السيستاني إذ يفصل بين الوطنيّة والكراهية والمغامرة

فخري كريم

خرج المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، عبر خطبة ممثله في كربلاء يوم الجمعة الماضي، بما يراه حصانة للعراقيين في لحظة انفلات المشاعر والضغائن وتصاعد أدوار المشتبه بوطنيتهم المحرضين من وراء ستار خيباتهم لتصديع إرادة الوطن والتمكّن من إمرار مغامرتهم اليائسة بالانقلاب على الدستور، في الرد على مخالفته، وخلط الاوراق وإسقاط الأمل بإمكانية استرجاع المبادرة والاحتكام للعقل والحكمة.

إنها ليست المرة الاولى التي يثبت فيها السيستاني أنه مرجع كل العراقيين، خلافاً لأولئك الذين يناكفون مرجعيته في كل سلوكهم وأدوارهم ونهجهم السياسي. وكما في منعطفات خطيرة واجهتها البلاد سابقاً، أقدم السيد هذه المرة أيضاً على وضع النقاط على الحروف في تحديد سبل مواجهة المخاطر التي تعصف بالبلاد، وفي وجهة حل الإشكالات والاختلافات باعتماد الحوار، والانطلاق من الحرص على الوحدة الوطنية، وتجنب كل ما يصدعها ويعمق مظاهر الافتراق.

وهو إذ يؤكد على سقف الدستور ومراعاته في معالجة الخلل والاختلاف والحفاظ على وحدة البلاد، لا يفوته التنبيه الى أن تحقيق الاهداف الوطنية منوط بالتزام الجميع بالثوابت وعدم التجاوز عليها، واذا ما تطلب ذلك إجراء تغيير فلابد ان يجري في إطار ما يحدده الدستور من مسار وضوابط لأي تعديل. وهو بذلك يشير الى ما يريد البعض من تجاوز كيفي على الدستور، تحت تأثير الهيجان وصيحات الثأر والوقيعة من تلك الاوساط التي تبطن عدم الولاء والتبعية لمرجعيته، بل إنّ بعضها يجهر بمثل هذا الموقف، مستفزاً مشاعر العراقيين والشيعة منهم على الأخص ممن يجدون في السيد مرجعهم الأعلى.

والسيد السيستاني يقتفي أثر إمامه على بن أبي طالب الذي يفصل بين مقتضى الدين وألاعيب السياسة، حتى حينما كان خليفةً للمسلمين، بخلاف ما هو عليه نهج القيادات السياسية الحالية التي لا تتورع عن الانغماس في “كل عارٍ باعتباره ليس عيباً” ما دام يحقق لهم مطامعهم ويغطي على سوءاتهم ويحمي مفاسدهم ومصالحهم ويغطي على ارتكاباتهم الاجرامية بحق العراقيين.

بتوجيهه الكرد بالعمل على وحدة صفوفهم، والحفاظ على العراق الموحد، وحل مشاكلهم مع الحكومة الاتحادية تحت سقف الدستور، يظهر السيد السيستاني مرة أخرى انه يقف على مسافة واحدة من جميع العراقيين على اختلاف مكوناتهم ومشاربهم السياسية والفكرية، وهو ما فعله بوضوح إبان المواجهات الطائفية التي كادت أن توقع البلاد في الحرب الاهلية، وكذلك تصديه لأولئك الذين أوقعوا البلاد في سلسلة لم تنقطع حتى الآن من الازمات المستدامة على كل صعيدٍ وميدان وطني من دون رادعٍ يضع حداً لعبثهم ومحاولاتهم للاستفادة من كل فرصة لتحقيق أطماعهم على الضد من الإرادة والمصالح الوطنية العليا.

لقد بات واضحاً أن البعض من رموز الفساد وتخريب العراق، وجُلّهم من حملة الجنسيات الأجنبية، يجدون في إجراء الاستفتاء في كردستان من طرف واحد رغم المعارضة الداخلية والخارجية، كفيل بتمزيق الدستور وحرقه وإحكام السيطرة على مقدرات العراق والتعتيم على ذاكرة العراقيين لنسيان جرائمهم وسرقاتهم ونهبهم، والتفرغ لتقاسم مغانم الحرب الجديدة، والسعي للدفع بهذا الاتجاه، مع أنّ إعادة انتشار للقوات الاتحادية في المناطق المتنازع عليها قد جرى الاتفاق عليه سلفاً.

ومن هنا تأتي الأهمية الاستثنائية لتوجهات السيد السيستاني وتأكيده على حماية وحدة العراق، باعتماد سقف الدستور، وباتباع الأساليب السلمية. وهذه الدعوة تأتي لتردّ بوضوح على مروجي الكراهية والاحقاد وإهراق دم العراقيين ولتجعل من هؤلاء، اذ يخالفون هذا المنهج الديني الوطني، في خانة المتآمرين على وحدة العراق والقيم الوطنية للعراقيين بعربهم وكردهم وتركمانهم، مسلمين ومسيحيين وإيزديين وصابئة وسواهم.

إنّ السيد السيستاني، بخطاب وكيله، رفع الغطاء عن القادة الذين يتعاملون مع السياسة كمهنة لا تعتبر العار عيباً ، ويميزهم عن الوطنيين الذين يتمسكون بالمصالح الوطنية العليا، ويعتبرون كل ممارسات مُمتهني السياسة من النهب والسرقة ومصادرة الإرادة ولجان الاحزاب لتحصيل “الكوميشن” والتلاعب بالشعائر الدينية والمذهبية والتبعية للأجنبي، أياًّ كان، .. عيباً وعاراً.!
نقلا عن “المدى”

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here