عريضة البصرة الإنفصالية سنة 1921

عـلاء لازم العـيسى

(1)

لم يكن مســــــــــــــــــــــــــــــــاء يوم (23/6/1921 م ) وهو يوم وصول الأمير فيصل بن الشريف حسين إلى البصرة لغرض تتويجه ملكاً على العراق يوماً مشهوداً عند أهلها ، فقد كان رسمياً أكثر منه جماهيرياً ، حيث استقبله ممثل المندوب السامي جون فيلبي ومستشار وزارة الداخلية ، وجعفر باشا العسكري وزير الدفاع ، وأحمد باشا الصانع متصرف البصرة ، ونحو 120 شخصا فقط يمثلون وجهاء بغداد والبصرة ، وأسباب هذا الاضطراب في الرأي العام البصري وعدم الاكتراث من قبلهم بملكهم المرتقب ، هو وقوع بعض الأحداث التي تزامنت مع قدوم الأمير والتي تمثلت بنفي الانكليز للمنافس الأقوى لفيصل على عرش العراق وهو السيد طالب باشا النقيب ، وانسحاب المنافس الثاني وهو الشيخ خزعل الكعبي رغم إرادته من حلبة الصراع ، وقد عبّر الشيخ خزعل عن انزعاجه من هذا التنصيب بعدم مشاركته في هذا الاستقبال .

أمّا السبب الثالث لعدم الاكتراث بوصول الأمير فيصل فهو قيام نفر من أعيان البصرة ووجهائها ، وذلك قبل أيام قليلة من وصوله ، بتقديم عريضة إلى المندوب السامي البريطاني السر برسي كوكس يطلبون فيها فصل البصرة عن العراق ، ومنحها استقلالاً سياسياً ، وحكماً ذاتياً تحت مظلة بريطانية ، فما هي حقيقة هذه العريضة ، وما هي النتائج التي حصلوا عليها ، ومن كان وراءهم؟.

(2)

ظهرت أولى بوادر الحركة الانفصالية ـــ قبل العريضة المشار إليها ـــ خلال اجتماع عقد بين برسي كوكس واثنين من كبار التجار وملاكي الأراضي في البصرة ، هما أحمد باشا الصانع ( نجدي الأصل ) ، وعبداللطيف المنديل (نجدي الأصل أيضاً ) ، فقد سبق لهذا المندوب أن تلقى من الصانع والمنديل عريضة فــي (20/3/1920م ) ، طالبا فيها نيابة عن أهالي البصرة ـــ بحسب ادعائهما ـــ بإدارة منفصلة للبصرة تحت الحكم البريطاني المباشر ، جاء فيها : (( فإننا نيابة عن سكان البصرة نود أن نعرض رغباتنا التي هي كما يأتي : إننا لا نرغب في أن يكون لنا أي نوع من الحكم بديلاً عن الحكومة البريطانية ، إن رغبتنا هي أن نبقى إلى الأبد في حماية صاحب الجلالة البريطانية ، وأن تعاملنا بنفس معاملتها للرعايا البريطانيين ، وأن تشملنا بمودتها وعطفها لنعيش تحت علمها العظيم وظلّها الواقي )) ، ولم تلق مطاليب الصانع والمنديل أذناً صاغية ، إلا من قبيل مكافأتهما بمنصبين في الدولة الجديدة ، فاختير الأول وزيراً بلا وزارة في الوزارة النقيبية ، واختير الثاني وزيراً للتجارة ، وكان كوكس هو صاحب الاختيار.

(3)

وفي 20 حزيران من السنة التالية 1921 سافر وفد يتكون من ستة أو سبعة أشخاص من البصرة إلى بغداد ، وطلب من السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي ( المس بيل ) أن تتوسط لهم للمثول بين يدي السر برسي كوكس لتسليمه عريضة موقعة في 13 حزيران 1921 تحمل 4500 توقيع ، تتكون من ثلاث وعشرين نقطة ، تنطوي على تقديم الحجج الداعمة للانفصال عن المركز ، مع تقديم مخطط لاستقلال سياسي مستقبلي منفصل للبصرة ، جاء في مستهلها والنقطة الأولى منها : (( إلى صاحب الفخامة السير برسي كوكس حامل لوسام إمبراطورية الهند من درجة قائد عظيم ، ووسام القديسين ميخائيل وجورج من درجة فارس ، ووسام نجمة الهند من درجة فارس المندوب السامي لأراضي العراق المحتلة ، نحن الموقعين أدناه من فئة الأغلبية الراجحة من أهالي مقاطعة البصرة ، نرجو بكلّ خضوع ، عرض آرائنا الآتية على حكومة جلالة الملك ، فيما يتعلق بمستقبل مقاطعة البصرة ونوع الحكومة الخاص بها ، والتي نرجو من حكومة جلالته أن تسمح بتأسيسها )) .

وبينوا في النقاط الأربعة التالية مدى الارتباط الوثيق بين سكان البصرة والسلطة البريطانية وحسن سلوكهم وعدم تأييدهم لثورة العشرين ، وإنهم لا يؤيدون أي انسحاب للقوات البريطانية من العراق ، وفي النقطة السابعة والتاسعة أشارت العريضة إلى موارد البصرة وضرورة صرفها على الإقليم فقط ، لانتعاشها وضمان مصالحها ، واخيراً عرضت النقاط الباقية صراحة المطالبة بالتمتع بالحكم الذاتي ، وتقديم مشروع إداري سياسي تكون فيه البصرة مقاطعة منفصلة يشرف عليها الأمير أو الملك الذي يحكم العراق ، وتحمل الدولة الجديدة اسم ( ولايتي العراق والبصرة المتحدتين ) ، ويكون للولايتين علم مشترك يرمز إلى اتحادهما ، مع احتفاظ البصرة بمجلس تشريعي منتخب خاص بها ، وختموا العريضة بعبارة : لنا الشرف أن نكون خدامكم المطيعين .

(4)

لقد كانت ردود الأفعال البريطانية كأغلبية على مشروع حكومة لامركزية أو حكومة إقليم في البصرة سلبية ، وسبباً رئيساً من أسباب إجهاض المشروع ، فقد ندد المندوب السامي كوكس صراحة بفكرة الانفصال ، وكتب إلى لندن بأن مثل هذا المخطط سيكون ضاراً بمصالح العراق ككل ، وذكرت المس بيل في رسالة لها مؤرخة في 23 حزيران 1921 بأن زعماء الوفد طلبوا منها أن تؤيد استرحامهم ، فأجابت بالنفي وعقبت قائلة : ((إن كلّ شئ تقرره حكومة صاحب الجلالة يحظى بتأييدي الخالص كخادمة من خدام الحكومة ، وحتى تأمر تلك الحكومة بما تقرره يجب عليّ أن استخدم رأيي الخاص الذي يفيد بأنّ ما يطالبون به ينافي مصلحة البلاد بوجه عام ، كما أنّ البراهين ستثبت لهم إن ذلك في غير مصلحتهم هم أيضاً على الدوام).

كما أشار إلى مشروع فصل البصرة بحكومة مستقلة لا مركزية ونستون تشرشل ، وزير المستعمرات البريطاني ، في خطاب له بمجلس العموم البريطاني ، تناول فيه مراحل القضية العراقية ، فقال : ((وكذلك قد طلب البعض فصل البصرة عن العراق ووضعها تحت إدارة بريطانية تامة ، ولا نرى أن هذا الأمر أيضاً ممكن ، لأنه يخالف مصلحة الحكومة الوطنية إجمالاً ، فسياستنا هي إنشاء حكومة عربية وطنية وإرشاد هذه الحكومة وتأييدها )) .

(5)

ومن الأسباب الأخرى التي أدت إلى دفن مشروع الانفصال في لحد عميق ، وتحويله إلى ظاهرة هامشية ، هي كون العريضة المذكورة لم تحظ إلا بدعم قلة من المتنفذين البصريين تساندهم فئة من التجار من أصول أجنبية كاليهود والأرمن والإيرانيين لا يدعمهم سند شعبي ، كما أنها جوبهت بمعارضة قوية من قبل شخصيات بصرية متنفذة سياسياً واجتماعياً ، كان أبرزها محمّد أمين عالي باش أعيان ، والمحامي محمّد زكي ، وعبدالكاظم الشمخاني ، وأحمد حمدي الملّا حسين ، وحبيب الملّاك ، وغيرهم ، وأثار المعارضون دعاية واسعة ضد حركة الانفصال بعد أيام قليلة من تقديم العريضة المذكورة إلى المندوب السامي ، حتى أنهم استغلوا مناسبة استقبال الأمير فيصل عند مجيئه كمرشح للعرش ، وعلقوا شعارين معاديين للحركة وضع الأول منهما عند مدخل منطقة العشار جاء فيه (لتحيى الجامعة العراقية ) ، ووضع الثاني عند مدخل البصرة وقد كتب به ( لتحيى البصرة جزء من العراق ) ، ثمّ شكلوا وفداً سافر إلى بغداد وقابل المندوب السامي فيها برسي كوكس ، في شهر آب من السنة نفسها ، وطرح وجهة نظره المعادية للانفصال ، وبالرغم من أنّ كوكس لم يتخذ موقفاً حاسماً تجاه القضية ، لكنه أكد لهم تفهمه لأبعاد موقفهم .

(6)

وبسبب التكتم البريطاني الشديد والمقصود على أسماء الوفد الذين قدموا العريضة رسمياً إلى المندوب السامي ، وعلى النص الأصلي لمطاليبها ، وعلى من باشر كتابة نصّها الانكليزي ، لم تنشر العريضة في الصحافة الوطنية لأول مرة إلا بعد سنة من تاريخ تقديمها ، إذ نشرتها جريدة الرافدان في عددها المؤرخ في 19 مايس 1922 وطبع أول كتاب يتطرق إلى ذكر العريضة سنة 1924 وهو كتاب ( تاريخ القضية العراقية ) من تأليف شاعر ثورة العشرين محمد مهدي البصير ، وتلاه المحامي سليمان فيضي في مذكراته ، وقد أشاروا ـــ من باب الحدس والتخمين ـــ إلى أسماء بعض زعماء الحركة البارزين ، وهم : أحمد باشا الصانع ، وعبداللطيف باشا المنديل ، والحاج عبدالسيد العويد ، وناجي السويدي ، وعبدالرزاق النعمة ، ويعقوب نواح عن اليهود ، ويوسف عبدالأحد عن المسيحيين ، وسليمان بك الزهير ، وعلي بك الزهير ، وعبود حمود الملّاك .

(7)

أخيراً ، فإنّ حركة خلق كيان سياسي منفصل عن العراق في البصرة ، والدعوة لتشكيل حكومة لا مركزية تحت مظلة بريطانية ، قد أخفقت إخفاقاً ذريعاً ، لأن أقطابها الأقوياء أخفقوا في إثارة الحماس الشعبي المؤيد لمشروعهم ، إضافة إلى انتشار أفكار الوطنية العراقية بين نخبة من شباب البصرة ، بعيداً عن المذهبية المقيتة والنظرة الإقليمية الضيّقة ، كما أن الصحافة الوطنية آنذاك حاولت ، ونجحت في محاولتها ، في إقناع أكبر عدد ممكن من العراقيين بأن عريضة الانفصال ما هي إلا عملية ( احتيال ) من قبل بعض الوصوليين المستفيدين ، لم يعرف غرضها الحقيقي سوى أشخاص معدودين يقدرون بعدد أصابع اليد ، ولم يكن على دراية حميمة بمحتوياتها الدقيقة غير إثنين فقط وهما أحمد باشا الصانع وعبداللطيف باشا المنديل ، أما أهل البصرة من الأميين والبسطاء من الناس وقليلي الخبرة ، فقد خُدعوا أو أجبروا على توقيع العريضة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here