المرأة ….

ياسين النصير

Aldiwan22@hotmail

صاحبت المرآة الإنسان منذ وجوده على الأرض، ولم تغادره حتى وأن تخلى عنها، فهي “الآخر” الذي أنظر في وجهه، فيرسم لي معالمي، وهي ذاتي الأخرى التي تختزن تحولاتي، لذلك لايمكن الأستغناء عنها. أول مرآة طبيعية كانت بحيرة ماء رأى نرسيس فيها وجهه فأحب نفسه، وآخر مرآة تقنية رأت الشعوب فيها عالمها مطويًا في ثوان هي شاشة الموبايل، وما بين المرآتين ثمة آلاف الأشكال الأخرى من المرايا، أهمها تلك التي اعتمدتها شهرزاد وهي تروي حكايتها لشهريار على مدى ألف ليلة وليلة، فتغير في كل ليلة مرآتها كي لا يتعرف على حكايتها. والمرايا الأهم عندما كسرَّ السياسيون الطائفيون المرآة العراقية، ليحتفظ كل واحد منهم بكسرة منها، فلا يرى فيها إلا وجهه مدعيًا أنه يرى العراق.

طلب ريتشارد الثاني – مسرحية شكسبير- بعد أن أُنتزعَ التاج عن رأسه، مرآة ليرى وجهه، ألقى عليها نظرة، وحطمها. لقد رآى فيها شيخًا يرتجف. ولكن الوجه كان وجهه، وجهًا إنتمى يومًا إلى ملك، كان يعتقد أن الملك لايمكن أن يكف عن كونه ملكًا، تمامًا كما الشمس لايمكن أن تكف عن الأشراق. ففكرة الملكية الخالصة فكرة أن تكون حاضرة بعنفوانها في مرآة المجتمع، من هنا تنشأ تلك الحاجة لدى الملوك والامراء والسلاطين ورجال السلطة إلى حاشية كي يرى وجهه في مراياهم. ولكن ريتشار بتحطيمه المرآة، حطم أي أمل بعودة وجهه ثانية، فالتحقير يجري شيئًا فشيئًا، درجة فدرجة.لأن المرآة ليست إلا بهلولًا وقد عاصرت الملوك: لير، ريتشار الثاني، هملت، ماكبث، يوليوس قيصر، فجردت جلالتهم من قدسيتها.

بالطبع ستستقبل المرآة وجها ملكيًا آخرَ، هذا شأنها، دائمًا تكون في الصدارة وتقف بعناد وشموخ أمامنا، وسترى وجه الملك الجديد برؤيتها الخاصة، لا كما يراه هو، إنما كما يحب أن يكون عليه، كل رؤية لوجه في مرآة ما ثمة عداد يحصي السنوات، هذا الوضع المرآوي دفع ميرلوبونتي إلى البحث عن اللامرئي في الأشياء التي تعرض أمام المرآة، ليستخلص موقفًا غاية في الأهمية، وهو أن المرآة ليست شيئًا جامدًا ولا هي من دون إحساس، إنما هي كائن يحدد من أنا.

ستستقبل أمرأة القرية وجهها في أول الليل بمرآتها الذهبية الصغيرة الممتلئ سطحها بغبار الحكاية تنتظر فيها عمّا يمكنه أن يضيئ عتمتها الروحية، ووسط آهات فتاة القرية، يتراءى وجه حبيبها وهو يقطع الطريق من جبهات القتال، من قصباء في الأهوار، من بحار السفر، قادمَا يحث الخطى نحو عينيها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here