رضينا بـ(عاكوب) و(عاكوب) ما رضا بينا !

نوزت شمدين
عندما ذهب عبد المنعم الأمير رئيس اتحاد ادباء نينوى اول مرة الى مكتب
المحافظ ( نوفل العاكوب ) وأودع هناك طلبا ممهوراً بتوقيع بشار الكيكي
رئيس مجلس المحافظة لتوفير مكان خاص بالأنشطة والفعاليات الثقافية في
الموصل، قابله مدير المكتب بوجه مفتوح فيه شارع ابتسامة. تطير محلقة فوق
لحم رأسه منزوع الشعر حمامات سلام وفراشات محبة، ويظهر من النافذة خلفه
جدار مدرسة مقابلة مطلياً بالأبيض للتو ومبشراً بعهد عاكوبي جديد.
وعد بصوت احتفالي وسط حشد من المراجعين بأنه سيقاتل من اجل وضع الطلب
امام جناب شيخ عشيرته وولي نعمته المحافظ. ثم نزع قلماً من كتف بزته
العسكرية وخربش بحروف كبيرة هامشاً على الطلب، ثم رن صدره إثر ضربة من
قبضته قائلاً بنبرة عسكرية:” جماعتنه يكاونون بالجانب الأيمن من
الموووصل، واحنا نكاون هينة علمود نرجع كلشي بمكانو مثل ماجان”.
كادت ان تقفز دمعة من عين عبد المنعم وهو يلتقط بنظرة خاطفة ذلك التأثر
الوطني الذي اخذ ينمو على وجوه المراجعين. بدده مدير المكتب بإشارة حازمة
من سبابته االموجهة الى الخارج، ثم أكمل احتفائه برئيس اتحاد الأدباء:
” من اول يوم انطلقت بيه عمليات تحرير الأيسر والقائد ما ينام”.
جفل عبد المنعم عندما سمع كلمة ( قائد ). إذ شعر في لحظة فلاش باك خاطفة
أنه في مقر قيادة قطر حزب البعث في الفيصلية أيام القائد الضرورة، وليس
في بناية دائرة بحوث الموارد المائية في حي المصارف والتي استولت عليه
المحافظة وجعلتها مقراً بديلاً لها.
ذكر وهو يسحب جسده المكبوس على شكل مربع من خلف مكتبه بأن المحافظ وبسبب
فارق التوقيت مع الولايات المتحدة الأمريكية صار يقضي الليل بطوله في
مداولات الحرب مع المستشارين العسكريين الأمريكان. ” مع هذولة
جماعة……..” ثم طقطق بأصبعين ناحية الباب فظهر من خلال فرجته رأسٌ
حليقً مندفعاً مثل عصافير الساعات:
” المريانز ” !!.
” إي المريانز ” !!. تذكر مدير المكتب وأضاف بان المحافظ أطال الله عمره
يوزع ساعات نهاره الثمينة في تنظيم شؤون المعارك وإحكام نهاياتها السائبة
وإيكال المهام وإسنادها الى قوات الجيش والشرطة الاتحادية والحشد
والبيشمركة.
ثم التفت الى اليمين فجأة حيث صورة المحافظ معلقة على الجدار تظهره ببزة
الدروع وتستريح على صلعته الواسعة لمعة شمس العرضات المحرقة: ” خطية،
كاظيها الليل بالانكليزي، والنهار بالعربي والكردي، وجاي يطكطك هالايام
بالمسيحي مع جماعة نابليون”.
كان عبد المنعم منتصباً بوضعية الاستعداد مسجلاً نصف متر طولٍ لصالحه على
حساب مدير مكتب المحافظ الذي وقف امامه مباشرة طالباً منه بهدوء دبلوماسي
حسب مقتضيات بروتوكول مابعد التحرير من داعش. ان يتفضل الى شأنه وأنه
سيتصل به شخصيا لرد الأجابة. ولن (يصير خاطره إلا طيباً).
بعد نحو أربعة أشهر، راجع رئيس اتحاد الأدباء مقر المحافظة مجدداً ليفاجأ
بمدير المكتب وقد أرتدى ثياب السلام مع ربطة عنق وردية، تطفو فوقه سحبٌ
من رائحة عطر شانيل الفرنسي( Toilette). وقد أبدِلت صورة المحافظ بأخرى
مرتدياً فيها ثياب عمل زرقاء قابضاً على مجرفة بكلتا يديه ووجهه مكسو
بحبات عرق. فيما ارتفعت خلفه تلال نفايات ورقاب أفراد الحماية المتأهبين.
أحتاج عبد المنعم الى ربع ساعة انتظار لحين انتهى مدير المكتب من حركته
الالية في توقيع الكتب والطلبات المصطفة امامه على شكل أعمده. سمعه
يتأفأف بين الطلب والآخر ويردد مثل ببغاوات سوق ألأربعاء : ” أنعل أبو
اللي جابنا على هاي الشغلة”.
عندما لمح عبد المنعم اول مرة ظنه واحداً من أفراد حماية العاكوب يريد ان
يدوخه بطلب (نزلة )، لكنه تذكر من خلال حساب بصري سريع لطول القامة أنه
رئيس من قال عنهم المحافظ ذات يوم ( مسقفين) ! .
سأله رئيس الاتحاد بأدب الأصبوحات الشعرية ورقة أماسيها: ” أردت التأكد
من رد السيد المحافظ بشان الطلب”.
“أي طلب؟ “.
“الذي جلبته من مجلس المحافظة قبل اربعة أشهر بخصوص ……..”.
قاطعه مدير المكتب بغضب :
” آهوووو، ليش ما راجعت بوكتها ؟ “.
“انتظرت اتصالا من جنابك”.
“المحافظ ماعندو وكت لهاي الشغلات، يمعود دورولكم على غير سالفة، قابل
انتو احسن من جماعة دائرة الاحصاء اللي كاعدين بكرفانات”.
طلب منه عبد المنعم بهدوء مقابلة المحافظ. كرر ذلك مرتين او ثلاثة. وبدلا
من الرد عليه. سحب مدير مكتب المحافظ عمود اوراق آخر وراح يوقعها بذات
الآلية متجاهلاً برج الحريق الذي آل اليه عبد المنعم من الغضب.
– لست هنا لأتوسل لقاء المحافظ، هنالك طلب رسمي من مجلس المحافظة وعلي ان
التقيه لأعرف رده. قال رئيس الاتحاد، فأجاب مدير المكتب دون ان يرفع
رأسه:
– راح يطلع بزيارة رسمية. خذ موعد، وما تجي الا ومعاك وفد.
ثم ضحك وهو يكمل:
– من المسقفين.
أرتفع صوت عبد المنعم وهو يرد على سخريته غاضبا:
– كلام مثل هذا هو الذي جلب داعش الى هنا. ولو كان هنالك اهتمام في هذه
البلاد بالثقافة و(المسقفين) ما جلست أنت على هذا المكتب. ولا صاحبك في
تلك الغرفة. وأشار برجله الى الباب المؤدي الى غرفة المحافظ على يساره.
أراد مدير المكتب أن يقول شيئا لكن عبد المنعم واصل كلامه بذات الحدة:
– ما نفعله نحن ألأدباء ليس ترفاً ولا من كماليات الحياة كما يسخر من هم
على شاكلتكم. نحن ذاكرة المكان وإشراقته الحضارية وما نقوم به يؤشر على
عودة الموصل ونينوى الى الحياة، وتبييض ما سودتموه بأفعالكم وصراعاتكم.
لذا ما نطلبه ليس منة منكم، بل هو حق نؤدي بواسطته خدمةً عامة تعود
بالنفع للمحافظة بكل ما فيها من نسيج وتنوع.
عاد الشارع ليفتتح مجددا في وجه مدير المكتب ولكن دهشة هذه المرة وهو
يتابع رئيس اتحاد الادباء يجر خطوته الواسعة عبر الباب مغادراً. فيما كان
جسد شاب يلوح خلفه عبر النافذة وهو يستكمل الكتابة على جدار المدرسة بخط
طلاء أسود عريض: ” رضينا بـ(عاكوب) و ( عاكوب ) مارضا بينا !.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here