مناطق القلمون على الحدود السورية اللبنانية بموجب الصفقة التي أبرمت بين حزب الله اللبناني وداعش”.

ويضيف أن “ولاية الفرات هي آخر منطقة جغرافية يسيطر عليها داعش في العالم، ولم يعد أمامه اي مهرب، ولهذا نتوقع أن يقاتل حتى النهاية، ربما تستغرق المعارك بعض الوقت بسبب الطبيعة الجغرافية الصحراوية ولكن هذه المنطقة ستكون مقبرة المتطرفين في النهاية”.

واختار “داعش” هذه المنطقة لتكون المقر السري لقادته، حيث توجد اكبر مصانعه للعبوات الناسفة، وفيها يتم استقبال المتطوعين الى صفوفه من جميع أنحاء العالم، وتحوي أهم معسكرات التدريب، وفيها يعقد قادة “داعش” في العراق وسورية اجتماعات دورية لمناقشة أوضاع دولتهم.

ويؤكد ضابط في استخبارات وزارة الدفاع ان زعيم “داعش” ابو بكر البغدادي موجود في هذه المنطقة الآن، ويقول لـ “نقاش” مفضلا عدم الإشارة الى اسمه ان “تقارير استخباراتية عبر مصادرنا هناك تشير إلى أن المدينة تشهد منذ أيام إجراءات أمنية مشددة وغالبا ما يفرض حظر التجوال لساعات في بعض المناطق وهو ما يعني تواجد البغدادي هناك قادما من الرقة التي خسرها التنظيم قبل أيام خلال المعارك ضد قوات سورية الديمقراطية”.

عوامل جغرافية

تضم مدينة القائم ثلاث بلدات صغيرة وهي “الرمانة”، “الكرابلة”، والعبيدي”، ويشطرها نهر الفرات الى قسمين وتتقاسم قبيلتان النفوذ في المدينة وهما “البو محل”، و”الكربولي” ولها امتدادات عائلية مع العشائر السورية في البو كمال، وهاتان القبيلتان تخوضان صراعا على النفوذ في المدينة.

والسبب المباشر الذي جعل “داعش” يختار هذه المدينة بالذات لتكون آخر قلاعه الحصينة ومقرا لقادته، ومكانا لعد الاجتماعات ووضع الخطط هي طبيعتها الجغرافية، إنها منطقة زراعية خصبة وأجوائها معتدلة وتنتج الحبوب والحنطة والخضراوات ولا يمكن محاصرتها بالأغذية لأنها مكتفية ذاتيا.

ولكن الأمر الأكثر أهمية في الجانب العسكري احتواءها على مساحات صحراوية شاسعة غير مأهولة وفيها تلال وهضاب وشقوق ارضية تصلح كمخازن للأسلحة، وأنفاق طبيعية تمتد لعشرات الكيلومترات، ويستطيع مقاتلو “داعش” الانتقال من مدينة “القائم” الى الاراضي السورية عبر هذه الأنفاق دون ان تلاحظهم الطائرات المقاتلة او الطائرات بدون طيار الخاصة بجمع المعلومات.

ويقول قاسم العيثاوي احد شيوخ عشائر الانبار لـ “نقاش”: “صحيح ان قوات الامن تسيطر على مراكز المدن الستة الرئيسية (الرمادي، الفلوجة، هيت، الرطبة، حديثة، عانة) في المحافظة ولكن المتطرفين يسيطرون على الصحراء الشاسعة المحيطة بهذه المدن، وهنا يكمن الخطر”.

ويضيف ان “تأمين الصحراء عنصر أساسي في المعركة المقبلة وهي مهمة شاقة حتى القوات الأميركية واجهت صعوبة في ذلك عندما كانت تحتل البلاد قبل عام 2011 عندما كانوا يستخدمون طائرات الاباتشي ودوريات أرضية والأقمار الصناعية، والآن المتطرفون استعدوا جيدا لمعركة القائم واستغلوا الصحراء طيلة السنوات الثلاثة الماضية لبناء معاقل سرية لهم”.

مصيدة الجيوش

المشكلة الرئيسية التي ستواجه الجيش هي المسافة البعيدة لمدينة “القائم” عن القواعد العسكرية، وان اقرب قاعدة عسكرية للجيش تبعد من القائم (150 كلم) وهي قاعدة “عين الأسد”، واذا قرر الجيش تنفيذ هجوم بري فان هذه المسافة الطويلة في طريق صحراوي ستنهكه وتعرضه الى استنزاف خلال الطريق عبر هجمات مفاجئة يشنها المتطرفون الذين يتخفون على طول الطريق.

وما سيجعل المعركة المقبلة مختلفة تماما عن معارك الموصل والفلوجة وتكريت، ان ميدانها سيكون على الحدود مع سورية، وسيمنح ذلك ميزة للمتطرفين بالهرب هناك لبعض الوقت ومن ثم العودة مجددا، لان القوات العراقية لا تستطيع تأمين الحدود الطويلة مع سورية والبالغ طولها (600 كلم).

والمعارك من اجل الحدود ليست عسكرية فحسب وإنما سياسية أيضاً، والمعركة المقبلة تتطلب تنسيقا بين العراق وسورية اولا، ومن ثم تنسيقا مع الولايات المتحدة وإيران ثانيا، اذ تسعى إيران لإيجاد طريق بري بينها وبين حليفتها سورية منذ سنوات، بينما تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها على منع حصول ذلك بأي ثمن.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here